هل يتحول دور البعثة الأممية في ليبيا من "الوساطة" إلى "الوصاية"؟
2023-2-28

أحمد عليبه
* خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

دفعت الإحاطة التي قدمها المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي المشهد الليبي نحو دائرة جديدة من الجدل السياسي بإعلانه اعتزام تشكيل لجنة توجيه رفيعة المستوى في ليبيا، مع اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023. فعلى الرغم من توافق أغلب القوى المحلية والإقليمية والدولية على العنوان الأساسي الذي يدور حوله باتيلي بإنهاء المرحلة الانتقالية، والانتقال إلى مرحلة أكثر استقراراً تقوم على أساس اختيار الليبيين لسلطة شرعية منتخبة، إلا أنه ووفق مختلف ردود الفعل على طرحه لا يتوافر الحد الأدنى من التوافق الداخلي والخارجي على جوهر مبادرته والتي تعني عملياً طي صفحة الاتفاق السياسي (الصخيرات 2016) والمسارات السابقة لتسوية الأزمة الليبية وآخرها عملية برلين ومسار جنيف، وإحلال اللجنة الجديدة التي سيشكلها محل المؤسسات الليبية المعنية بوضع القواعد والأطر الخاصة بالانتخابات والترتيبات السياسية بشكلٍ عام.

مبدئياً؛ لا يجادل كثير من المراقبين بشأن مدى تعقيدات ومعضلات الأزمة الليبية المستدامة، وبالتبعية حاجة ليبيا للخروج من دوامة الفشل المتكرر في عملية الانتقال السياسي، كما تصعب المجادلة حول مدى مسئولية النخبة السياسية الليبية عن تلك التعقيدات وهذا الفشل، واختلاط الحسابات الوطنية بالحسابات الشخصية، وفي الوقت ذاته لا يمكن تجاهل الانعكاسات السلبية للتدخلات الدولية والإقليمية في المشهد الليبي، لا سيما تلك القوى التي تستعين بأدوات عسكرية وشبه عسكرية ومرتزقة أجانب ومليشيات مسلحة. لكن في المقابل، يمكن القول إن مبادرة باتيلي تعيد تشكيل الأزمة الليبية بصورة أخرى، بدلاً من حلها، وهو ما يمكن تناوله في سياق التحديات التي تواجه هذا الطرح ومنها على سبيل المثال:

1- افتقار المبادرة للمشروعية وفقاً لقرار التفويض الأممي لولاية البعثة: حيث ينص آخر قرار أممي بشأن ولاية البعثة الأممية في ليبيا 2570 (أبريل 2021) على 11 بنداً تحدد مهام البعثة، والتي تشير إلى تعزيز العملية السياسية في ليبيا من خلال الحوار بين الأطراف، كما تشير إلى دور الدعم والتنسيق فيما بينهم، بالإضافة إلى التنسيق والتعاون بين الجهات الدولية والمنظمات الفاعلة، وفيما يتعلق بمبادرة باتيلي تحديداً يشير البند الخامس إلى "دعم المراحل اللاحقة من العملية الانتقالية الليبية، بما في ذلك العملية الدستورية وتنظيم الانتخابات".

وبالتالي فإن حدود الدور هو لوجستي يتعلق بتقديم الدعم للعملية الدستورية وتنظيم الانتخابات، وليس إنشاء الكيانات التي تتولى هذه المهمة، على حساب مصادرة أدوار المؤسسات القائمة. وفي السياق ذاته، وعلى الرغم من إشارة باتيلي إلى أنه أجرى جولات من الحوارات الداخلية والخارجية مع مختلف الأطراف، بما يفترض أن أي مبادرة يتم طرحها تقوم على أساس خلاصات التوافق بين مختلف الأطراف على الطرح، ومع ذلك يبدو من سياق الإحاطة أنه لم يطرح ملامح هذه المبادرة على تلك الأطراف التي تحاور معهم، دلالة ذلك رد فعل مجلس النواب والعديد من الأطراف السياسية المعارضة للمبادرة.

2- التحديات التي تفرضها نتائج السوابق والخبرات الليبية: وأقربها في هذا الصدد دور لجنة الحوار الوطني، والتى لم تسفر عن تقديم منجز في القضايا التي سيحيلها باتيلي إلى اللجنة الجديدة، خاصة ملف "القاعدة الدستورية" والانتخابات، حيث أفضت نتائج عمل لجنة الحوار، بل واللجنة القانونية التي انبثقت عنها، إلى تقديم أربعة سيناريوهات مختلفة في كل مرة ولم يتم حسمها وعاد الأمر إلى المؤسسات المعنية، وهي مجلسي النواب والدولة، مرة أخرى، وبالتالي فإن تشكيل لجنة فوقية تصادر دور المجلسين، رغم حالة الإحباط السائدة بسبب عدم القدرة على تحقيق اختراق في الإشكاليات العالقة في القاعدة الدستورية، سيعيد الأزمة إلى المربع الأول، بل ما قبل المربع الأول من الخلاف، فاللجنة التي سيتم تشكيلها لن تكون منتخبة على الأرجح على خلاف لجنة الحوار الوطني.

كذلك هناك معضلة من سيضع إطار عمل وآلية تشكيلها، إضافة لعدم وضوح من أين يمكن أن تبدأ اللجنة عملها، هل ستضع قاعدة دستورية كاملة، في الوقت الذي قطع فيه مجلسا النواب والدولة – رغم الإشكالية المشار إليها سلفاً – شوطاً طويلاً في حوار القاهرة، وصل إلى الأمتار الأخيرة في القاعدة الدستورية، وبالتالي يصادر هذه المكتسبات، كما أنه كان واضحاً مصادرته أيضاً لطرح التعديل الـ13 كأساس لقاعدة دستورية، بإشارته إلى أنه يفتقر لخطة زمنية وتفاصيل إجراء العملية الانتخابية.

3- تباين المواقف الدولية والإقليمية حيال المبادرة: سبق مبادرة باتيلي في مجلس الأمن لقاء للمجموعة الدولية للاتصال بشأن ليبيا (2+2+P3) والتي تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ومصر وتركيا، كما شاركت كل من الامارات وقطر، بالإضافة إلى المبعوث الأممي باتيلي، في واشنطن، لمناقشة تطورات الملف الليبي وتحديداً المستجدات المتعلقة بإجراء الانتخابات. ومع ذلك، فإن ما تسرب عن اللقاء لا يشير إلى توافق جرى فيه على خطة عمل محددة، أو حتى طرح مبادرة باتيلي للنقاش، وبالتالى طرحت المبادرة بشكل مفاجىء ومن دون تنسيق على مستوى مجموعة الاتصال.

كذلك، فإن النقاش الذي جرى على طاولة مجلس الأمن، يؤكد على فرضية التباين، فواشنطن على سبيل المثال أيدت المبادرة مباشرة، وعلى الأرجح كانت تعرف تفاصيلها قبل عرضها، بينما عارضتها موسكو، وهو سياق كان متوقعاً، من زاوية عدم التوافق الروسي-الأمريكي التقليدي في هذا الملف، ومع ذلك عرض المندوب الروسي وجهة نظر تتعلق بأن الاستعجال في العملية الانتخابية بالإضافة إلى التلميح لهندسة العملية بدون توافق محلي واستبعاد بعض الأطراف كالنظام السابق لا يصب في صالح العملية السياسية، وفي حين تحتاج خطة باتيلي إلى قرار من مجلس الأمن فمن الواضح أن روسيا ستضع "فيتو" على صدوره إن لم تضمن تحقق شروطها في الخطة.

ويؤخذ في الاعتبار أيضاً، أنه لم يحدث من قبل في هذا الملف أن عرض مبعوث أممي خطة عمل لم يتم الترويج لها دولياً. كما يؤخذ في الاعتبار مواقف القوى الإقليمية المنخرطة في هذا الملف، وتأثيرها فيه، فعلى سبيل المثال رفضت مصر المبادرة بشكل صريح، ويشير بيان للخارجية المصرية إلى أن المبادرة تقفز على المؤسسات الشرعية الليبية. ويضاف إلى الجهود المصرية التي بذلت ولا تزال في هذا السياق التقارب المصري-التركي، الذي سينعكس بشكل إيجابي في الملف.

مصير المبادرة

من المتصور أن دفع العملية السياسية الليبية يحتاج إلى مبادرة لإنقاذها، لكن إنقاذ أي عملية سياسية يتطلب دوراً أكثر فاعلية للوساطة، وحواراً للتقريب ما بين الأطراف، بينما يبدو أن باتيلي كان يجري الحوارات مع مختلف الأطراف في إطار  الاستماع فقط، ليقرر هو بنفسه لاحقاً ما الذي يتعين عمله بدون الرجوع لتلك الأطراف، وهو ما يؤكد فرضية "الوصاية"، والصيغة التي استخدمها باتيلي في الطرح تقطع بهذا السياق، حيث قال: "قررت إطلاق مبادرة تهدف إلى التمكين من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال عام 2023"، وبالتالى القرار هنا يعود له بشكل منفرد.

ومن غير الواضح ما هي مبررات الاستناد للمادة 64 من الاتفاق السياسي، حيث تشير تلك المادة إلى أنه "للحوار السياسي الليبي، بعد إقرار هذا الاتفاق، أن ينعقد استثناءً بناءً على طلب من أي طرف من أطراف الاتفاق، للنظر فيما يعتقد أنه خرق جسيم لأحد بنوده".  فالمادة هنا ووفق نص الاتفاق السياسي المنشور على موقع البعثة الأممية تشير أولاً إلى "الانعقاد الاستثنائي" للجنة الحوار، وليس تشكيل لجنة فوقية تقفز على كافة المؤسسات، كذلك فإن المادة تشير إلى أن يكون ذلك بطلب من الأطراف وليس تخويل البعثة الأممية بهذا الدور.

بالإضافة إلى ما سبق، من المتصور أن وضع خطة بهذا الشكل في المدى الزمني خلال عام 2023 أي بحدود 9 أشهر هي مسألة غير ممكنة وغير واقعية، فالعملية الانتخابية وحدها تحتاج إلى 6 أشهر للإعداد لها، بالإضافة إلى الجدل الذي سيحيط عملية تشكيل اللجنة، وإطارها القانوني ومن سيقر الإطار القانوني لها، وكيف ستترجم مخرجات اللجنة من دون العودة لأي جهة وطنية ليبية، فضلاً عن صعوبة تمريرها كقرار أممي.

إذن، يمكن القول إن المسألة تتجاوز الحكم المبكر على المبادرة بالفشل، إلى حد ما ستفرضه تداعياتها من أزمات، لا سيما فجوة الثقة التي ما بين المبعوث الأممي والقوى الليبية العديدة التي ترى فيها إما مصادرة لدورها أو مصادرة لمصالحها، فضلاً عن غموضها في التعاطي مع إشكالية السلطة التنفيذية، وربما يبدو أن عملية تشكيل لجنة لا تهدف فقط إلى القفز فوق المؤسسات الشرعية، بل ستقفز فوق مسألة الانقسام السياسي والحكومات والمجلس الرئاسي. وبالتالي تشكل لجنة سيادية غير قابلة لمراجعة قراراتها أو الطعن عليها.

ومع ذلك، قد يكون من تداعيات المبادرة لفت انتباه النخبة الليبية إلى تحديات اللحظة الراهنة، وأن هناك قوى محركة ربما تحاول فرض وصاية سياسية على الليبين، وبالتالي قد يدفع الفرقاء إلى التسريع من طي صفحة الخلافات، ومحاولة التوصل إلى حل للخروج من دائرة الأزمة. وهناك ما يمكن البناء عليه في هذا السياق، بقطع الأمتار الأخيرة في مشكلة القاعدة الدستورية، لفرض خطة عمل ليبية وليس خطة عمل دولية أو أممية لا تراعي الاعتبارات والاستحقاقات الليبية المطلوبة. 


رابط دائم: