كان تصاعد وتيرة العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين مع مستهل عام 2023، احتمالًا مرجحًا، بعد ما كشفت عنه نتائج انتخابات الكينيست الـ25 من فوز المتطرفين في المعسكر اليميني والديني وتشكيل حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، والتي تعد الأكثر تطرفًا دينيًا وقوميًا في تاريخ دولة إسرائيل، ليعد ذلك دليلًا قاطعًا وليس فقط مؤشرًا على أن القضية الفلسطينية باتت مقبلة على تحديات جسيمة، من حيث تصعيد العنف بأنماطه المختلفة، وكذلك الاستيطان، مع القضاء على ما تبقى من مسار حل الدولتين، خاصة مع مساعي تحويل كامل الأراضي الفلسطينية إلى ما يطلق عليه اليمين الديني والقومي الإسرائيلي "أرض إسرائيل".
فقد استهلت حكومة نتنياهو عام 2023 باقتحام مخيم جنين، في 26 يناير 2023، والذي أدى إلى اتساع نطاق المواجهات التي امتدت إلى القدس؛ حيث تم تنفيذ عدة عمليات طعن ودهس في المدينة، كان آخرها عمليتا طعن في القدس الشرقية، قام بتنفيذهما فتيان فلسطينيان من مخيم شعفاط للاجئين، في 13 فبراير الجاري، وأسفرتا عن مقتل جندي إسرائيلي وإصابة مستوطن. وكان قد سبقتهما عملية دهس نفذها فلسطيني في 10 فبراير 2023، أسفرت عن مقتل مستوطنين وإصابة ستة آخرين، قرب مستوطنة راموت شمالي المدينة المقدسة؛ ردًا على المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مخيم عقبة جبر في أريحا بعد تسعة أيام من حصار مدينة أريحا بالضفة الغربية في 6 فبراير 2023 والتي أسفرت عن استشهاد 5 مواطنين.
تفرض تلك التطورات التي تعصف بالقضية الفلسطينية تساؤلات عديدة حول طبيعة وخصوصية عمليات المقاومة الفردية، والتي يقودها الجيلZ الفلسطيني المقاوم على النحو الذي يثبت فشل تكتيك "كي الوعي" الذي انتهجته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني لردعهم عن المقاومة، ولماذا تراها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تهديدات ذات أولوية، خاصة مع تشكيل العديد من الكتائب المسلحة؟، وهل يمكن توظيف قرار السلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ليصبح قاطرة لرؤية وطنية شاملة عاجلة، لحماية المشروع الفلسطيني، والتصدي لمخططات فرض الحقائق والحلول الإسرائيلية على الأرض؟.
الجيل z الفلسطيني ومغزى العمليات الفردية
ثمة عوامل دفعت نحو بروز ظاهرة الكتائب المسلحة، والعمليات الفردية التي بات يقودها جيل جديد من الشباب والفتيان، والتي لا تتجاوز أعمارهم العشرينيات؛ حيث تأتي في مقدمتها غياب عملية سياسية تنهي الاحتلال، وتمسك السلطة من طرف واحد باتفاق أوسلو، الذي تسبب في فصل المناطق الفلسطينية وعدم تواصلها، وعزل الفلسطينيين وقراهم ومدنهم عن بعضهم البعض، ليس مع غزة فقط بل مع مجمل أراضي الضفة الغربية. فضلًا عن حرمان الشباب من ممارسة العملية الديمقراطية، بفعل استمرار تجميد قرار إجراء الانتخابات منذ عام 2021، والتي تم التوافق على جعلها خيارًا لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية. ومن ثم أدى ذلك إلى تمركز عملية صنع القرار الفلسطيني بأكمله في يد السلطة الفلسطينية، مع تهميش دور منظمة التحرير كمرجعية وإطار جامع، ورفض مقترحات تجديدها لتكون قاطرة للعمل الوطني.
وعلى الصعيد الإسرائيلي، ونتيجة لتصاعد العنف، وتسليح جيش المستوطنين دون توافر أي حماية للفلسطينيين، ساهم ذلك في إحياء الوعي لدى جيل الشباب من أجل البحث عن حلول بديلة عن أوسلو للتحرر، حتى وإن كانت أكثر كُلفة. وقد أثبت ذلك الجيل فشل مخطط "كي الوعي"، الذي اتبعته إسرائيل لإنهاء الفعل المقاوم في الضفة الغربية، ليثبت أن الوعي مازال زاخرًا بالمقاومة، كما أثبت فشل مقاربة "السلام الاقتصادي"، ومساعي تحويل اهتمام الفئات العمرية الشابة من اهتمام وطني إلى اهتمام معيشي، مما ساهم في خلخلة معادلة بقاء الاحتلال وتعميقه.
وقد كانت "هبّة الكرامة" التي اندلعت في مايو 2021 عقب القرار الذي اتّخذته إسرائيل بإجلاء العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، والتي اشتعلت على إثرها معركة "سيف القدس"، من ضمن المحفزات التي أدت إلى نهوض الفعل المقاوم لهذا الجيل، والذي قرر تشكيل جماعات مسلحة، لتُعد بمثابة نقلة نوعية في المواجهة مع إسرائيل على نمط "كتيبة جنين"، التي أُعلن عن تأسيسها في سبتمبر 2021، وذلك في أعقاب عملية "نفق الحرية"[1].
وقد أثبت هذا الجيل أيضًا أنه كلما ازداد التنكيل الإسرائيلي ومساحة التضييق الاحتلالي، يصبح أكثر قوة وصمودًا ورغبة في المقاومة والتضحية، مثلما حدث مع عملية "كاسر الأمواج"، التي شنتها إسرائيل في شهر مارس 2022 للقضاء على المقاومة في الضفة الغربية، والتي جاءت بنتائج عكسية، وساهمت في ظهور "عرين الأسود" في شهر سبتمبر 2022، وكان من بينهم عناصر من كتائب شهداء الأقصى، وكان ذلك ملمحًا مهمًا لأن مقاتلي فتح شكلوا رقمًا مهمًا في معادلة المقاومة المسلحة؛ رفضًا لنهج السلطة، والتنسيق الأمني مع إسرائيل. وقد حرصت تلك الجماعات المسلحة على نبذ الفصائلية والانقسام والتوحد في إطار المقاومة، وعدم الاشتباك مع أجهزة الأمن الفلسطينية للحفاظ عليها، وأن لا يتحول الاقتتال إلى فلسطيني داخلي، وعدم تشتيت أهدافها، والتركيز فقط على مواجهة الاحتلال.
بالإضافة إلى الاشتباكات التي باتت تخوضها الجماعات المسلحة مع قوات الأمن الإسرائيلية، فقد أصبحت العمليات الفردية ملمحًا مهمًا في مشهد الفعل المقاوم الفلسطيني، والتي تُعدها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أخطر التحديات التي يواجهها الأمن القومي الإسرائيلي، خاصة وأن غالبية منفذي تلك العمليات ليس لديهم سوابق أمنية ولا يتبعون لأي تنظيمات، ومن ثم عدم قدرة المؤسسات الأمنية على التنبؤ بها أو مواجهة أغلبيتها.
ومع ذلك، هناك احتمال لأن يكون البعض الآخر من هؤلاء المقاومين مرتبطين فعليًا بتنظيمات تفضل أن لا تعلن عن تبني هذه العمليات كتكتيك لإرباك وتضليل القوات الإسرائيلية[2]، حتى لا تصبح عناصرها معرضة للاستهداف والتصفية مثلما فعلت إسرائيل تجاه تنظيم الجهاد الإسلامي، نتيجة انتماء بعض عناصرها للكتائب المسلحة في جنين ونابلس، وغيرها؛ حيث صارت في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، من خلال اغتيال قادتها، وكانت سببًا في شن إسرائيل عملية "جز عشب" ضد الجهاد في قطاع غزة دون حماس في عام 2022، أطلقت عليها عملية "الفجر الصادق"، وكما تفعل إسرائيل حيال تنظيم "عرين الأسود"، من خلال تصفية العديد من قياداته، واعتقال البعض الآخر.
ومن أبرز ملامح تطور الفعل المقاوم الذي لم يعد وسيلة للتحرر بل إحدى وسائل الدفاع عن النفس، هو انتشاره جغرافيًا، فلم يعد مقتصرًا على جنين ونابلس، بل امتد إلى العديد من المدن الفلسطينية، والأهم أن القدس- قلب الصراع - أصبحت ساحة للمواجهة؛ فكان من أبرز العمليات الفردية التي نفذت شرقي القدس تلك التي وقعت في 27 يناير 2023، من قبل خيري علقم (21 عامًا)، والتي أدت إلى مقتل سبعة إسرائيليين وجرح نحو عشرة آخرين؛ وذلك ردًا على اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم جنين واغتيال عشرة من أبنائه في 26 يناير 2023.
وعلى الرغم من أن الاستنتاج بات واضحًا من تلك العمليات الفردية، واشتباكات الجماعات المسلحة، بأن تصعيد العنف الإسرائيلي وانسداد الأفق أمام عملية السلام لن يزيد الشعب الفلسطيني إلا صمودًا وتعزيزًا للعمل المقاوم، إلا إن الحكومة اليمينة الحالية لا تدرك إلا لغة القوة والعنف، مستغلة تفوقها العسكري. لذلك، بات الائتلاف الحاكم أمام اختبار تنفيذ الوعود الانتخابية، فشرع باستهداف الشعب الفلسطيني من خلال الترحيل والتهجير من أراضيهم، وإطلاق يد المستوطنين، وهدم المباني بحجة عدم الترخيص، فضلًا عن تصديق الكنيست في 15 فبراير 2023 بشكل نهائي على مشروع قانون سحب "المواطنة" أو "الإقامة" والذي يقضي بسحب المواطنة أو الجنسية من أسرى تلقوا تعويضات من السلطة الفلسطينية، ونفذوا عمليات فدائية، وإبعادهم إلى الضفة الغربية أو إلى قطاع غزة.
هذا فضلًا عن التنكيل بالأسرى، ومساعي سن قانون لإعدامهم[3]. بالإضافة إلى تصعيد الاغتيالات؛ حيث أعلنت الصحة الفلسطينية، في 14 فبراير 2023 أن حصيلة الشهداء منذ بداية العام الجاري وصلوا إلى 50 شهيدًا (4 شهداء برصاص المستوطنين)، بينهم 10 أطفال وسيدة مسنّة، وأسير في السجون الإسرائيلية.
كما طال التصعيد قطاع غزة في محاولة من نتنياهو لخلط الأوراق لترحيل الأزمات والضغوط الداخلية نحو غزة. وعلى الرغم من التزام الفصائل في غزة بالصبر الاستراتيجي لمنع اندلاع حرب يفرض توقيتها نتنياهو، فإنها حريصة في الوقت نفسه على تثبيت قواعد الاشتباك التي فرضتها عملية "سيف القدس" في 2021، من خلال الالتزام بتكريس وحدة المصير الفلسطيني ووحدة ساحات مواجهته، عبر الرد على التصعيد الإسرائيلي وفقًا لضوابط موضوعية وحساب التكاليف.
تكثيف الاستيطان والضم الصامت
بالإضافة إلى التصعيد المتواصل من قبل الحكومة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، هناك هدفان رئيسيان جاءت تلك الحكومة لتحقيقهما: أولهما، تكثيف الاستيطان، من خلال الدفع بالمزيد من المخططات الاستيطانية، وإعادة إقامة بؤر استيطانية قد سبق وتم إخلاؤها في الماضي. وبالإطلاع على نصوص الاتفاقيات الائتلافية، والتي تقر الاستيطان (شرعنة وتوسع) فقد اشتلمت على بنود تفصيلية تقر بحق الشعب اليهودي حصريًا في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية، بما فيها الضفة الغربية والقدس، على النحو الذي يقتضي شرعنة جميع البؤر الاستيطانية والتوسع فيها، وتنفيذًا لذلك البند قام المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشئون السياسية والأمنية (الكابينيت)، في 12 فبراير 2023 بالتصديق على شرعنة 9 بؤر استيطانية عشوائية في الضفة الغربية، بالإضافة إلى المصادقة على مخططات لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، وتبني خطة وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، بتصعيد عمليات الشرطة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس.
وعلى الصعيد ذاته، أقر الكنيست في 15 فبراير 2023، بالقراءة الأولى، مشروع قانون يسمح للمستوطنين بالعودة إلى 4 مستوطنات في شمال الضفة الغربية جرى إخلاؤها في إطار خطة الانفصال عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية في عام 2005، وهي، "غانيم"، و"كاديم"، و"حوميش"، و"سانور".
وعلى الرغم من التقدم في مخططات ومشاريع الاستيطان، وإرضاء نتنياهو لحلفائه في الائتلاف، إلا أن هناك ملفات أكثر سخونة يحتفظ نتنياهو بحقه في عدم تفجيرها في الوقت الراهن (دون إلغاءها)، يأتي في مقدمتها إرجاء هدم قرية الخان الأحمر، الواقعة على بعد 15 كم شرقي القدس المحتلة. فعلى الرغم من تعهد بن غفير بإخلاء الخان الأحمر، إلا أن نتنياهو يخشى أن يتسبب ذلك في خروج الأمور عن السيطرة، خاصة وأن القرية صارت مقرًا لمئات الناشطين الفلسطينيين والمتضامنين الأجانب، الذين تصدوا أكثر من مرة لمحاولات إخلاء القرية وهدمها. وتأتي أهمية قرية الخان الأحمر في كونها من ضمن الأراضي التي تستهدفها إسرائيل لتنفيذ مشروع "E1" الاستيطاني، الهادف للسيطرة على 12 ألف دونم ممتدة من أراضي القدس الشرقية حتى البحر الميت، وتفريغ المنطقة من أي تواجد فلسطيني، كجزء من مشروع فصل جنوب الضفة عن وسطها[4].
وثانيهما، الضم؛ وذلك من خلال محاولة حسم قضية ضم أراضي الضفة الغربية - التي كانت جوهر صفقة القرن، ولاقت من قبل صمودًا فلسطينيًا للتصدي لها، ورفضًا دوليًا وقت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب - وذلك من خلال تكتيك جديد يتم تسويقه بعبارات مختلفة أقل حدة من الضم، مثل "فرض السيادة"، على عكس محاولات الضم السابقة؛ خشية من ردود الفعل الدولية.
ويتضح من قراءة بنود الاتفاقيات الائتلافية أنها تضمنت "فرض السيادة" الإسرائيلية على الضفة الغربية، مع النص على أن تطبيق الخطة سيأخذ في الاعتبار "المصالح الوطنية والدولية لإسرائيل". كذلك يأتي الضم في سياق "تغييرات إدارية"؛ لذلك شكّل موضوع "الإدارة المدنية" أحد أبرز بنود الاتفاق الائتلافي الذي انضم بموجبه حزب الصهيونية الدينية إلى حكومة نتنياهو، وحصل بمقتضاه بتسلئيل سموتريتش على منصب وزير في وزارة الدفاع بصلاحيات واسعة، وذلك بالإشراف على الإدارة المدنية بالضفة الغربية بما يسمح له بتسيير شئون الاستيطان، بالإضافة إلى توليه منصب وزير المالية، بالتناوب.
ويستهدف سموتريتش من وراء رغبته في انتزاع السيطرة على الشئون المدنية في الضفة الغربية من الجيش الإسرائيلي تنفيذ برنامجه، الذي يركز في نهاية الأمر على "ضم الضفة الغربية بأكملها"، حيث تعهد سموتريتش أمام ناخبيه ومناصريه من المستوطنين والصهيونية الدينية بتفكيك الإدارة المدنية، وما يحمله ذلك من دلالات تخص الاستيطان، والضم؛ حيث يستهدف من إغلاق الإدارة المدنية ونقل الصلاحيات إلى الوزارات الحكومية ذات العلاقة، ليس فقط كما يدعي سموتريتش تسهيل حياة المستوطنين، وتحسين الخدمة الحكومية التي من المفترض أن توفرها لهم الدولة، خاصة وأن المستوطنين يتمتعون بامتيازات مدنية تفوق تلك الموجودة داخل الخط الأخضر من حيث أسعار السكن، وخدمات الرفاهية، والبنية التحتية والتسهيلات الضريبية وغيرها، بل إن الهدف من ذلك سياسي- أيديولوجي، وهو إدارة حياة سكان المناطق "ج" من قبل الحكومة الإسرائيلية بشكل مباشر، وليس من قبل إدارة عسكرية، بما يعني ضمًا قانونيًا وإداريًا لسكان المناطق "ج"، حتى لو لم يترافق الأمر مع ضم قانوني للأراضي، كما حدث في ما يتعلق بالقدس بعد 1967 بما يعني توسيع المشروع الاستيطاني بسرعة، والانطلاق نحو الضم الفعلي القانوني للضفة الغربية[5].
وعلى الرغم من دعم نتنياهو للاستيطان، وكذلك الضم، إلا أن ما يخص تفكيك الإدارة المدنية صار إحدى نقاط الخلاف بين الوزير سموتريتش، والائتلاف الحكومي الذي يترأسه نتنياهو؛ حيث تعارض الدوائر الأمنية الإسرائيلية مثل (الجيش والمخابرات) إلى جانب أحزاب سياسية أساسية مثل الليكود، تفكيك الإدارة المدنية، خاصة فيما يخص تداعياته العسكرية والأمنية، ورغبة نتنياهو في إيجاد حالة من التوازن بين البناء الاستيطاني والرغبة في الضم، وعلاقات إسرائيل الدولية[6]، خاصة الرغبة في استئناف اتفاقات أبراهام. ومع ذلك، فإن حرص نتنياهو على تماسك الاتئلاف الحاكم لن يدفعه نحو الاصطدام مع بن غفير، وسموتريتش، بل سوف يمنحهما كل ما يريدونه في الضفة والقدس ولكن بشكل تدريجي، حرصًا منه على تجنب دفع أثمان كبيرة ليسوا جاهزين لها حاليًا كانهيار السلطة، أو انتفاضة ثالثة، أو حرب مع غزة.
ما المطلوب فلسطينيًا؟
إلى جانب التصعيد الإسرائيلي المتواصل ضد كل ما هو فلسطيني (شعبًا، وأرضًا) فقد واجهت كذلك السلطة الفلسطينية ضغوطًا عديدة، حينما أقرت الحكومة الإسرائيلية في 6 يناير2023 عددًا من الإجراءات العقابية ضدها؛ بسبب توجهها إلى المؤسسات الدولية لملاحقة إسرائيل، وردع مساعيها لتدويل القضية، والحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين؛ حيث تأتي في مقدمتها: تحويل (39 مليون دولار) من أموال السلطة إلى عائلات إسرائيليين قتلوا في عمليات فلسطينية، فضلًا عن خصم دفعات السلطة الفلسطينية إلى الأسرى وعائلات الشهداء في 2022، وتجميد بناء الفلسطينيين في المناطق "ج"، إلى جانب سحب تصاريح VIP من المسئولين الفلسطينيين، لتقييد حركتهم خارج حدود عام 1967.
في ضوء ذلك التصعيد الإسرائيلي، يمكن إذًا التساؤل: هل يُعد قرار الرئاسة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، في 26 يناير 2023؛ ردًا على اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم جنين، وشن عملية عسكرية واسعة قتلت خلالها 10 فلسطينيين، وأصابت العشرات، جزءًا من استراتيجية وطنية شاملة، أم يُعد رد فعل وقتيًا لاحتواء غضب الجماهير، والتخفيف من حدة الانتقادات الموجهة للسلطة الفلسطيينة؟.
يمكن القول إنه على الرغم من الإعلان عن وقف التنسيق الأمني، فإنه لم ينعكس سلبًا على إسرائيل، بل إنها وظفته لصالحها من خلال استباحة المدن والشعب الفلسطيني، كما لم يتم توظيفه من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية، لحماية الشعب الفلسطيني. وحتى اللحظة الراهنة، مازالت إسرائيل تمارس القتل والاعتقال، والمداهمات، وصارت المدن والمخيمات والضفة الغربية كلها داخل قبضة أمنية إسرائيلية شرسة، جعلت من الشعب الفلسطيني بكافة فئاته العمرية وليس فقط المقاومين في دائرة الاستهداف والتصفية، خاصة مع تعاطي الحكومة الإسرائيلية مع الغضب الفلسطيني بالمزيد من القوة. كما قررت الحكومة الإسرائيلية نقل ثلاث سرايا في قوات الاحتياط التابعة لوحدة حرس الحدود إلى القدس الشرقية، وأرسلت 70% من الوحدات القتالية في الجيش إلى الضفة الغربية[7].
ومع ذلك، مازالت هناك ضغوط أمريكية على السلطة الفلسطينية من أجل القبول بخطة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن لعودة التهدئة، والتي تتضمن استعادة السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية على مدينتي جنين ونابلس، من خلال تدريب قوة فلسطينية خاصة ونشرها في المدينتين لمواجهة مقاتلي المقاومة هناك، مقابل تحييد الجيش الإسرائيلي عن خوض جولات قتالٍ في المحافظتين، وعودة التنسيق الأمني لكي يطال المدينتين ولاحقًا مدنًا أخرى من بينها مدينة الخليل، وذلك في مقابل تحويل بعض الرواتب وإلغاء العقوبات المالية الإسرائيلية[8]؛ أي الالتزام بمقاربة الأمن مقابل الاقتصاد دون التعهد بأي أفق سياسي فلسطيني.
ويمكن القول إنه على الرغم من أن قرار وقف التنسيق الأمني لا يعد الأول وقد سبق واتخذ المجلسان المركزي والوطني منذ عام 2015 قرارات مشابهة له، أملًا في الخروج عن قيود أوسلو، إلا أنه سرعان ما كان يتم التراجع عنه، نتيجة للضغوط الإسرائيلية والأمريكية، وصعوبة الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل. ومع ذلك، فإن تكرر التراجع عن قرار التنسيق الأمني، وعدم تفعيله بوضوح لصالح الشعب الفلسطيني، في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ القضية، سوف يفرض أزمة جديدة أمام السلطة، في وقت يُعد وجودها متماسكة وقوية مع وجود حاضنة شعبية لها مصلحة حيوية للقضية من أجل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، والخروج من المأزق الراهن، وتفعيل المقاومة الرسمية.
وذلك يطرح بدوره تساؤلًا آخر ومفاده: ما هو البديل؟، وكيف يمكن توفير الحماية للشعب الفلسطيني، دون المساومة على الحق الفلسطيني المشروع في المقاومة بكافة أشكالها طالما مازالت الأراضي الفلسطينية مُحتلة؟
صعوبة الإجابة على ذلك التساؤل ليس لعدم وجود حلول، بل لتعدد البدائل، حتى باتت من السهل الممتنع، والتي يعيقها فقط توفير الإرادة الفلسطينية الجمعية من أجل تدشين استراتيجية وطنية شاملة للكل الفلسطيني، تكون إحدى ركائزها كيفية توفير الحماية للفلسطينين، وعدم الارتهان إلى ردود الفعل المجزئة والوقتية، مع تصويب مسار التفكير السياسي الفلسطيني. فعلى الرغم من تجسيد الوحدة الوطنية داخل الجماعات المسلحة التي تشكلت مؤخًرا، إلا أن توحد حكومتي رام الله وغزة من أجل إنهاء الانقسام كمطلب ضروري وحيوي لتعزيز عوامل الصمود الداخلي الفلسطيني، رغم المساعي والجهود السابقة والراهنة لم يحدث بعد، ومازال مستبعدًا.
ومع أهمية وضرورة إجراء الانتخابات الفلسطينية الشاملة، كونها خطوة مهمة في اتجاه تحقيق التحول الديمقراطي المنشود في الحالة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات الفلسطينية خاصة مع رغبة غالبية الشعب الفلسطيني في إجرائها، والتمسك بها كخيار لإنهاء الانقسام، وتجديد شرعية المؤسسات الفلسطينية؛ وذلك وفقًا لاستطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في الفترة ما بين 7-10 ديسمبر 2022؛ حيث أشارت النتائج إلى أن 69% من الآراء تؤيد إجراء انتخابات عامة جديدة[9]. إلا أنه من غير المستبعد أن يعيق إجراءها نفس التحديات السابقة التي حالت دون إجراءها في عام 2021، وفي مقدمتها تشرذم حركة فتح، وإشكالية إجراءها في القدس دون موافقة إسرائيل، خاصة مع اشتعال ساحات المواجهة، وعدم توافر البيئة الأمنية اللازمة لإجرائها في الوقت الراهن.
ونظرًا لسرعة تطور الأحداث وتلاحقها، والأرواح الفلسطينية التي تزهق كل لحظة بواسطة آلة البطش العسكري الإسرائيلي، فإن الساحة الفلسطينية بحاجة ماسة لاتخاذ خطوات ممكنة وعاجلة، من بينها؛ إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، وتفعليها بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، واندماج الفصائل التي لا زالت خارجها. وفي الوقت نفسه اتخاذ قرارات مصيرية ردًا على الاستيطان والضم. والمقصود هنا ضرورة العمل على مسارات متعددة على نحو متزامن من أجل الضغط على إسرائيل، حتى لا توظف أي جهود دولية لصالحها من أجل كسب المزيد من الوقت لتنفيذ مخططاتها على الأرض.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من أن التغيير المأمول فيما يخص التحرر الكامل، وتدشين دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ليس بالضرورة أن يتحقق قريبًا، إلا إن تراكم الفعل المقاوم وديموته، مع التمسك باستراتيجية حسم الصراع، والتحرر، وليس الدخول في دوامة إدارته يعد بداية الطريق السليم، والخيار الاستراتيجي الممكن من أجل الدفع نحو تحريك الحقوق الفلسطينية. كما أن تزامن الفعل المقاوم الشعبي مع المقاومة الرسمية من خلال خطوات جادة من قبل السلطة الفلسطينية، نحو تدويل القضية الفلسطينية والتوجه للأمم المتحدة والمحاكم الدولية، سوف يساهم في مراكمة إنجازات سياسية لصالح القضية.
[1] سعيد أبو معلّا، "مجموعات المقاومة الجديدة بديل وطني ورث الفراغ"، مجلة الدراسات الفلسطينية (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، العدد 133 – شتاء 2023)، متاحة على الرابط التالي:
https://www.palestine-studies.org/ar/node/1653515
[2] د. محسن محمد صالح، "الضفة وارتباك الحسابات الإسرائيلية"، 6 فبراير 2023، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3xq2rSD
[3] تحليل أطلس، احتمالات التصعيد وجهود احتوائه، 4 فبراير 2023 ، متاح على الرابط التالي: https://atls.ps/post/18768
[4] "الخان الأحمر" إلى الواجهة من جديد، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، وفا، 22 يناير 2023، متاحة على الرابط التالي: https://www.wafa.ps/Pages/Details/63348
[5] وليد حباس، ما هي الإدارة المدنية؟ وكيف من المتوقع أن يفكّكها بتسلئيل سموتريتش؟، مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 13 فبراير 2023، متاح على الرابط التالي:
https://bit.ly/411Fenu
[6] مهند مصطفى، الانطلاق نحو الضَّم: أبعاد الخلاف على الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، مركز الإمارات للسياسات،8 فبراير 2023، متاح على الرابط التالي:
https://epc.ae/ar/details/featured/abaad-alsirae-ala-al-iidara-almadania-al-iisrayiylia-fi-aldiffa-algharbia
[7] قلق غربي واسع إزاء قرار إسرائيل بناء مستوطنات جديدة، جريدة الشرق الأوسط، 15 فبراير 2023، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3YFS4pN
[8] السلطة الفلسطينية ترفض تهدئة محصورة باحتياجات إسرائيل الأمنية، جريدة الشرق الأوسط، 10 فبراير 2022، متاحة على الرابط التالي: https://bit.ly/3EbDNc8
[9] نتائج استطلاع الرأي العام رقم (86)، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، متاح على الرابط التالي: https://pcpsr.org/ar/node/927