شهد لبنان خلال الأسبوع الماضي بعض الحراك السياسي سواء في الشارع أو في المؤسسات السياسية دون أن يثمر هذا الحراك أي تقدم على مستوى ملء الفراغ الرئاسي وحل عقدة تقييد عمل الحكومة اللبنانية. إذ شهد الأربعاء (18 يناير 2023) عقد جلسة لمجلس الوزراء من أجل تمرير سلفة من الخزينة لشراء الوقود اللازم لتوفير الكهرباء العامة في الفترة المقبلة. كما شهد الخميس (19 يناير 2023) انعقاد الجلسة الحادية عشرة لانتخاب رئيس الجمهورية، فضلاً عن مظاهرة لأهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت أمام البرلمان من أجل تحريك ملف التحقيق في الانفجار ورفع الغطاء السياسي عن تجميده.
جلسة حكومة لإقرار بند واحد
انعقد مجلس الوزراء للمرة الثانية بعد خلو منصب الرئيس، وكان الطارئ الذي سوغ هذا الانعقاد هو الموافقة على سلفة من الخزينة لشراء الوقود من بواخر لنقل الوقود اقتربت من السواحل اللبنانية ولا يوجد اعتماد مالي كافي لشراء حمولتها، مما حدا بنجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى الدعوة إلى عقد هذه الجلسة من أجل الإسراع بعملية تأمين وقود كافي لتوليد الكهرباء.
وكان قد سبق لميقاتي أن قام بتأجيل هذه الجلسة لمدة أسبوع في محاولة لإقناع مختلف مكونات الحكومة بالحضور، وخاصة وزراء حزب الله. فمنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، يعتبر فريق التيار الوطني الحر أن انعقاد جلسات الحكومة غير دستوري لأنها حكومة تصريف أعمال ولا يجوز لها استلام صلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور المنصب.
ولكن في المقابل، يرى ميقاتي أن البلاد لا تحتمل مزيداً من التعطيل ولا يجوز كف يد الحكومة بدعوى الصلاحيات المحدودة، ولذا اقتصد ميقاتي في الدعوة لجلسات الحكومة وجعلها لبحث أمور طارئة للغاية من أجل تصريف الأعمال ومراعاة للمصلحة العامة. فيما امتنع 6 وزراء أبرزهم وزير الطاقة وليد فياض عن حضور الجلسة، اتساقاً مع موقف فريقهم السياسي الذي يرى أن اجتماع الحكومة في غياب الرئيس غير جائز دستورياً.
وقد حضر ثمانية عشرة وزيراً من أصل 24 بما حقق للجلسة نصابها الصحيح بالإضافة إلى حضور رئيس مؤسسة كهرباء لبنان لبحث أمر تأمين مستقر للتيار الكهربائي في البلاد. وقد بحث الوزراء المجتمعون بنداً وحيداً ووافقوا على تخصيص مبلغ 116 مليون دولار لشراء الوقود المستخدم في توليد الكهرباء وأيضاً لإجراء أعمال الصيانة اللازمة للشبكة من أجل تخفيض الهدر[1].
وجاء حضور وزراء حزب الله جلسة الحكومة ليعبر عن تمايز في المواقف بين الحليفين بدأ يلوح في الأفق فيما يخص كيفية التعامل مع الفراغ الرئاسي وأيضاً اختلاف الآراء بشأن طرح مرشح للرئاسة[2]. فبينما يطرح حزب الله سليمان فرنجية مرشحاً رئاسياً، يرى التيار الوطني الحر أن الرئيس يجب أن يكون له كتلة برلمانية كبيرة وصفة تمثيلية معتبرة للمسيحيين في إشارة إلى ضرورة كونه أحد المنتمين للتيار الوطني الحر الذي يرى نفسه الممثل الطبيعي للمسيحيين في لبنان.
وفي ظل محاولات مستمرة لتقريب وجهات النظر بين الحليفين يتم التصويت في جلسات انتخاب الرئيس بورقة بيضاء انتظاراً للتوافق على مرشح مقبول منهما معاً. ولكن في شأن جلسات الحكومة، يتمسك جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر بمقاطعة وزرائه للجلسات وينتقد افتقادها للميثاقية رغم حضور وزراء مسيحيين آخرين، بينما شارك وزراء حزب الله على أرضية أن الأمر عاجل ويستحق البت فيه دون إبطاء من أجل مصلحة الناس.
ولكن في المقابل، تردد أن وزراء حزب الله كانوا سيغادرون جلسة الحكومة إذا ما تمت مناقشة أي بند آخر غير توفير التمويل لتوليد الكهرباء، كي لا يتم التوسع في ممارسة صلاحية الحكومة، المحدودة أصلاً بحكم أنها لتصريف الأعمال فقط.
جلسة ومظاهرة واعتصام في البرلمان
أما مجلس النواب اللبناني، فقد شهد بعض النشاط يوم الخميس 19 يناير في داخله وخارجه، ففي الخارج تظاهر أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت لحث السلطات على تحريك ملف التحقيق بالانفجار. وكان التحقيق قد عُلِّق بعد أن تم رد القاضي طارق بيطار منذ سبتمبر 2021، وذلك بعد تحريك حزب الله وحلفائه عدة دعاوى لاستبدال القاضي وانتداب غيره[3].
وكان حزب الله وحلفاؤه قد تضرروا من مجرى التحقيقات عندما تم استدعاء وزراء من فريقهم السياسي للتحقيق في شأن علمهم بوجود شحنة كبيرة من المواد القابلة للانفجار في مستودعات المرفأ وامتناعهم عن القيام بما يلزم لتأمين الميناء. ومنذ ذلك الحين، يرهن حزب الله مشاركته في الحكومة بتجميد ملف التحقيق في الانفجار، ومن ثم شهد الشارع عدة فعاليات لأهالي الضحايا من أجل معاودة فتح التحقيق، الأمر الذي أدى إلى اعتقال اثنين من أهالي الضحايا الناشطين في الاحتجاج قبل أن يتم إطلاق سراحهم فيما بعد[4].
أما داخل البرلمان، فقد عقدت الجلسة الحادية عشرة لانتخاب الرئيس اللبناني بحضور 111 نائباً من أصل 128. وقد شهدت الجلسة نفس مجريات الجلسات السابقة من حيث الفشل في انتخاب الرئيس، حيث أسفر التصويت عن 37 ورقة بيضاء و34 صوتاً لميشال معوض مرشح تيار السيادة من القوات اللبنانية والكتائب واللقاء الديمقراطي، فضلاً عن 14 صوتاً اقترعوا "لبنان الجديد" و7 أصوات لعصام خليفة وصوتين لزياد بارود وصوت واحد لكل من صلاح حنين وميلاد أبو ملهب، بالإضافة إلى 15 ورقة ملغاة.
فيما هدد أحد نواب اللقاء الديمقراطي بالامتناع عن حضور الجلسات القادمة إذا كانت ستسير على نفس المنوال دون الوصول لانتخاب رئيس، بينما قرر عدد من نواب التغيير الاعتصام في البرلمان لفتح جلسات البرلمان بشكل متوالي لحين انتخاب الرئيس بدلاً من فض الجلسة بعد أول جولة انتخاب كل مرة[5]. وكان قرار الاعتصام قد بدأ من النائبين عن قوى التغيير ملحم خلف ونجاة صليبا قبل أن يمتد ليشمل نواباً آخرين من قوى التغيير والكتائب وكتلة الاعتدال لتسليط الضوء على عوار فض جلسات انتخاب الرئيس بعد أول جولة وضرورة الانعقاد الدائم لحين انتخاب الرئيس.
وقد أمضى النواب المعتصمون ليلتهم داخل البرلمان متعهدين بالتناوب على الاعتصام كي يبقى المجلس مفتوحاً بشكل دائم. فيما استهجن رئيس مجلس النواب نبيه بري الاعتصام وقلل من أهميته ورفض طلب النائب ملحم خلف بفتح جولة ثانية للتصويت عقب انتهاء جلسة الانتخاب الفاشلة.
التسوية لا تزال مفقودة
على عكس أغلب التوقعات بأن الانفراجة ربما ستأتي بعد عطلة أعياد العام الجديد، فإن مجريات جلسة الانتخاب الحادية عشرة أظهرت أن أمر التسوية في لبنان لا يزال مؤجلاً. فالاهتمام الدولي بلبنان بدا مشتتاً في اتجاهات عديدة وملفات إقليمية ودولية أخرى. كما أن جولة اللقاءات التي جمعت مختلف الفرقاء اللبنانيين خلال موسم العطلات والأعياد لم تسفر عن شيء أبعد من التشاور، دون أن يتم ترجمة أياً منها لمبادرة أو انفراجة.
فجبران باسيل حاول أن ينفتح على مختلف الخصوم في مسعى لإعادة تسويق نفسه كزعيم سياسي مستقل بعيداً عن رئاسة عون المنتهية وبعيداً عن تحالفه مع حزب الله. ولكن جولة اللقاءات التي امتدت لتشمل وليد جنبلاط ونجيب ميقاتي وسليمان فرنجية لم تسفر عن أي خريطة جديدة للتحالفات أو أي خرق للتعطيل.
من جهة ثانية، كان التيار الوطني الحر قد تعهد أن تثمر هذه اللقاءات عن إطلاق اسم مرشح ثالث، بخلاف سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزيف عون، بعد أن تفرغت مختلف الوجوه البارزة في التيار في تشويه الرجلين والتقليل من فرصهم كمرشحين محتملين. ولكن في النهاية لم يطرح التيار الوطني الحر أي اسم جديد واستمر مسلسل الانتخاب بالورقة البيضاء، وإن كان قد وصل لأقل معدلاته بنحو 37 صوتاً فقط، فيما تمسك السياديون بميشال معوض بنحو 34 صوتاً دون أن تتسع دائرة التصويت له.
أما الكتلة الأكبر فهي كتلة التشرذم التي بلغت 40 صوتاً وتنوعت بين مرشحين لا يلقون القبول الواسع أو مشروع لبنان الجديد أو الأوراق الملغاة التي تعبر عن مواقف سياسية متنوعة ولكنها تشترك في رفض الأمر الواقع.
ومن ثم يبقى وضع التردد والتشرذم هو المسيطر على مجلس النواب، فيما مجلس الوزراء لا يجتمع إلا للضرورة في أضيق الحدود تجنباً لاستقالة كتلة معتبرة من الوزراء مما يسقط الحكومة ككل. بينما يتجه الوضع الاقتصادي للمزيد من الانهيار في ظل انخفاض الليرة مقابل الدولار ووصولها في السوق الموازية إلى عتبة 50 ألفاً.
بينما أسهمت السياسة المترددة سريعة التغير لمصرف لبنان في تسريع معدلات المضاربة على العملة في السوق السوداء بدلاً من تخفيف هذه التعاملات. وكان مصرف لبنان قد حاول السيطرة على سعر المضاربات وفتح التداول على منصة صيرفة دون سقف، كي يتم استيعاب كل التعاملات على المنصة الرسمية بدلاً من السوق السوداء.
ولكن هذا الإجراء قد استحوذ على انتباه المضاربين، فتسللوا كأفراد وشركات للاستفادة من هذا الإجراء، واستبدال الليرة بالدولار بسعر أقل من سعر السوق السوداء ثم معادوة بيعه بسعر مرتفع فيما بعد، مما أدى بمصرف لبنان إلى التراجع عن إتاحة تبديل العملة دون سقف وحصر استبدال العملة بالأفراد فقط دون الشركات[6].
بينما تشهد السوق المحلية شحاً في المواد الأساسية وخاصة الوقود والدواء مما قد يوحي بإمكانية عقد جلسات حكومية جديدة على غرار الجلسة الأخيرة لإقرار بعض البنود المستعجلة في ظل غياب الحل الجذري لمشكلات لبنان المتعددة وخاصة على الصعيدين المعيشي والاقتصادي.
أما الملف السياسي، فيبدو أن المشاورات المحلية بشأنه لم تصل إلى نقطة حل، فيما السياق الإقليمي والدولي غير مواتٍ للالتفات إلى لبنان، بما يعني أن الفراغ الرئاسي مرشح للاستمرار عدة أشهر أخرى إذا ما تم الإبقاء على الوضع الأمني مستقراً دون مشكلات واسعة النطاق.