الحرب الروسية-الأوكرانية ومبدأ التوازن في السياسة الخارجية المصرية
2023-3-4

د. معتز سلامة
* رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي
 
* المقال جزء من ملف خاص بعنوان "عام على الحرب الروسية-الأوكرانية: تحولات ومسارات".
للاطلاع وتحميل الملف كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/media/News/2023/2/22/2023-638126600356951558-695.pdf

 

شكل التوازن في إدارة العلاقات الدولية، مبدأ أساسياً في السياسة الخارجية المصرية، تأكد في موقفها خلال الحرب الروسية-الأوكرانية. ففي الوقت الذي صوتت مصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الغزو في فبراير 2022 وأدانت ضم روسيا أربع مناطق من أوكرانيا في أكتوبر، فقد حرصت وبشكل متزامن على إصدار بيانات توضح فيها خصوصية موقفها ورؤيتها للأبعاد الأخرى للأزمة غير المضمنة في قرار الجمعية العامة.

إلى أن جاء مؤتمر المناخ بشرم الشيخ في نوفمبر 2022، وأعطت مصر دفعة قوية لموقفها المتوازن، حين أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسي الدعوة إلى وقف الحرب وتسوية الأزمة سلمياً، وهو ما وضع مصر في سياق جهود الوساطة الدولية لتسوية الأزمة.

وعلى الرغم من أن مبدأ التوازن يجد جذوره في السياسة الخارجية المصرية منذ عقود، إلا أنه برز بشكل واضح بعد ثورة 30 يونيو 2013، وتأكد بشكل مبكر مع الزيارة التي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي (كوزير للدفاع آنذاك إلى روسيا) في فبراير 2014، والتي تتالت بعدها زيارات الرئيس لموسكو، لتؤكد سعي مصر لتبني نهج متوازن في سياستها الخارجية، وهو نهج استمر منذ ذلك الحين، واتجهت إليه دول أخرى بالإقليم فيما بعد.

ولقد أتى هذا المبدأ بثماره؛ ففازت مصر بعضوية مجلس الأمن عامي 2016 و2017، كما انضمت لعضوية مجلس حقوق الإنسان عام 2017، وتم انتخابها نائباً لرئيس المجلس في العام ذاته، كما ترأست مجموعة الـ77 والصين لعام 2018، وترأست الاتحاد الأفريقي عام 2019، وأعيد انتخابها عضواً بلجنة بناء السلام بالأمم بالمتحدة 2021/ 2022.

وبرزت ثمار هذا المبدأ في عام 2022، سواء في انعقاد مؤتمر المناخ COP27، أو في التوافق على مصر كمقر لاستضافة اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية لروسيا والولايات المتحدة الأمريكية BCC، لمناقشة معاهدة نيو ستارت للأسلحة النووية أواخر نوفمبر 2022، وهو الاجتماع الذي لم يعقد لاعتبارات خاصة بالطرفين الأمريكي والروسي، ولا تخص توافقهما على مصر كمقر للمفاوضات.

ومؤخراً، قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بزيارة لمصر حاملاً معه رسالة لروسيا، قام على إثرها وزير الخارجية سامح شكري بزيارة إلى موسكو في مهمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، مما يعني منح أطراف الأزمة لمصر دور مهم في البحث عن التسوية، واعترافاً منهم بموقفها المتوازن.

توازن الموقف المصري من الحرب

مثّلت الحرب الروسية-الأوكرانية نقطة تشابك بين مجموعة كثيفة متداخلة من المبادئ والمصالح، وكان على الدول أن تسير على خيط رفيع للحفاظ على مصالحها، دون أن تخالف مبادئها الخاصة أو مبادئ القانون الدولي، ولم يكن لمصر كبلد مؤسس للأمم المتحدة إلا أن تتبنى الموقف الذي يتسق مع القانون الدولي، وفي الوقت نفسه تقدير مصالحها وحسابها بدقة. وجاء الموقف المصري ليعكس خبرات الدبلوماسية الوطنية في إدارة مثل هذه الأزمات العالمية، التي تحمل قدراً هائلاً من التكاليف والأعباء، بما فيها تكلفة التصنيف والاستقطاب.  

وتكشف متابعة الموقف التصويتي في الأمم المتحدة والبيانات الصادرة عن وزارة الخارجية عقب كل تصويت، الحسابات المعقدة للموقف المصري من الأزمة، وهناك واقعتان أساسيتان في هذا الصدد: الأولى، خلال التصويت في الجمعية العامة ضد الغزو الروسي في فبراير 2022، والثانية خلال التصويت في الجمعية العامة ضد قرار روسيا بضم أربع مناطق من أوكرانيا في 12 أكتوبر.

في كلا التصويتين، حرصت مصر على التزام الموقف المبدئي القانوني، والاصطفاف إلى جانب الشرعية الدولية؛ فصوتت إلى جانب القرارين ضد روسيا وإلى جانب الأغلبية الساحقة من دول العالم، لكنها حرصت في المرتين على إبداء وجهة نظرها الخاصة في كل قرار، عبر بيان من وزارة الخارجية، يدعو للانتباه إلى خلفيات ودوافع السلوك السياسي للدول والسياقات المحفزة على الأزمات.

وفي الحقيقة، يحتاج هذان البيانان إلى دراسة خاصة، في سياق فلسفة التصويت والتوازنات الدقيقة للموقف، الذي يأخذ في حسبانه مختلف حسابات القرار، ومصالح مختلف الأطراف في سياق مبدئي أساسي.  

فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، صوتت مصر إلى جانب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس، الذي طالب روسيا بالتوقف فوراً عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، إلى جانب أصوات 141 دولة، ولكن وزارة الخارجية المصرية أعقبت تصويتها المؤيد للقرار ببيان شرحت فيه نقاطاً ستة؛ فذكر بيان الخارجية إن مصر صوتت لصالح القرار انطلاقاً من إيمانها الراسخ بقواعد القانون الدولي ومبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، لكنه أضاف أن البحث عن حل سياسي سريع لإنهاء الأزمة عبر الحوار وبالطرق السلمية يجب أن يظل هو الهدف الأساسي للمجتمع الدولي في التعامل مع الأزمة. ودعت مصر إلى بحث جذور الأزمة ومسبباتها، وأعلنت رفضها لمنهج توظيف العقوبات الاقتصادية خارج إطار آليات النظام الدولي متعدد الأطراف، ودعت الأطراف للتحلي بالمسئولية الواجبة لضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون أي تمييز، وجددت التحذير من مغبة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة على الاقتصاد العالمي برمته. ولم تنس التذكير بأهمية تناول كافة الأزمات الدولية وفقاً لمعايير واحدة وثابتة.

وفي 12 أكتوبر 2022، صوتت مصر مع القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة ضم روسيا لأربع مناطق أوكرانية، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد وقع في 5 أكتوبر على مرسوم بضم المناطق الأوكرانية الأربع.

وللمرة الثانية، حرصت وزارة الخارجية المصرية على توظيف الأزمة في بناء إطار عام للمواقف الدولية من الأزمة؛ فأصدرت بياناً عقب التصويت، أكدت فيه مطالبتها لطرفي النزاع وكل الأطراف المؤثرة، بضرورة التوصل إلى حل تفاوضي يراعي شواغل جميع الأطراف دون استثناء..، ويحقق مصالح الطرفين بشكلٍ متساوٍ. وأكد البيان على أهمية التوقف عن ازدواجية المعايير في معالجة القضايا الدولية، داعياً إلى تكريس الجهود من أجل تسوية الأزمة قبل أن تتطور إلى نقطة اللاعودة. ولم يفت البيان دعوة المجتمع الدولي إلى وقفة للتساؤل: هل كان من الممكن تفادي حدوث هذه الأزمة؟، وماذا لو كان قد تم تغليب صوت العقل ولغة الحوار؟.

وفي سياق تطبيقها لمبدأ التوازن، حرصت مصر على تحاشي أي ملمح على انحيازها في الأزمة لأي طرف، حتى ولو كان ملمحاً هامشياً، فحينما أعلنت أوكرانيا رفضها المشاركة في بطولة العالم للإسكواش (سيدات) التي نظمتها مصر في ديسمبر 2022، وأرجعت السبب إلى مشاركة مراقبين مصريين في استفتاءات انضمام المناطق إلى روسيا، نفت مصر في بيان للمتحدث باسم الخارجية بشكل قاطع أن تكون مصر أوفدت أية مراقبين لمتابعة هذه الاستفتاءات.

مبدأ التوازن في السياسة المصرية

تتبلور المبادئ الحاكمة لتوجهات الدول في السياسة الخارجية عبر فترات زمنية ممتدة، تشهد في بعضها سيادة مفهوم محدد، وقد تشهد في بعضها الآخر سيادة مفهوم معاكس، وفي فترات أخرى قد تجمع بين مفاهيم متناقضة لتشكل فترة من فترات الاضطراب والقلق، إلى أن تستقر على مفهوم يشكل جوهر سياستها الخارجية.

وتتأثر الأفكار التي تستقر عليها السياسات الخارجية بالخصائص والطبائع القومية للأمم وخبراتها في الأزمات والحروب، فضلاً عن منظومة الجهاز البيروقراطي في مجال السياسة الخارجية وتعليمه وعلاقاته الداخلية، وشخصية رئيس الدولة، علاوة على ظروف الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتحديدها لأهدافها في العالم والجوار. 

وعلى الرغم من أن هذه العوامل قد تترك تأثيرها المتباين لدى الأفراد المختلفين القائمين على السياسة الخارجية من فترة لأخرى، وقد يدرك الأفراد بلادهم والعالم بشكل مختلف، وتنعكس خبرات دولهم عليهم على نحو متناقض، فتنتهي إلى سياسات خارجية مختلفة في المواقف المتشابهة، إلا أن هذه الاختلافات تبقي على الخطوط العريضة للسياسة الخارجية. وبقدر استمرارية مبادئ السياسة الخارجية لفترة زمنية أطول، بقدر ما تصبح أكثر استقراراً وأقرب إلى العقيدة السياسية.

ذلك بالتحديد هو المسار الذي تشكل عبره مبدأ التوازن في السياسة الخارجية المصرية، على نحو أكسبها طابعاً خاصاً. وعلى سبيل المثال، فرغم اتفاق جميع الدول على مبدأ حماية الأمن القومي، فإن نهج تحقيق هذا الهدف بالنسبة لمصر يختلف عن نهج تحقيقه بالنسبة لدول أخرى، فينتهي الأمر بأن تصيغ مصر مبادئ عامة تساعد على بناء القرارات المتزنة وتلتزم بالتهدئة واستيعاب الآخرين، بينما تتبنى دول أخرى مبادئ مختلفة في التعامل مع مهددات أمنها القومي، تدفعها إلى استباق الأخطار، وربما الدخول في أزمات قد تفرض واقع الإرباك على السياق الإقليمي كله.

وتدرك مصر أنها بلد كبير، وهي الدولة الأقدم والأكثر سكاناً، وهي ليست بلداً وافداً أو مستوطناً في الإقليم، ومن ثم لا تتعامل بنظرية الهجوم الاستباقي أو الوقائي الذي تتبناه دول أخرى، وإنما تتحلى بالصبر الاستراتيجي في إدارة سياستها وقت الأزمات، وتتعامل مع عامل الزمن بآجال أطول من التعامل التي تقدم عليها دول أخرى. ولذلك ترفض مصر سياسات المحاور، التي تفرض توجهات محددة بشكل مسبق.

مكاسب مصر من مبدأ التوازن

أكدت الأزمة صواب تمسك مصر بمبدأ التوازن، وذلك ما أكده احتفاظها بعلاقاتها على الدرجة نفسها من القوة بأطراف الأزمة المختلفين، وهو ما يتضح من الخطوات التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية نحو مصر في عام 2023، سواء من ناحية استمرار التعاون العسكري وتعزيزه، أو من ناحية زيارات المسئولين السياسيين والعسكريين بأعلى مستوى (منهم قائد القيادة المركزية الأمريكية ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية، وحتى الرئيس جو بايدن ونانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، اللذين قاما بزيارة مصر خلال مؤتمر المناخ بشرم الشيخ COP27).

وكخطوات تأكيدية على ذلك، تولت مصر قيادة المهام المشتركة (153) المكلفة بحماية حركة الملاحة البحرية ومكافحة الإرهاب في مناطق البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب في ديسمبر 2022، ونفذت القوات المسلحة المصرية خلال عام 2022، 3 تدريبات بحرية عابرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتدريباً جوياً مشتركاً. وفي خطوة رمزية، احتفلت الحكومة المصرية والسفارة الأمريكية بعودة تابوت عنخ نمات (والمعروف باسم التابوت الأخضر) إلى مصر في 2 يناير 2023.

وبالمقابل، قام الجيش المصري خلال عام 2022 بالتدريب البحري المشترك "جسر الصداقة - 5" مع الجانب الروسي. وأشاد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بالموقف "المتوازن والمسئول لمصر" تجاه الأزمة في أوكرانيا، وذلك خلال زيارة وزير الخارجية سامح شكري إلى موسكو حاملاً رسالة أمريكية في يناير 2023، وأعلن الوزير الروسي موافقة بلاده على اتخاذ خطوات للجنة المشتركة الاقتصادية، وتنفيذ المشروعات الخاصة بالمحطة النووية في الضبعة وغيرها من المشروعات، وبلغ حجم التبادل التجاري في نهاية عام 2022 نحو 6 مليارات دولار، وهو أعلى مما كان عليه في عام 2021، كما أدرج البنك المركزي الروسي الجنيه المصري ضمن أسعار صرف العملات، وقرر تفعيل آلية قبول مدفوعات صفقات تصدير الحبوب بالروبل، في خطوة تسهم في تخفيف الضغط على الدولار محلياً.

وهكذا، مكّن تبني مبدأ التوازن في إدارة الأزمة عام 2022، مصر من الاحتفاظ بعلاقاتها بمختلف الأطراف، وأدى لاستقرار علاقاتها في السياق الإقليمي الذي شهد تبايناً في المواقف، وقدمت نموذجاً على الحفاظ على الرصيد المعنوي لسياستها الخارجية في الداخل، وعلى الإرث الدبلوماسي الذي يمزج بين المبادئ والمصالح، وهو أمر لم يكن سهلاً في ظل حسابات معقدة جميعها محفوف بالمخاطر، ويدعو للسير على خيط رفيع وقت أزمة دولية هددت بالاستقطاب العالمي، وفي ظل التداعيات السلبية للأزمة على الوضع الاقتصادي الداخلي طيلة عام 2022، والذي جعل مصر من أكثر دول العالم تأثراً بها.

وفي ظل توقع استمرار الأزمة الروسية-الأوكرانية خلال عام 2023، وفي ظل تطورات الوضع الاقتصادي الداخلي، فإن من المهم لمصر استمرار التمسك بمبدأ التوازن بين أطراف الأزمة، مع العمل وفق مسارين:

الأول، تعزيز الموقف الدبلوماسي وتنشيط دورها في الوساطة باعتبارها شريكاً أساسياً في تداعيات الأزمة، بل من أولى الشركاء، ومن ثم تطوير دورها في الوساطة والبحث عن شركاء داعمين ومطورين ومتبنيين لهذا الدور في السياق الإقليمي والدولي الأشمل.

والثاني، توظيف الأزمة واستيعاب دروسها في البحث عن الفرص الاقتصادية في الداخل والخارج، بحيث لا تبقى مصر مكتوفة الأيدي إزاء التداعيات الاقتصادية للأزمة الروسية-الأوكرانية، وإنما أن تطور سياساتها بما يتواءم مع الأزمة، ويوسع البدائل والخيارات في مواجهتها. 


رابط دائم: