التغير في الثقافة الأمنية في المنطقة الأورو-متوسطية
2023-2-25

د. إيمان رجب
* رئيس وحدة الدراسات العسكرية والأمنية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
 
* المقال جزء من ملف خاص بعنوان "عام على الحرب الروسية-الأوكرانية: تحولات ومسارات".
للاطلاع وتحميل الملف كاملًا: https://acpss.ahram.org.eg/media/News/2023/2/22/2023-638126600356951558-695.pdf

 

أحدثت الحرب الروسية-الأوكرانية منذ فبراير 2022 تغيرات في أنماط التفاعلات الأمنية بين دول المنطقة الأورو-متوسطية، خاصة فيما يتعلق بزيادة أهمية بعض القضايا التي لم تكن محط اهتمام هذه التفاعلات خلال الفترة الماضية وكذلك في اتجاه إعادة تقييم أدوار بعض الدول التي لا تنتمي جغرافياً لهذه المنطقة ولكن لها تأثير واضح على مجمل تفاعلاتها.       

ويمكن القول إن هذه التغيرات ليست فقط رد فعل من دول المنطقة على التدخل الروسي وما نتج عنه من تهديدات وتحديات للأمن القومي لتلك الدول أو لأمنها الجماعي، ولكنها أيضاً نتاج التغير الحادث في الثقافة الأمنية السائدة في هذه المنطقة من العالم. والمقصود بالثقافة الأمنية هي مجموعة القيم والمعتقدات التي تشكل التصورات الأمنية حول ما يضعف الأمن أو يعززه، وكذا السياسات التي تنفذ تلك التصورات والتي تهدف لتحقيق مستوى ملائم من الأمن والاستقرار.

التهديد من شمال أم جنوب المتوسط؟

امتازت الثقافة الأمنية التي تشكلت طوال السنوات الماضية في المنطقة الأورو-متوسطية بأنها تهتم بالتهديدات والتحديات النابعة من منطقة جنوب المتوسط والتي تمس أمن الدول الأوروبية على المستوى الفردي أو الأمن الجماعي، ومن بين تلك التهديدات والتحديات الهجمات السيبرانية والتغير المناخي والتطرف والإرهاب والهجرة غير النظامية وغياب الديمقراطية في دول جنوب المتوسط.

وخلال الفترة الماضية، عمل الاتحاد الأوروبي على تطوير سياسات محددة للتعامل مع تلك التهديدات والتحديات ومنها مثلاً مراجعات سياسة الجوار الأوروبي التي أعلن عنها الاتحاد في 2015 ثم وثيقة "الشراكة المتجددة مع جنوب المتوسط: أجندة جديدة للمتوسط" وخطة الاستثمارات المكملة لها والتي أعلن عنها في فبراير 2021.

وكان ما يميز تلك السياسات هو سعيها لتغيير الأوضاع السائدة في دول جنوب المتوسط حتى لا تكون مصدر تهديد للأمن الأوروبي من خلال برامج عدة منها الإصلاح المؤسسي ودعم التحول الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان وغيرها، وترتكن هذه البرامج والسياسات في جوهرها لعدد من القيم التي يروج لها الاتحاد الأوروبي. كما أنه استمراراً لهذا التوجه ارتبطت في حالات محددة مستويات تعاون الاتحاد وما يقدمه من دعم اقتصادي لدول جنوب المتوسط بحجم التقدم الحادث في الإصلاح المؤسسي والتحول الديمقراطي.

بعبارة أخرى، كانت الثقافة الأمنية السائدة في أوروبا خلال الفترة السابقة على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تتعامل مع منطقة جنوب المتوسط على أنها مصدر لتهديدات عدة تمس الأمن الأوروبي وتضعفه، [1] وأن معالجة هذا الوضع تتطلب تغيير مؤسسات الحكم في تلك الدول.

وبالنسبة للدول الواقعة في الجزء الجنوبي من البحر المتوسط، فإنها كانت تتعاطى مع هذه القضايا وتتفاعل مع أطر السياسات الأوروبية ذات الصلة حتى وإن لم تكن تمثل لها أولوية كبيرة في حساباتها الأمنية، خاصة في الحالات التي ارتبطت فيها هذه القضايا بخطط استثمارية أوروبية محددة. كما أشارت هذه الدول في مباحثات عدة إلى عدم رضاها عن التصورات الأوروبية التي تتعامل معها كمصدر لتهديد الأمن الأوروبي.

 وبعد مرور عام على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أصبح واضحاً أن  أوروبا هي الأخرى مصدر تهديد ليس لدول جنوب المتوسط فقط وإنما للعالم أيضاً، حيث إن الصراع على النفوذ بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في منطقة شرق أوروبا أصبح يمثل مصدر تهديد حقيقياً لأمن دول عدة في الجوانب المتعلقة بالغذاء على وجه الخصوص. إذ تعد كل من روسيا وأوكرانيا مصدراً لما نسبته 30% من القمح و 20% من الذرة فضلاً عن تصديرها نسباً مهمة من حبوب أخرى.

وتعد دول جنوب المتوسط من الدول التي تأثر أمنها الغذائي بالحرب، حيث تسببت هذه الحرب في تعرض عدد من هذه الدول لأزمة غذائية حقيقية نتيجة تعثر وارداتها من القمح الروسي والأوكراني. فوفق بيانات العام 2019 تصدر روسيا ما نسبته 54.5% من إجمالي ورادات مصر من القمح  و52.2% من إجمالي ورادات لبنان من القمح و4.5% من إجمالي ورادات تركيا من القمح و46.8% من إجمالي واردات الإمارت. بينما تعد أوكرانيا مصدراً رئيسياً للقمح لكل من تونس ومصر والمغرب، حيث توفر 47.7% من مجمل واردات تونس من القمح و14.7% من مجمل واردات مصر من القمح و19.5% من مجمل واردات المغرب من القمح. 


كما يعد الاتحاد الأوروبي مصدراً رئيسياً للقمح بالنسبة لكل من السعودية وسوريا والمغرب ومصر وتونس، إذ يوفر الاتحاد 99% و61.6% و44.7% و20% و34.2% على التوالي من مجمل واردات هذه الدول من القمح.

 كما ارتفعت نتيجة لذلك أسعار القمح وغيره من الحبوب الأساسية بشكل أثّر على قدرة آليات الأمم المتحدة على توصيل المساعدات الغذائية لدول الصراعات مثل اليمن وسوريا وغيرهما. فعلى سبيل المثال، أوضح برنامج الغذاء العالمي في مارس 2022 -أي بعد شهر على التدخل الروسي- أنه أصبح يتحمل تكاليف إضافية لمجمل عمليات توصيل الغذاء لبؤر الصراعات تقدر بحوالي 71 مليون دولار شهرياً بزيادة تقدر بنسبة 50% وذلك مقارنة بتكلفة عمليات البرنامج خلال العام 2019. [2] 

وقد تزامن مع ذلك تبني قادة دول جنوب المتوسط خطاباً يؤكد ما تحمله تطورات الحرب في أوروبا من تهديد لأمنها الغذائي، وفي مسعى من الاتحاد الأوروبي لاحتواء هذا الوضع، قرر تقديم مساعدات بقيمة 225 مليون يورو لدول جنوب المتوسط التي تعاني من مشاكل بسبب ارتفاع أسعار الحبوب.

الفرص أم التهديدات؟

يمكن القول إنه بعد مرور عام على الحرب الروسية-الأوكرانية أن الثقافة الأمنية التي توجه السياسات الأوروبية لم تعد ترتكن على التركيز على التهديدات ولكن تهتم بشكل جلي بالفرص وتعمل على تعظيم الاستفادة منها من خلال التعامل مع الأوضاع كما هي من منظور براجماتي بدلاً من العمل على تغييرها بما يتماشى مع القيم والتصورات الأوروبية.

ويتضح هذا التغير في كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع فجوة التصورات بينه وبين دول جنوب المتوسط تجاه كيفية التعامل مع روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا، ففي الوقت الذي سعى فيه الاتحاد بدعم من الولايات المتحدة للتحرك في الأمم المتحدة من أجل إدانة التدخل الروسي، ترددت الدول العربية في الانضمام لهذا التوجه، ولم يسع الاتحاد لتغيير مواقف هذه الدول عن طريق الضغط بالأدوات الاقتصادية أو للتعامل مع تلك الفجوة على أنها تهديد للمصالح الأوروبية وللأمن الأوروبي وما ينتج عن ذلك وفق التفكير التقليدي من محدودية مجالات التعاون في قطاعات أخرى. بل على العكس، تحرك الاتحاد الأوروبي بشكل براجماتي وتقبل سعى دول جنوب المتوسط للاستقلال في سياساتها تجاه روسيا وعمل في الوقت نفسه على تعزيز التنسيق والتعاون معها في مجالي الغاز والطاقة الخضراء اللذين اكتسبا أهمية متزايدة في خطة الاتحاد RePower EU الخاصة بتقليل الاعتماد على الغاز الروسي وتنويع مصادر استيراد الطاقة.


وفي هذا الإطار، قام الاتحاد بتوقيع مذكرة تفاهم لتصدير الغاز مع مصر وإسرائيل في إطار منتدى غاز شرق المتوسط في 16 يونيو 2022 بهدف تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وصرحت رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلين بأن هذا الاتفاق يهدف لـ"التخلص من التبعية لروسيا في مجال الغاز.. نحن نريد تنويع مصادر الاستيراد التي يمكن الاعتماد عليها ومصر شريك يمكن الوثوق فيه".[3] كما أعلنت رئيسة المفوضية توفير مساعدات بقيمة 100 مليون يورو لمصر من أجل دعم السياسات الخاصة بمعالجة نقص إمدادات الحبوب بسبب الحرب في أوكرانيا.

وأعلنت رئيسة المفوضية أيضاً عن توفير 3 مليار يورو لدعم برامج الزراعة والغذاء والمياه خلال السنوات المقبلة في منطقة جنوب المتوسط من أجل مساعدة دول هذه المنطقة على التوسع في إنتاج السلع والحبوب الغذائية محلياً مما يساهم في استدامة شبكات الإمداد الغذائية لدول المنطقة بدلاً من الاعتماد على روسيا.

كما شهد العام الماضي توسيع الاتحاد الأوروبي نطاق التعاون مع الجزائر في مجال الغاز في مسعى منه لزيادة حصة أوروبا من صادرات الغاز الجزائرية، خاصة مع عمل الجزائر مع كل من نيجيريا والنيجر على إنشاء خطوط نقل الغاز تسمح بنقل الغاز من هاتين الدولتين إلى الجزائر ومنها للعالم، وصاحب ذلك غض الاتحاد الطرف عن ملفات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات التي لطالما انتقد تعامل الحكومة الجزائرية معها. 

إلى جانب ذلك، سعى الاتحاد للضغط على كل من السعودية وقطر والإمارات من أجل الانضمام له في توجهه الخاص بتقليل الاعتماد على واردات الطاقة الروسية، وما يعنيه ذلك من زيادة واردات الاتحاد من دول مجلس التعاون الخليجي. وقد قابلت دول المجلس هذا المسعى بتجنب تأييد التوجه الاوروبي وتجنب تحويل سوق الطاقة العالمي إلى ساحة للصراع بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وكذا البحث عن أسواق جديدة في أوروبا، فعلى سبيل المثال نجحت السعودية خلال العام الماضي في إبرام اتفاق مع شركات بولندية ودنماركية يسمح لها بالتصدير لكل من بولندا والتشيك وليتوانيا والدنمارك.[4]

 ورغم هذا الاختلاف في التوجهات بين الجانبين، حرص الاتحاد على مواصلة التفاوض مع دول المجلس من أجل صياغة برنامج الشراكة الاستراتيجية معها والذي أعلن عنه في مايو 2022 والذي تحدث عن أهمية التنسيق مع دول المجلس من أجل تعزيز الأمن الاوروبي والمصالح الأوروبية في منطقة "الجوار الأوروبي الموسع" بما في ذلك جنوب المتوسط والساحل وهي المناطق التي أصبحت دول المجلس تتمتع فيها بنفوذ مهم وفق ما جاء في البرنامج، لا سيما بعد توقيع بعض هذه الدول اتفاقيات سلام مع إسرائيل وسعيها للتفاوض مع إيران بدلاً من المواجهة معها. كما أشار برنامج الشراكة إلى وجود فرص عدة للشراكة في مجال أمن الطاقة المستدام والانتقال الأخضر.  [5]

وبالنسبة لدول جنوب المتوسط، فيمكن ملاحظة بعض التغير في الثقافة الأمنية السائدة فيها، فمن خلال متابعة تعامل دول المنطقة مع القضايا الإقليمية والدولية خلال العام الماضي، يلاحظ أنها تتجه بدورها للتخلي عن التصور القديم الذي كان يميز الثقافة الأمنية في المنطقة والذي يركز على التهديد باتجاه تبني تصور يهتم بالفرص، وهناك أمثلة متعددة من واقع التفاعلات في المنطقة.

فعلى سبيل المثال، أصبحت دول عدة في المنطقة مع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية تنفذ مشاريع عدة لتغيير بنية اقتصادها حتى تتحلل من كونها مستهلكاً للعولمة الاقتصادية إلى مساهم في تحديد مسارها، وهو ما يبدو جلياً، على سبيل المثال، في سعى المغرب للتحول إلى مقر لتصنيع السيارات وغيرها ليتم تصديرها لأوروبا والشرق الأوسط، وسعى مصر لتوطين صناعات اللقاحات والمعدات الطبية وشبكات الإمداد والتموين والخدمات التكنولوجية.

كذلك سعى السعودية، التي تعد فاعلاً مهماً في منطقة الجوار الأوروبي الموسع، للتخلي عن الاقتصاد الريعي القائم على النفط من خلال التوسع في مشاريع صناعية وسياحية مثل مشروع نيوم الذي بدأ تشغيله بشكل جزئي ومشروع البحر الأحمر الذي يهدف لتحويل السعودية إلى مقر للصناعات الطبية ولتدوير المخلفات خاصة الإليكترونية، مع وجود مشاريع أخرى ذات صلة بتصدير القهوة والمانجا وغيرها. وذلك إلى جانب تغير مسار الاستثمار في القوة الشاملة للدولة في دول عدة في المنطقة واتجاهها للتركيز على المكون التكنولوجي والاقتصادي ومراكز الفكر في عناصر قوتها الشاملة.

ويمكن القول إن الثقافة الأمنية التي تهتم بالفرص هي اتجاه جديد في التفكير الاستراتيجي في المنطقة الأورومتوسطية بشكل عام، والتحول نحو هذا النوع من الثقافات الأمنية يمثل تحدياً حقيقياً للدول التي لديها نوع من الاستقرار والرشادة في ثقافتها الأمنية على نحو يدفعها للموازنة بين الثقافة الأمنية القائمة على الفرص وتلك القائمة على التهديدات الموجهة للأمن القومي والجماعي لدول المنطقة، وأن تكون الاستفادة من الفرص بقدر خدمتها لحسابات الأمن القومي للدولة.


[1]Senén Florensa, " The Big Powers, the Mediterranean and the Impact of the War in Ukraine (US, EU, Russia, China), IEMed Mediterranean Yearbook 2022: https://www.iemed.org/publication/the-big-powers-the-mediterranean-and-the-impact-of-the-war-in-ukraine-us-eu-russia-china/

[2]   "War in Ukraine pushes Middle East and North Africa deeper into hunger as food prices reach alarming highs", World Food Program, March 31,  2022: https://www.wfp.org/news/war-ukraine-pushes-middle-east-and-north-africa-deeper-hunger-food-prices-reach-alarming-highs

[3]"EU signs gas agreement with Egypt and Israel to reduce ‘dependency’ on Russian fuel", France24, June 16, 2022:

https://www.france24.com/en/europe/20220616-eu-signs-gas-agreement-with-egypt-and-israel-to-end-dependency-on-russian-fuel

[4] Cinzia Bianco, "Balance of power: Gulf states, Russia, and European energy security", European Council on Foreign Relations, March 16, 2022: https://ecfr.eu/article/balance-of-power-gulf-states-russia-and-european-energy-security/

[5]European Commission, "Joint Communication To The European Parliament And The

Council: A strategic partnership with the Gulf", Brussels, May 18, 2022:

https://www.eeas.europa.eu/sites/default/files/documents/Joint%20Communication%20to%20the%20European%20Parliament%20and%20the%20Council%20-%20A%20Strategic%20Partnership%20with%20the%20Gulf.pdf


رابط دائم: