تجديد دوائر السياسة الخارجية المصرية
2023-3-1

د. محمد فايز فرحات
* مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تعارف المعنيون بدراسة السياسة الخارجية المصرية على التمييز بين عدد من دوائر الحركة الخارجية؛ فرتب البعض هذه الدوائر في الدائرة العربية، والإفريقية، ثم الدائرة الدولية. وميز البعض داخل الأخيرة بين دائرة العالم الإسلامي، والدائرتين الأمريكية والأوروبية. لكن هذا التقسيم، وإن كان قد ظل تقسيما غير جامد، بحكم طبيعة السياسة الخارجية ذاتها، والتي تتسم بدرجة كبيرة من التداخل بين دوائرها فضلا عن وجود قضايا عابرة للتقسيم الجغرافي، لكنه شهد خلال السنوات الأخيرة تطورا نوعيا في اتجاهات عدة.

الاتجاه الأول، هو تنشيط الدوائر الرئيسية التاريخية؛ العربية، والإفريقية، والأمريكية والأوروبية، وهو تنشيط ارتبط بوجود مصالح مصرية تاريخية ومستقرة في هذه الدوائر. كما ارتبط كذلك بتزايد نشاط الدبلوماسية المصرية، خاصة بعد خروج مصر تدريجيا من حالة الانكفاء على مشكلاتها الداخلية، وهي الحالة التي فرضتها تداعيات تحولات عامي 2011، 2013.

الاتجاه الثاني، تمثل في إحياء/ استحداث دوائر حركة جديدة. وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاث دوائر أساسية، هي الدائرة الآسيوية، بما تشمله من أقاليم شرق، وجنوب، وجنوب شرق، ووسط آسيا والقوقاز، ودائرة شرق المتوسط، ودائرة الشام التي تقوم -حتى الآن- على مصر والعراق والأردن. ورغم أن هذه الدوائر هي جزء من دوائر تقليدية أوسع؛ سواء الدائرة العربية، أو الدائرة الدولية، أو دائرة العالم الإسلامي، لكن تنامي مصالح مصرية محددة في أقاليم فرعية بعينها، أو تمايز أدوات السياسة الخارجية المصرية في كل إقليم من هذه الأقاليم الفرعية، يدفع في اتجاه ضرورة التمييز بين دوائر فرعية للسياسة الخارجية المصرية. هكذا، يصبح من المنطقي تمييز دائرة وسط آسيا والقوقاز داخل الدائرة الآسيوية. كما يصبح من المنطقي أيضا تمييز دائرة الشام داخل الدائرة العربية. هذا التمييز لا ينهض على تناقض مع الدوائر الأوسع بقدر ما ينهض على وضوح أكثر للمصالح المصرية في هذه الدوائر الفرعية الجديدة.

إحياء/ استحداث دوائر جديدة للحركة المصرية الخارجية جاء نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل. أولها، القراءة الدقيقة من جانب القيادة السياسية وصانع القرار المصري لطبيعة التحولات التي تجري في هيكل النظام العالمي والتغير الجاري في موازين القوى الدولية، بهدف التأقلم مع هذه التحولات، واستكشاف التحديات والفرص التي تنطوي عليها، وصولا إلى ضمان أن تكون مصر جزءا من النظام العالمي الجديد المرتقب. ثانيها، مركزية قضية التنمية ضمن أولويات وأهداف السياسة الخارجية المصرية، إذ لا يمكن الوصول إلى فهم متكامل للسياسة الخارجية المصرية، بما في ذلك استحداث بعض دوائر الحركة الخارجية، دون استحضار قضية التنمية كمدخل مهم. واللافت للنظر في هذا السياق أيضا التكامل الواضح بين قضيتي التنمية والأمن في الحركة الخارجية المصرية، خاصة داخل الدوائر الجغرافية المباشرة. ثالثها، تنوع وتعقد المصالح المصرية في العالم الخارجي، والتي باتت تشمل مصالح نوعية جديدة مثل الاندماج في أسواق الطاقة العالمية كفاعل قادم جديد، والتأقلم مع التحولات المتسارعة التي تحدث داخل هذه الأسواق. ومن بين هذه المصالح الجديدة أيضا سعي مصر إلى تصدير خبراتها وفائض قدراتها في مجالات مثل تنمية البنية التحتية، والحرب على الإرهاب، وغيرهما من الخبرات المهمة.

رابعها، تزايد الوزن النسبي لمصر داخل النظام العالمي، وهو تحول جاء محصلة لعدد من الميزات النسبية التي نجحت مصر في مراكمتها خلال السنوات الثماني الأخيرة، بدءا من تجربتها الرائدة في مجال الحرب على الإرهاب، مرورا بالخبرات التنموية في مجالي الطاقة والبنية التحتية، الأمر الذي دفع دولا عدة إلى الالتفات إلى هذه الخبرات المصرية للاستفادة منها، وانتهاء بنجاح القيادة السياسية المصرية في الالتحاق بالخطابات العالمية بشأن العديد من القضايا الدولية، مثل قضايا التجارة العالمية، والطاقة، وتغير المناخ، والأمن العالمي. تنامي البعد العالمي في الخطاب الخارجي المصري، وتجاوزه القضايا الإقليمية المباشرة، أسهم بشكل كبير في تغيير صورة مصر في العالم من قوة إقليمية تقليدية، إلى قوة وسطى، تمتلك رؤية وخبرات محددة بشأن عدد من القضايا الحيوية في السياسات الدولية. وقد تكرست هذه الصورة من خلال المشاركة الفاعلة لمصر في المنتديات والمجموعات الدولية الجديدة، خاصة مجموعة العشرين، ومجموعة بريكس، ومؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة (سيكا)، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وحرص مصر على التعبير على مصالح فئات دولية مختلفة (الاقتصادات الإفريقية، الاقتصادات الناشئة، الاقتصادات المتضررة من الحروب والتهديدات غير التقليدية كتغير المناخ... إلخ). كما اقترن هذا الخطاب بممارسات ناجحة، كان أبرزها تجربة تنظيم مؤتمر المناخ الأخير «كوب 27».

دوائر السياسة الخارجية ليست مفهوما جغرافيا فقط، لكنها تأخذ معاني وأبعادا وظيفية أيضا؛ فالأمن العالمي، ومكافحة الإرهاب، وتصدير القدرات التنموية، والطاقة، وتغير المناخ، وغيرها، هي دوائر حركة مهمة بالمعنى الوظيفي، وتخلق فرصا كبيرة للصراع والتعاون الدولي. بل أصبحت تأخذ أنماطا للتفاعل لا تتطابق بالضرورة مع أنماط التفاعل القائمة بين الفاعلين الدوليين على مستوى دوائر الحركة بالمعنى الجغرافي. كما باتت تمثل فرصة للعديد من هؤلاء الفاعلين لتحقيق مكانة دولية. لقد نجحت مصر أيضا في استحداث دوائر حركة وظيفية بجانب دوائر الحركة الجغرافية، بل استحداث دوائر حركة جديدة بالمعنى الجغرافي استنادا إلى مجالات وظيفية (إقليم شرق المتوسط مثالا)، في تكامل واضح بين الحركة الخارجية بالمعنيين الجغرافي والوظيفي.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 1 مارس 2023.

رابط دائم: