"قيمة الإنسان في الدولة مقياس الرقي
هي فرق بين شعب ينزف الروح وحي"
(الشاعر السوداني: إدريس جماع)
لكل موضوع قصة
يعد إدريس جمّاع من عباقرة الشعر العربي في العصر الحديث. من بين قصائده واحدة بعنوان "قيمة الدولة"، لخّص في واحد من أبياتها معنى الدولة وحدد مقياساً للحكم على أدائها. والمقياس بسيط هو قيمة الإنسان. اعتبرها عنواناً لتميزها إن ارتقت بالمواطن أو دليلاً على تراجعها إن أهملته. واللطيف في ذلك البيت أنه بنى بالشعر علاقة طردية بين مكانة الفرد ومكانة الدولة. فكلما زادت قيمة الإنسان كلما ارتقى الوطن. وكلما أهدرت قيمته كلما تراجعت مكانة الوطن. قيمة الإنسان، كما عرّفها جمّاع، هي التي تحدد قدر الدول. فإما أن تئن وتنزف أو تحيا وتأنس. إما أن تكون دولاً هشة مُحبِطة ومُحبَطة، أو دولاً منجزة قوية ومتماسكة.
وبرغم الفارق بين لغة الشعر ولغة العلم، إلا أن المقياس الشعري الذي اقترحه جمّاع لا يختلف في فلسفته عن المقياس العلمي الذي استقر في أدبيات العلوم السياسية منذ 2005 باسم "مقياس الدول الهشة" اللهم إلا في أن الأخير جاء أكثر تفصيلاً في مقاييسه. في ذلك العام أطلق صندوق السلام Fund of Peace-الذي تأسس في 1957 كمؤسسة أمريكية غير ربحية-بالتعاون مع مجلة Foreign Policy الأمريكية- التي تأسست في 1977- مقياساً للحكم على أداء الدول في اثني عشر مجالاً من بينها الأمن والاقتصاد والسياسة والعدالة والخدمات العامة.
وكشف المقياس عن مجموعة من البلدان لا تقوم بوظائفها بالمرة. بلدان أسميت في حينه "بالدول الفاشلة". دول تشبه الثقوب السوداء التي تمتص طاقات النظام الدولي في حروب وصراعات ومشكلات لا أول لها ولا أخر. ومن عام إلى عام انضمت دول جديدة إلى القائمة الأولى التي نُشرت في 2005. لكن في سنة 2014، وبعد انتقادات سياسية وأكاديمية حادة وواسعة، أعيدت تسمية المقياس، فأطلق عليه "مقياس الدول الهشة" Fragile States Index. وبالرغم من تخفيف حدة المصطلح إلا أنه ظل محلاً للغط وجدل كبيرين. فمن بالله من دول العالم تقبل أن تُرمى بأوصاف كالفشل والعجز والهشاشة؟
وما بين وقفة مع الشعر ومراجعة لبعض أدبيات العلوم السياسية حول الدول الهشة والضعيفة ولدت فكرة هذه الورقة. وكلما قرأت حول الموضوع كلما رأيت أمامي خطاً أفقياً مرعباً يمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. على اليمين جحيم وعلى اليسار جهنم. عند طرف يتجمع عدد ليس قليل من الدول الضعيفة المخلخلة والمهلهلة، التي كلما حاولت الوقوف على قدميها عادت وتعثرت. دول كأنها وقّعت مع العجز معاهدة. وكلما امتدت إليها أيدي المنظمات الدولية لتنقذها عادت لتغوص أكثر في مشكلاتها. ورأيت عند نفس الطرف قوى خارجية تقترب من تلك الدول رافعةً شعار المساعدة. لكن ما أن تدخل إلى ساحاتها إلا وتحولها إلى لسان نار يقذف بمزيد من المشكلات في وجه العالم. وليست أفغانستان واليمن وسوريا والعراق إلا غيض من فيض من دول هشة أزعجت العالم وأزعجها خلال الأعوام القليلة الماضية. جاء إليها أحياناً ليساعدها وأحياناً أخرى ليستغل بؤسها. لكن النتيجة في الحالتين كانت واحدة: لا هي نجت ولا هو نجح.
ورأيت عند الطرف الآخر من الخط نظاماً دولياً مرتبكاً، يزداد فوضى سنةً بعد أخرى. نظام هش ومائع. تعمه كل صور الاضطراب والفوضى. من فوضى القواعد الحاكمة، إلى فوضى المؤسسات القائمة، إلى فوضى القيادات المسئولة، إلى فوضى العمليات الدائرة. نظام لا تعمل قواعد القانون الدولي فيه إلا بانتقائية. تخضع مؤسساته الدولية لإرادة أقلية من دول مؤثرة لا تكترث كثيراً بالدول المتعثرة. دول كبيرة لكن تتحكم في مقاديرها قيادات ليست على مستوى الأحداث. ورأيت عمليات دولية عجيبة مثل العولمة، والتحالف، والتكامل، والرقمنة وهي تجري على مدار الساعة عبر الحدود لكنها لا تضيف إلى صلابة النظام الدولي شيئاً أو تساعد الدول الهشة على التماسك.
ولم تكن تلك الصور من الفوضى جديدة. فقد عرفها النظام الدولي منذ قرون، وجرى توثيقها على يد ثيوسيديدس في كتابه عن "الحروب البلوبينيزية" في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن فوضى المرحلة الراهنة تختلف عن كل فوضى سبقتها. فقد تحولت من هرج ومرج يمكن تفهم أسبابه إلى سيولة لا يوجد أي يقين عن مستقبلها. فلا أحد يعرف والصين تحاول الصعود وروسيا تحاول العودة وأمريكا تحاول إحكام الهيمنة إلى أين يتجه العالم ولا أحد يعرف بالمثل إن كان النظام الدولي سيتماسك أم سيزداد سيولة. إنها حالة مائعة ضربت وحدات النظام الدولي كله من قمته إلى قاعدته. من القوى الكبرى إلى الدول الهشة. والسيولة كالسيول تنهمر من أعلى إلى أسفل. والسيول متى هطلت من فوق قمة الجبل لا بد وأن تغرق سفحه. والسيولة الدولية وهي تعصف حالياً بمقادير الكبار إلا وتطال معهم الصغار. الكبار اليوم منقسمون على الأقل إلى تكتلين. واحد يحاول الحفاظ على الوضع الراهن (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وتكتل آخر يسعى إلى التغيير (الصين وروسيا). أما النظم الإقليمية العديدة حول العام، مثل النظام الإقليمي العربي أو أفريقيا جنوب الصحراء، فعليها أن تدفع الثمن وأن تعاني من مشاهد لا حصر لها من السيولة والمفاجآت. ولم تكن أزمة حصار قطر ربما خلال الفترة ما بين 2017 إلى 2020 إلا مثالاً على تلك الحالة.
هذا الخط الأفقي الملتهب يؤجج نيرانه إذن مصدران. الأول مجموعة دول ضعيفة لها وجود قانوني بحكم عضويتها في الأمم المتحدة، لكن ليس لها وجود وظيفي لأنها ببساطة لا تستطيع أن تقوم بما تحتاجه مجتمعاتها من وظائف تنظيمية واستخراجية وتوزيعية ورمزية. دول لديها شرعية قانونية لكنها لا تمتلك شرعية شعبية. تُرضي المستعمر القديم بأكثر مما تُرضي شعوبها. تُصدر للعالم إرهاباً ومهاجرين ولاجئين ومخدرات ورقيقاً أبيضاً وعصابات جريمة منظمة وجماعات مسلحة. وتأخذ منه قروضاً ومنحاً وهبات واستثمارات تذهب هباء في دوامات فساد لا تنتهي. والمصدر الثاني نظام دولي هلامي. يتدخل في الدول الهشة اضطراراً واختياراً ليغرقها في أهوالها وأهواله. نظام يسعى كل كبير فيه لكي يكون قائداً منفرداً. فإن لم يستطع فيحاول أن يكون أولاً بين متساويين. والكبار بطبعهم لا يحاربون بعضهم مباشرةً وإنما يفضلون الحرب بالوكالة. كما أنهم لا يحاربون على أرضهم وإنما يفضلون أن تجري مواجهاتهم على أراضي الدول الهشة. فتلك الدول لا تزيد عند الكبار عن ساحات للتنافس أو مخازن يرمون فيها مخلفاتهم الاستراتيجية أو مخالب يستعملونها في حربهم ضد بعضهم.
هذا هو محور الشر الأكبر والأخطر الذي تميل هذه الرؤية إلى ترجيح بقاءه لفترة طويلة قادمة. هو الذي سيؤثر على الأداء الداخلي لكثير من الدول وعلى استقرار النظام الدولي. إنه محور شر كبير يختلف عن محاور الشر المحدودة التي توقف عندها بعض القادة وهم يوضحون رؤيتهم للعلاقات الدولية. ففي 29 يناير 2002، على سبيل المثال، استعمل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن تعبير محور الشر ليشير إلى مجموعة دول ضمت كوريا الشمالية وإيران والعراق اعتبرها شريرة لأنها تدعم الإرهاب وتسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل. وهو نفس المحور الذي ضمت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس في يناير 2005 كل من كوبا وليبيا وسوريا. إلا أن هذا المحور لم يكن سوى محوراً صغيراً للشر، بالطبع من وجهة النظر الأمريكية. أما المحور الذي تحاول هذه الورقة أن تتبين مخاطره فيخص شراً أكبر. شر مزدوج من نظام الدولة المهترئ في بعض الأقاليم ومن النظام الدولي معاً. من دول ضعيفة تختزن الشر في بناها الداخلية الهشة. ومن نظام دولي يُصدّر الصراعات بين كباره إلى تلك الدول ليعرضها لمخاطر أعظم.
محور الشر الأكبر لا يحصر الخطر والضرر في دول بعينها وإنما يراه في قطبين كبيرين ينتجان الشر ويتبادلان الشر ويغذيان الشر: الدول الهشة المتناثرة تقريباً في كل القارات. والنظام العالمي الراهن (أو اللا نظام) بكل ما فيه من عنتريات ومغامرات وإخفاقات. كلما زادت مشكلات الدول الهشة عدداً وتفاقمت نوعاً كلما تخلخل النظام الدولي وسال. بالمثل، كلما زادت السيولة الدولية كلما زاد عجز الدول الهشة وتضاعف اضطرابها. إنها علاقة طردية أو علاقة تغذية متبادلة تصنع حلقة مفرغة لا النظام الدولي يعرف كيف يكسرها ولا الدول الهشة تعرف طريقةً للهروب منها. ولعل المتصل الخطي والجدول التاليين يلخصان تلك الحالة: دولُ هشة على جانب ونظام عالمي سائل على الجانب الآخر. طرف ينقل الفوضى من داخل الدول إلى النظام الدولي فيزيده سيولة. ونظام دولي يعيد السيولة من جديد إلى تلك الدول ليزيدها هشاشة.
متصل خطي continuum يبين العلاقة التفاعلية بين الهشاشة الوطنية (الدول الهشة) والسيولة الدولية (فوضى النظام العالمي)
مؤشرات الهشاشة داخل الدولة من واقع مقياس الدول الهشة وما يقابلها من مؤشرات شبيهة للسيولة الدولية
وباعتبارها محاولة لرؤية القادم، سوف تكتفي هذه الورقة بتقديم بعض الأفكار الأولية من خلال ثلاث وقفات سريعة مع: أ- التعريفات، ب- رحلة السقوط في فخ الهشاشة، ج- عملية تسييل النظام الدولي
من تعريف المشكلة إلى مشكلة التعريفات
يساعد ضبط المصطلحات من البداية في تعريف المشكلة وفهم أبعادها. ولكن ليس دائماً. فأحياناً ما يتحول ضبط المصطلحات نفسه إلى مشكلة. والسبب وراء ذلك بسيط وهو أن المصطلحات ليست عمياء وإنما ترى بعيون من يستعملها. المصطلحات والمفردات في العلوم الاجتماعية تخرج إلى التداول وهي ملونة. لا تولد بمعنى واحد لها في أذهان الجميع وإنما بألف معنى. والأمثلة كثيرة. "الإرهاب" مثلاً كان وما يزال محلاً لاختلاف وشقاق بل وسبباً في وقوع الإرهاب. "الثورات الملونة" بدورها مصطلح مثير للاختلاف. مهما حاول من يستعمله ضبطه إلا ويشب خلاف واسع بين من يراها حركات اجتماعية مشروعة ضد الظلم وبين من يعتبرها مؤامرات يحركها الخارج. مصطلح "البلدان المتخلفة" جلب بدوره كثيراً من المشكلات. فلما تم حلها بتعبير "العالم الثالث" وقعت مشكلات من نوع آخر. ولما خرج مصطلح "البلدان النامية" إلى التداول لم تتوقف المشكلة. فكيف توضع دول بقدرات ماليزيا وسنغافورة وتايلاند في مجموعة واحدة مع دول مثل النيجر وجامبيا وطاجيكستان. ولما طور عالم الاجتماع الروسي جريجوري ميريسكي مصطلح "بلدان العالم الرابع" ليحل المشكلة بالتمييز بين بلدان نامية تفوق قدراتها بلدان نامية أخرى نتجت مشكلات جديدة تراوحت بين الرفض السياسي والجدل الأكاديمي. والمشكلة تتكرر مع مصطلحي "الدول الهشة" و"السيولة الدولية". إذ كلما جرت محاولة لضبطهما إلا واستجدت مشكلات تحول التعريف نفسه من حل إلى مشكلة.
ضبط المصطلحات له فائدتين: أ- مساعدة الباحث في أن يستعمل المفاهيم بطريقة تطابق ما استقر الرأي عليه في الأدبيات الخاصة بالموضوع الذي يدرسه. وهو أمر محمود لأنه يعزز التراكم العلمي ويحفظ وحدة الجماعة العلمية المشتغلة بالموضوع عندما يستعمل أهلها الكلمات بنفس الكيفية ليجمعهم قاموس واحد يميزهم. ب- إعطاء الباحث من البداية مفاتيح مفيدة لحل السؤال الذي يطرحه. فالإجابات التي نتوصل إليها في نهاية أبحاثنا ترتبط بالتعريفات التي نقدمها في بدايتها.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة مع مصطلحي "الدول الهشة" و"السيولة الدولية". وأسباب ذلك عديدة يمكن توضيحها على النحو التالي:
أ- فيما يخص "الدول الهشة"
1- تنكر الدول الموسومة بالهشاشة من الأصل أنها هشة وتعتبر ذلك إهانة أدبية وانتقاصاً من سيادتها وتشويهاً لسمعتها. وإذا ما نفي صاحب المشكلة وجودها، فعلى الباحث أن يتخوف من استعمال مصطلح يؤكدها.
2- تعتبر الدول الهشة أن المقياس الذي يطبق عليها أداةً استعمارية ترعاها مؤامرات خارجية ومحاولات شيطانية للتدخل في شؤونها.
3- يتساءل المنتقدون للمصطلح عن صحة وضع دول بينها فروق كبيرة في مجموعة واحدة. فاليمن وفنزويلا، وميانمار ونيجيريا، وأفغانستان وأيفوري كوست، بينها اختلافات بنيوية وسياسية واقتصادية وثقافية كبيرة. ومع هذا يجمعها مقياس الدول الهشة معاً في حزمة واحدة.
4- يوجه النقد إلى المصطلح باعتباره مصطلحاً غربياً منحازاً يُلقي بالاتهام على كاهل المستضعفين ويبرئ ساحة المستعمرين. مصطلح يدين الدول النامية ولا يبيّن أنها ما تزال ضحية للاستعمار. والاستعمار هنا، كما ذهب يوهان جالتونج، ليس هو الاحتلال التقليدي وإنما الاستعمار الجديد neo colonialism الذي غرس نفسه هيكلياً في كافة بنى ومؤسسات مستعمراته السابقة. لذلك، لو بقيت تلك الدول المعذبة إلى اليوم في حالة هشة فإن ذلك لا يعود إلى خطأ فيها وإنما إلى دور العامل الخارجي السلبي في حياتها.
5- تعبير "الدول الهشة" معيب لأنه ولد من رحم تعبير آخر معيب هو "الدول الفاشلة". ومثلما تم الاستغناء عن المصطلح الأخير لأسباب علمية وسياسية، يتعين التوقف عن استعمال المصطلح الأول لأنه لا يقل سوءً عن سابقه.
6- ما يسمى اليوم "بالدول الهشة" واجهته بلداناً أخرى تعد اليوم متفوقة عندما كانت تمر بمرحلة إعادة بناء الدولة. لهذا، لا يوجد ما يبرر حصر الهشاشة في الدول التي يشير إليها المقياس بالاسم. فبلدان مثل إفريقيا الوسطى وسوريا والعراق تواجه نفس أزمات الشرعية والهوية والتوزيع التي واجهتها في يوم ما وربما تواجهها إلى اليوم دول مثل صربيا والهند وروسيا والمكسيك وإسبانيا.
7- يتعمد مصطلح الدول الهشة تصدير الإحباط ونشر اليأس في مناطق بعينها من العالم دون غيرها، ويعبر عن عنصرية أوروبية ومركزية غربية eurocentrism، مقيتة اعتادت أن تضع دول الشمال الصناعية حكماً على باقي الكرة الأرضية.
ب- وفيما يخص "السيولة الدولية"
1- تنكر القوى الكبرى وجود سيولة دولية من حيث المبدأ لأنها لو فعلت فإنها تدين نفسها وتشوه صورتها وتقلل من قدراتها على ضبط حركة النظام الدولي والسيطرة على تفاعلاته والإمساك بزمام الأمور فيه.
2- إن النظام الدولي عرف منذ الأزل الفوضى وغياب السلطة المركزية، وهو اليوم يعيش نفس الظواهر. لكنه مع ذلك ما زال يحتفظ بمساحة إيجابية تلعب فيها المنظمات الدولية والقانون الدولي دوراً مهماً في ضبط تفاعلات اللاعبين الدوليين.
3- إن "السيولة الدولية" مصطلح مغرض يوحي بوصول العلاقات الدولية إلى حافة الهاوية إن لم يكن إلى الانزلاق المطلق نحو الفوضى الشاملة. وفي ذلك تجاهل لما يجري من تعميق للتعاون الدولي والاعتماد المتبادل والتشبيك وبناء التحالفات وكلها من علامات التماسك الدولي وليس السيولة.
4- وجود كتلة من البلدان الصناعية الديمقراطية المتقدمة وكتلة أخرى من البلدان الناهضة ينفي تحول النظام الدولي إلى ساحة سائلة عاجزة عن بناء نماذج تحتذى.
5- في ظل وجود برامج واضحة للسياسة الخارجية واستراتيجيات طويلة المدى تتبعها الدول الكبرى تنتفي فكرة العشوائية الكاملة والفوضى المطلقة والسيولة اللانهائية في النظام الدولي.
6- إن تدخلات النظام الدولي في الدول الهشة تتم وفق برامج ومشروعات ورؤى استراتيجية تسعى إلى تثبيت أوضاع تلك الدول ولا تتم بطريقة فوضوية.
7- استطاع النظام الدولي عبر التاريخ وفي أكثر من مرة أن يتحول من السيولة إلى التماسك ومن الفوضى إلى الانضباط بما ينفي أن السيولة الدولية حالة مستدامة. على سبيل المثال، فإن المرحلة السائلة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت إطلاق مشروع مارشال وتأسيس الأمم المتحدة وتوقيع اتفاقيات بريتون وودز والتي أسهمت كلها في استعادة التماسك الإقليمي في القارة الأوروبية وأعاد الفعالية لبلدانها وضبط كثير من التفاعلات الدولية حول العالم.
8- مهما زادت السيولة ومهما تفاقمت الفوضى إلا ويبقى للنظام الدولي بنية structure أي ترتيب هرمي ثابت وضوابط تدور وفقاً لها التفاعلات الدولية بين وحداته.
هاتان المجموعتان من التحفظات تشيران إلى صعوبة تعريف مشكلة الدراسة (علاقة الهشاشة الوطنية بالسيولة الدولية)، واحتمال أن يتحول الجهد من أجل تعريفها إلى مشكلة في حد ذاته. وقد تنسف تلك الحجج، إذا قبلناها، قيمة البحث وشرعيته لأنها تنفي وجود الدول الهشة والسيولة الدولية على السواء. لكن تلك التحفظات لا يجب أن تؤخذ على عواهنها أو تقبل على أنها كلام نهائي لسبب بسيط هو أنه لا يوجد كلام نهائي في العلوم عموماً وفي العلوم الإنسانية بشكل خاص، وإنما توجد باستمرار مدارس واتجاهات تتناقض وتطرح تصورات مختلفة. ولا ترى هذه الورقة الخلفية عيباً في استعمال تعبير الدول الهشة أو السيولة الدولية بل ترى أن العيب في تغافلهما تجاهل ما يستقيم مع البديهة والحس السليم.
رحلة السقوط في فخ الهشاشة
على عكس من يرفضون مصطلح "الدول الهشة"، لا ترى هذه الورقة غضاضة في المفهوم أو في استعماله. فالعين لا تخطئ وجود دول بالاسم فقط. الدول الهشة ليست خيالاً مريضاً أو سردية مختلقة أو رواية متوهمة نسجتها مؤامرات شيطانية وإنما حالات حقيقية لبلدان تأزمت أوضاعها بشدة، يستطيع من يقومون بأبحاث ميدانية أن يعايشوا ما تعانيه من ضعف وكيف أنها أصبحت أحد قطبي محور الشر في القرن الحادي والعشرين. الكونجو وطاجيكستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتشاد والنيجر ومالي وفنزويلا وغيرها من البلدان الشبيهة لها تاريخ مع الحروب الأهلية والعنف المحلي. بلدان تفتقر مجتمعاتها حتى اللحظة إلى الإحساس الجمعي بهوية وطنية مشتركة. مجتمعات يرى أفرادها أمانهم في اللجوء إلى جماعاتهم الأولية primordial group سواء كانت دينية أو لغوية أو عرقية. بلدان تكشف مؤشراتها الاقتصادية عن تفشي الفساد وضعف الإنتاجية والتبعية المزمنة للخارج. معروف عنها غياب التصنيع وسرقة المواد الأولية واستسلام الحكومات لعصابات الجريمة المنظمة. بلدان تعجز عن تقديم خدمات عامة صحية أو ثقافية أو تعليمية ذات معنى. ليست فيها سياسات عامة ولا سلطة مركزية واعية من الأصل بتلك السياسات. كل ما فيها يدفع بمن فيها إلى النزوح والهجرة والفرار. أصبح تصدير البشر بضاعتها الدولية الرائجة. ليست لها جيوش قوية تمنع التسلل الخارجي أو أجهزة أمن فعالة توفر الحماية للسكان. أهلها يتحملون مسئولية تأمين أنفسهم بأنفسهم ما تسبب في انتشار العنف وترسيخ ثقافة البلطجة وإعادة المجتمع بكل من فيه إلى وضع أشبه بحالة الطبيعة الأولى. بلدان تتصارع نخبها ولا تتعاون. تتنافس وتتقاتل على المال والقوة والموارد والأراضي وعلى لعب دور الوكيل عن القوى الخارجية.
دول منقسمة بين أوليجاركيات متنافرة وأمراء حرب متنابذين ونخب مفتتة لا يجمعها برنامج أو رؤية أو هدف. ينهش فيها بحدة مثلث الجوع والجهل والمرض. تنخفض فيها متوسطات العمر المتوقع عند الميلاد وتتراجع فيها نسبة الأطباء إلى المواطنين ونسبة المعلمين إلى الطلاب عن المتوسطات العالمية المستقرة. بلدان يحل فيها العرف محل القانون ويتقدم فيها الاحتكام إلى القوة على النزول على الشرائع. تتعطل فيها كل مؤسسات وأدوات الدولة. تطلب من مواطنيها ولاءً لا يمكنهم أن يمنحوه لها بعد أن خانت العقود الاجتماعية التي وقعتها معهم عند استقلالها. نسيت أنها مديراً لأملاك الناس ومواردهم وليست المالك الأصيل لها. صارت عبئاً على الفرد وليست عمقاً له. هذه باختصار هي الدول الفاشلة. الخارج منها مولود والداخل إليها مفقود.
ومثل هذه المؤشرات ليست بجديدة في التحليل العلمي للدول المتعثرة، لأنها شغلت من قبل المهتمين بدراسات المناطق area studies منذ ستينيات القرن الماضي، وبالتحديد المشتغلين بدراسة بلدان الجنوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث الكثرة الوافرة في حينه من الدول المستقلة حديثاً والناشطة في مجالي التنمية والتحديث. وبقدر ما أفاضت بعض الرؤى التحديثية المتفائلة في رسم آمال عريضة عن النجاح المنتظر لتلك الدول الناشئة، حذرت أخرى من احتمالات الفشل والتدهور، من بينها تحذير صامويل هنتجتون من خطر وقوع تلك البلدان في فخ الشكليات والهشاشة. وهو ما عبر عنه في دراستيه عن "التنمية السياسية والتآكل السياسي" في 1965 و"النظام السياسي في مجتمعات متغيرة" في 1968.
وعلى خلفية التحذيرات القديمة، لم يكن تطوير صندوق السلام لمقياس الدول الهشة بأمر غريب. وإنما جاء كتأكيد على مخاوف في محلها من أن تعجز الدول المستقلة حديثاً عن حل أزمات بناء الدولة المعروفة وهي الشرعية والهوية والتكامل والتوزيع والتغلغل. خوف من ألا ترضى عنها مجتمعاتها (أزمة شرعية)، وألا يجمع بين مكوناتها شعور مشترك (أزمة هوية)، وأن تنقسم مناطقها إلى دول داخل الدولة (أزمة تكامل)، وأن تنحاز إلى الأغنياء والمحاسيب ضد الفقراء والمشاطيب (أزمة توزيع)، وأن تعجز حكوماتها عن إثبات قوتها وتواجدها بين الناس (أزمة تغلغل).
أما كيف وصلت الدول الهشة إلى هذه الحالة، فيبدو أن ذلك مر بثماني مراحل.
1- مرحلة الأحلام الكثيفة
وتلت الاستقلال وتميزت بالإسراف في الوعود الحالمة. من الوعد بالديمقراطية والحريات إلى الوعد بالعدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة، إلى الوعد بتوفير الأمان وتقديم كل الخدمات التي توفرها الدول الحديثة لمواطنيها. في هذه المرحلة وقعت ثورة توقعات متزايدة لدى الناس. وكان ذلك أمر شديد الخطورة. فالأحلام والوعود قد تفيد من يطلقها في البداية في تعزيز شرعيته ونيل رضاء الناس. لكن عدم تحقيقها، بل والوصول إلى واقع مرير يخالفها، ينتهي بالموعودين وهم ناقمون بعد أن كانوا راضين. وهنا تبدأ مرحلة جديدة.
2- مرحلة المجتمعات الهشة
وبدأت عندما شعرت المجتمعات الموعودة بالجنة بأنها خدعت، وأن السلطة التي كانت تعول عليها في تحقيق أحلامها غدرت بها وتركتها في العراء لتعيش المخاطر بنفسها. هذه الصدمة (صدمة الإحباطات المتزايدة) تسببت في تفكيك المجتمع ودفعت بأفراده ومكوناته الدينية والعرقية واللغوية إلى الابتعاد عن بعضها لسبب بسيط وهو أن الإنسان في وقت الأزمة عادةً ما يندفع بالغريزة إلى البحث عن أي طوق للنجاة بمعزل عمن حوله. وبسبب تفكك الروابط المجتمعية وغياب سلطة عامة عادلة بدأت المجتمعات ذاتها تعاني من الهشاشة. سادتها حالات من السلبية والعدمية إلى حد أن مكونات المجتمع بدأت لا تطيق بعضها. فانتشرت بينها ضغائن وصراعات تجاهلتها الحكومات أو تعاملت معها بفتور مفضلةً أن تُشغل الناس بها ليبتعدوا عنها لتواصل هي هيمنتها على السلطة والموارد العامة. باختصار لا توجد دول هشة إلا في ظل مجتمعات هشة روابطها وعلاقاتها هشة بل ومهشمة.
3- مرحلة الهشاشة العرضية
واتضحت فيها كل أعراض ومظاهر الضعف عياناً بياناً. ظهرت في بيروقراطيات فاسدة، وتعليم متراجع، ومستشفيات عاجزة، وأمن مفقود، وشرطة ترعى الجريمة، وقضاء مرتش، وطرقات مهدمة، وأطفال شوارع، وتلوث بيئي، وسلوكيات اجتماعية معيبة، وتجارة في كافة الممنوعات، وسرقات، وإعلام كاذب، وجيوش تحمي نفسها، وغش تجاري، وما إلى ذلك من مظاهر الضعف بحيث لم تعد هناك سياسات عامة لها قيمة أو برامج حكومية عامة إلا إذا كانت ستاراً للاختلاس خدمةً للمصالح الخاصة. وبعد أن كثرت المظاهر العرضية للهشاشة تحولت مع مرور الوقت من وضع عرضي مؤقت إلى حالة دائمة. وهنا تبدأ مرحلة جديدة أسوأ.
4- مرحلة الهشاشة البنيوية
في تلك المرحلة تحولت الأعراض المؤقتة إلى حالة مستعصية ووضع مزمن مستدام. نشأت حالة بنيوية عميقة تركت أثرها على أسس الدولة نفسها بحيث لم تعد معالجة المظاهر السطحية والعرضية للهشاشة في ظلها مجدية أو ممكنة. تعرضت قواعد الدولة في هذه المرحلة للضعف الهيكلي. أصبحت الدساتير بلا معنى والقوانين بلا قيمة وتحولت المؤسسات من راع للنفع العام إلى غنائم تتسابق النخب على الاستحواذ عليها. كما أصبحت الهشاشة مسألة سلوكية عادية وثقافة عامة لا يهتم أحد بالتصدي لها بقدر اهتمامه بالتربح من ورائها. وعندما تصل الهشاشة الى عمق الدولة وقلب الدولة وأساس الدولة عادةً ما يتبع ذلك مرحلةً أشد خطراً هي الانتقال من الهشاشة العرضية إلى الهشاشة المرضية.
5- مرحلة الهشاشة المرضية
في تلك المرحلة تصبح الدول الهشة أشبه بالفيروسات. تصير معدية. وهنا تلتفت أنظار الخارج إليها وإلى عمق الأزمة البنيوية فيها بعد أن تتبين خطورتها. فالهشاشة متى ما تحولت من عرضية إلى بنيوية إلا وترتد في الفضاء العالمي الواسع لتصبح معدية ومرضية. تتحول من حالات محلية إلى عدوى دولية. الهشاشة مرض قابل للانتشار في الجوار الاقليمي للدول المتعثرة والتأثير على حزمة أوسع من البلدان التي تمر بظروف شبيهة. وفي ظل المخاوف الدولية المتزايدة من عدوى الهشاشة ينفتح الباب أمام التدخلات الخارجية. وهنا تبدأ مرحلة جديدة.
6- مرحلة الهشاشة الشرطية
وفيها يبدأ النظام الدولي في إيصال صوته إلى الدول الهشة لفرض شروطه عليها ووضع برامج إنقاذ لها. تتكلم القوى الكبرى صاحبة المصلحة عن رؤيتها واشتراطاتها للقضاء على الهشاشة وإنقاذ الدول المتعثرة من محنتها. وعندما توضع تلك الشروط تتعقد حالة الدول الهشة أكثر. فنخبها الفاسدة عادةً ما تكون مستعدة لعمل كل شيء للاحتفاظ بمكاسبها حتى لو لعبت دور الوكيل الموالي والخادم للخارج. والخارج ليس كله ملائكة بل تكثر بين دوله الشياطين. إن كان فيه من يحاول إخراج الدول الهشة من ورطتها إلا أن فيه من يتطلعون إلى الاستفادة والتربح من الإتجار في الهشاشة. وفي مثل تلك الأجواء يزداد الطين بلة. تجذب الدول الهشة الخارج إليها ليتصارع عليها بدلاً من أن يتفق على انقاذها. وفي ظل عجز الداخل عن التوافق على مخرج من الهشاشة تشتبك القوى الخارجية في مشروعات متناقضة ما ينتهي بالدول الهشة وهي تنتقل إلى مرحلة أخطر عندما تتحول من دول هشة إلى أشباه دول.
7- مرحلة شبه الدولة
وفيها تصبح الدولة حبراً على ورق. أرض وشعب وحكومة وسيادة لكنها لا تصنع دولة. دول صورية. دول بالاسم فقط. الحكومة فيها ضعيفة لا تستطيع السيطرة على الأرض أو تقديم الخدمات الأساسية لمن عليها. والشعب بدوره لا يطيق الحكومة. يفلت من سيطرتها ويفر من الدولة كلها بالنزوح والهجرة إن استطاع أو بالاغتراب والإرهاب. والسيادة فيها من الأوهام بعد أن تحولها التدخلات الخارجية إلى حالة افتراضية. وعند هذا الحد تتعقد الأمور لتصل إلى الذروة وإلى المرحلة الأخيرة.
8- مرحلة الدولة الشبهة
وهي مرحلة الالتقاء الكبير بين الدولة الهشة والنظام العالمي. مرحلة يخاف النظام العالمي فيها من تصدير الهشاشة خارج حدود الدول الهشة لتتحول إلى مشكلة عالمية. مرحلة تتحول فيها الدول الهشة من إشكالية محلية إلى تهديد إقليمي وربما عالمي. يصبح فيها مواطنو الدول الهشة مشبوهين أينما ذهبوا. مجرمون إما مؤكدين أو محتملين. تصبح الدولة الهشة كلها شبهة. تتلخص صورتها في وسائل الإعلام الدولي على أنها تهديد وبؤرة للإجرام. تهرب منها الاستثمارات الأجنبية لأنها شبهة. تسلط أجهزة الاستخبارات العالمية أعينها عليها لأنها شبهة. يوقف مواطنوها عند الحدود وفي المطارات لأنهم شبهة. يخشى العالم من أن تتحول إلى ملاذ آمن للإرهابيين وعصابات الجريمة لأنها شبهة. وفي ظل تزايد القلق العالمي من تلك الدول الشبهة يبدأ النظام الدولي في اقتحام الدول الهشة. يزيد النظام الدولي تدخلاته فيها. فحتى لا يتأثر أكثر بمشكلاتها يقترب منها ويجد نفسه في قلبها. وهو التدخل الذي كثيراً ما ينتهي بالنظام الدولي وهو يُغرق الدول المتعثرة أكثر في هشاشتها.
السيولة الدولية أو الهشاشة على المستوى العالمي
تنتج السيولة الدولية لأسباب عديدة من أهمها اختلاف القوى الكبرى على القواعد الحاكمة للسلوك الدولي وصراعاتها المفتوحة على تقاسم النفوذ. يضاف إليها ما باتت توفره الدول الهشة من بؤر للصراع والتوتر والتنافس بين الأقوياء. ومثلما تؤثر الدول الهشة على تماسك النظام الدولي، يؤثر النظام الدولي على الدول الهشة. هي تزيده سيولة وهو يزيدها هشاشة. كيف يحدث ذلك؟ يحدث على عدة مراحل.
1- مرحلة سيولة الأفكار
الأفكار دائماً أول ما يسيل سواء في حياتنا الفردية أو نظمنا الاجتماعية والسياسية أو في النظام الدولي. فالأفكار لا تولد واضحة بل وقد تبقى غامضة ومائعة وسائلة بلا ضبط أو رابط لفترات طويلة. الأفكار هي اللبنات الأساسية التي تصاغ منها البرامج والسياسات والتصرفات. فإذا ما تشوشت وسالت واستعملت بشكل غير منضبط إلا ويليها اتساع لدائرة الفوضى. فالفكر أسبق على الحركة، والتصورات تأتي دائماً قبل التصرفات. خذ مثلاً كلمات انتشرت في النظام العالمي الراهن دون ضبط كبير فسالت وماعت وباتت بلا تعريف جامع مانع. كلمات مثل الخصخصة، والإرهاب، والعولمة، والتدخل الإنساني، والفاشية الجديدة، والرقمنة، وما بعد الشيوعية، وما بعد الأصولية. كلها كلمات تعبر عن أفكار غير متفق على معانيها. ثارت وما تزال تُثار بسببها نزاعات بين من يقبل بها ومن يقاومها، من يعتبرها خيراً ومن يراها شراً. تلك السيولة الفكرية لا تقف عند حد الصراع على ضبط المفاهيم وإنما تنتقل إلى مستوى أخطر هو سيولة المؤسسات الدولية المفترض أن تعمل على هدي تلك الافكار.
2- مرحلة سيولة المؤسسات
فالمؤسسات الدولية تعمل بالأفكار والدول والقوى الدولية عندما تتصارع، تتصارع بالمثل على التوجهات والأفكار. ومتى ما سالت الأفكار تسيل معها المؤسسات والوحدات الدولية التي تستعملها. والدول الهشة مصيبتها عظيمة. فهي سائلة خلقةً. ثم تأتيها من الخارج أفكار سائلة ونصائح مشوشة على يد مؤسسات ووحدات دولية هي بدورها سائلة إن لم تكن سائبة. فيضاف إلى هشاشتها المحلية هشاشة قادمة من الخارج لتجد نفسها تغرق في حالة من عدم اليقين. دول كمصر والجزائر مثلاً لا يوجد فيها اتفاق على أفكار كبيرة أتتها من الخارج مثل الخصخصة والعولمة. فيها نخب ضدها ونخب معها. جماهير تكرهها وأخرى ما زالت تنتظر وعودها. والخارج بدلاً من أن يرشدها يزيد قلقها. والأخطر من القلق الفكري، القلق المؤسسي. فالسيولة الفكرية المستوردة لا تقف عند حد الأفكار وإنما تمتد لتتحول إلى سيولة مؤسسية عندما تبدأ دول خارجية ومنظمات إقليمية ودولية في دخول ساحات البلدان الهشة بمشروعات شتى وأهداف مختلفة ومآرب متضاربة. تقول الأمم المتحدة في ميثاقها أشياء وتفرض القوى الخمس الكبرى في سياساتها مواقف أخرى. تتدخل مؤسسات التمويل الدولية لتفرض شروطها لسد عجز موازنات الدول الهشة. تستغل القوى الكبرى وقراصنتها الاقتصاديون الضعف الهيكلي للدول الهشة فيرهقونها بالاستدانة إلى أن يحولوها إلى دول تابعة لإحدى القوى الكبرى. يسود هرج ومرج مؤسسي في المنظمات الدولية ويسود معه هرج ومرج أخر في كل دولة هشة. وبعد سيولة المؤسسات تنتقل السيولة الدولية إلى مستوى أشد سوءاً وهو سيولة السلوكيات.
3- مرحلة سيولة السلوكيات
وفيها تتحول القوى الخارجية النافذة إلى البلدان الهشة من إدارة الهشاشة fragility management إلى الإدارة بالهشاشة managing by fragility أي من محاولة إيجاد حل للهشاشة إلى التربح والاستفادة من وجودها. تصبح الهشاشة مع مضي الوقت مصدراً لجني المنافع وذريعةً للتدخل الخارجي وسبباً لعقد تحالفات وشراكات ثمينة بين الخارج ووكلاء له في الداخل. تنشأ للهشاشة جماعات مصالح، أو للدقة تحالف من جماعات المصالح المحلية والأجنبية التي ترى فيها فرصة وليس تهديداً. عند هذه النقطة يتحول النظام الدولي إلى مصدر لتعميق الهشاشة، التي ما تلبث أن ترتد إلى النظام الدولي، الذي يعود بدوره ليكرسها من جديد في الدول المأزومة وهكذا دواليك في عملية تفاعل لا نهائية يغذي فيها شر الهشاشة الوطنية شر السيولة الدولية ليعود الشر الأخير ليفاقم من الشر الأول. وتلك هي خطورة محور الشر الحالي. الهشاشة الوطنية والسيولة الدولية قطبان يحفزان بعضهما. كل شر منهما على حدة يعد خطراً. وكل شر منهما لا يعيش بدون الآخر. وكل شر منهما يفاقم الآخر.
خاتمة: تفاعل الشرين
على عكس القرن العشرين الذي حاولت خلاله الدول المستقلة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط تحديث نفسها، يشهد القرن الحادي والعشرين عودة كثير من تلك الدول إلى حالة ما قبل الدولة. فبدلاً من الاستقلال تكرست التبعية. وعوضاً عن الإنجاز تراكم الفشل. وبدلاً من التماسك زادت الهشاشة. وعلى عكس القرن العشرين أيضاً الذي عرف استقرار نظام القطبية الثنائية ووفر قدراً من الوضوح والثبات لقواعد النظام الدولي، يشهد القرن الحادي والعشرين حالة غير مسبوقة من الميوعة والسيولة. ظهر فيه أفراد وخرجت فيه جماعات صغيرة تهدد الأمن العالمي بدرجة تفوق أحياناً تهديد الدول. وتفوقت فيه شركات عالمية بشكل عجيب إلى درجة أن بعضها بات أغنى وأقوى من كثير من الدول. وبدأت خلاله دول عظمى في التخبط بسبب حنينها إلى ماضيها الإمبراطوري ما دفعها إلى الدخول في سياسات خارجية توسعية. وفي ظل التفاعل بين هذين التحولين، الهشاشة والسيولة، لا يبدو أن العواقب ستكون طيبة. فالدول الهشة ليست لديها برامج وطنية للإنقاذ. كل ما يجري فيها خليط من البلبلة والخلخلة والجلجلة والزلزلة.
والنظام الدولي بدوره دخل إلى مرحلة اللا عودة. فهو لا يستطيع أن يعود إلى نظام القطبية الثنائية كما كان عليه خلال الفترة ما بين 1945 و1991، ويرفض نظام القطبية الأحادية الذي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه، ولا يستطيع التقدم نحو نظام يضم أقطاباً متعددة يقبلون ببعضهم. إنه نظام دولي مرتبك. أرباب البيت فيه مشتبكون مع بعضهم ومتشككون في بعضهم ومنكشفون أمام بعضهم. تتراجع فيه إجراءات بناء الثقة وتزيد فيه الهواجس. وليتها هواجس قاصرة على العلاقة فقط بين الكبار وإنما يضاف إليها هواجس الكبار من تفشي الهشاشة الوطنية في بلدان الجنوب وخوفهم من أن تصل إليهم على شكل هجرات وإرهاب وجرائم منظمة. لكن الكبار وهم يتشابكون ويتشككون وينكشفون يرتكبون مزيداً من الأخطاء، من بينها تدخلاتهم العشوائية في الدول الهشة حيث تزيدها هشاشة على هشاشة لتعود بدورها لتزيد علاقاتهم الدولية سيولة على سيولة. إنها حلقة جهنمية مفرغة ستمتد على الأرجح لزمن طويل من القرن الحادي والعشرين. لا الداخل الوطني فيها يبدو قادراً على كسرها ولا النظام العالمي يبدو خلالها مستعداً لوقف دورانها.