لقد ظلت سيناريوهات المستقبل والدراسات المستقبلية لفترة طويلة جدًا، بعيدة عن قائمة القضايا المتعلقة بأفريقيا. كان من الشائع في الأدبيات الغربية أن أفريقيا ليس لها تاريخ ومن ثم ليس لها مستقبل. ولعلنا نتذكر أن مجلة الإيكونومست، وصفت أفريقيا عام 2000 بأنها "القارة اليائسة". اليوم، مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، يبدو للكثيرين، بمن فيهم أولئك العاملون في القطاع المالي الدولي، أن أفريقيا هي في الواقع الجبهة الأخيرة للرأسمالية. لقد أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن مستقبل كوكبنا يتم صناعته في أفريقيا، سواء كان المرء يتعامل مع مسائل الأزمات البيئية وتغير المناخ واللاجئين والطاقة المتجددة وما إلى ذلك، وهو ما يعني أن أفريقيا عادت لتحتل مكانة بارزة في جدول الأعمال الدولي.
ولعل ذلك هو ما دفع إلى الاعتقاد بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنًا أفريقيا. هذا هو الأفق، وعلى الأفارقة تحقيق ذلك وعدم إضاعة الفرصة مرة أخرى. ويمكن في هذا السياق تحديد أربع رؤى أساسية تسهم في صوغ المستقبل الأفريقي وهي: مفهوم النهضة الأفريقية والذي ظهر أولاً كوثيقة رسمية في جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري ثم انتقل ليكتسب زخمًا على المستوى القاري، و حلم "أفروتوبيا" الذي صاغه الاقتصادي السنغالي فلوين سار ومفهوم "أفروبوليتانيزم"، أي الحداثة على الطراز الأفريقي كما صاغه المفكر الكاميروني الأشهر أخيل ميمبي، وأخيرًا "أفروفيوتشريزم"، أي النزعة المستقبلية الأفريقية التي ترتبط بأدب الخيال العلمي والفنون المرئية الرقمية وتستخدم المجال الافتراضي لمخاطبة الجماهير في كل مكان.
رؤية النهضة الأفريقية
ولدت فكرة النهضة الأفريقية من خطاب رئيس جنوب أفريقيا الأسبق ثابو مبيكي "أنا أفريقي" في 8 مايو 1996 أمام الجمعية الدستورية لجنوب أفريقيا. في ذلك الخطاب ألمح إلى ما يرمز إليه مشروع النهضة. أخبر ممثلي الشعب أن البداية الصحيحة كانت التأكيد على "أنني أفريقي"، وهي وجهة نظر لا تشير فقط إلى السياسة المستقبلية، ولكنها أيضًا تعترف بالروابط المشتركة بين جنوب أفريقيا وبقية القارة. وعلى الرغم من أن مبيكي لم يشر على وجه التحديد إلى النهضة الأفريقية في هذا الخطاب، إلا أنه قام بالتوكيد على الروابط العاطفية والأيديولوجية والسياسية اللازمة لدعوته إلى عصر النهضة. دعا مبيكي إلى تحرير الدول الأفريقية واقتصاداتها؛ ومؤسسة القيم التي يجب أن تحل محل الفساد وعدم الكفاءة؛ وكذلك السعي إلى التسوية السلمية للنزاعات، وتشجيع المشاركة المتمحورة حول أفريقيا والتي من شأنها تعزيز التجارة والتنمية المستدامة. وفي هذا السياق واستجابة لأزمة أفريقيا تصبح النهضة الأفريقية أمرًا حتميًا لأنها تتطلب أجندة ما بعد قومية والتي تأخذ المنطقة الأفريقية على محمل الجد، وتدعو إلى تنشيط المثل الثقافية التقليدية لأفريقيا، كما أنها تروج لثقافة سياسية جديدة. ولا يخفى أن مبيكي استعار المصطلح من مفكرين كبار مثل الشيخ أنتا ديوب وماركوس غارفي وكوامي أنتوني أبياه وآخرين من الذين بشروا بحلم النهضة الأفريقية.
سرعان ما قاد مفهوم النهضة عمليات التغيير المؤسسي في القارة والذي جسده تحول منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي في عام 2002، حيث تم تزويده بآليات أكثر قوة لتعزيز التنمية الذاتية استنادًا إلى "ميثاق حقوق الإنسان والشعوب ". وقد أدى مناخ التغيير هذا أيضًا إلى إنشاء برلمان عموم أفريقيا، والهيئة الاقتصادية للشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا (نيباد)، وآلية مراجعة الأقران الأفريقية لمراقبة الحكم الرشيد. وتهدف جميع هذه المنظمات إلى حل المشكلات والنزاعات الأفريقية. وبحسبانها هيئات دولية، تشكل هذه المنظمات جزءًا لا يتجزأ من اندماج أفريقيا في المجتمع الدولي. ولعل ذلك كله أدى إلى تحسن اقتصادي في عالم يتحول إلى مزيد من العولمة والخروج من إسار الأحادية القطبية.
وتشكل الثقافة والهوية الأفريقية محور مشروع ثابو مبيكي. يقول في ذلك: "في عالم اليوم سريع العولمة، نواجه خطر الاستسلام للثقافة السائدة المنتشرة، ثقافة كوكا كولا على حساب ثقافاتنا وهوياتنا وتراثنا الوطني. وتسعى هذه الثقافة المعولمة إلى تجاوز أنظمة المعرفة الخاصة بنا وقيمنا وأخلاقنا، كما أنها تُنكر وجود حلول أخرى لتحدياتنا بخلاف تلك التي تفرضها الثقافات السائدة". لم يكن مستغربًا أن يدعو الأديب الكيني الكبير نغوجي واثيونغو، الذي يُعد أبو الرواية الكينية، إلى الحفاظ على اللغات الأفريقية الأصلية، الأمر الذي يساعد على "إحداث نهضة في الثقافات الأفريقية" وإزالة استعمار العقل. وقد شدد نغوجي على دور اللغة في بناء الهوية الوطنية وكتابة التاريخ بعيون غير غربية.
رؤية أفروتوبيا
يتحدث فلوين سار مستندًا على أعمال فرانتز فانون، عن أن المسارات الغربية للتحديث تتضمن فهمًا غائيًا للمستقبل. ولذلك نجد أن أهداف الألفية أو أهداف التنمية المستدامة تحصر البلدان النامية في ميدان التخلف عن مسار التنمية المتجهة صوب الحداثة. ومع ذلك، فإن مثل هذا التقليد الحداثي الغربي لا علاقة له بالوقائع المحلية ويغذي التمثيلات التشاؤمية للقارة الأفريقية. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى تطورين كبيرين في القارة الأفريقية يوفران الآن ما يمكن أن نطلق عليه الحداثة البديلة التي تبتعد عن الغرب باعتباره القلب: الانتعاش الاقتصادي لأفريقيا نتيجة استخراج الموارد الطبيعية في السنوات القليلة الماضية واحتجاجات الشباب العاطلين والمهمشين، والذين لا يزالون على استعداد "للتحرر".
يذهب مشروع أفروتوبيا إلى ما هو أبعد من البرنامج الاقتصادي، حيث يوفر لمستقبل الشباب الأفريقي إطارًا مهمًا لإحداث ثورة ثقافية. يشرح سار في كتابه "أفروتوبيا"- الذي ظهر أولاً بالألمانية - أنه خلال الحقبة الاستعمارية، تم استبدال النماذج الاقتصادية الأفريقية القائمة على التقاليد الأفريقية الفريدة باقتصاد موجه نحو السوق قائم على التبادل، لكنه يجادل بأن الإنسان الأفريقي لا يزال غير اقتصادي بالمفهوم الرأسمالي. في الواقع، يكمن نصيب الأسد من الاقتصاد الأفريقي الذي يعد مصدر معيشة الكثيرين في الاقتصاد غير الرسمي. وعوضًا عن القطاع الرسمي يتم الاعتماد على العلاقات الاجتماعية والمشاركة والتضامن المجتمعي. وعليه، فإن البنية التحتية النفسية للإنسان الأفريقي تظل مدفونة في ظل فلسفة إمبريالية للنمو والاستغلال. لقد نجت بعض هذه الممارسات التقليدية، على الرغم من إدخال اقتصاد السوق، في القطاع غير الرسمي.
ويطالب سار بالتوازي بضرورة إنهاء استعمار حقيقي وتشكيل جديد للهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لقد اكتسب سار شهرة دولية من خلال تقرير شارك في تأليفه بعنوان "إعادة التراث الثقافي الأفريقي" الذي دعا فيه إلى إعادة الهوية والكرامة إلى مستقبل الشباب الأفريقي. إن التعويض هو إحدى طرق إعادة المعنى للشباب الذين يعانون من فقدان التوجه ويفتقرون إلى الإحساس بالتاريخ الأفريقي. يناصر سار الشباب الأفريقي المشوش من خلال التأكيد على حقهم في التراث الفني والثقافي المحتجز في المتاحف الأوروبية. وتمثل الأشياء المعروضة في المتاحف الأوروبية، من ناحية، تشابك التاريخ الأوروبي والأفريقي خلال الحقبة الاستعمارية وحتى اليوم. ومن ناحية أخرى، ترمز إلى تجارة الرقيق والاستعمار وخطاب التنمية الحالي الذي تسبب في حدوث انقسامات هائلة في بنية المجتمع الأفريقي.
لقد أدى فقدان القيم المادية وغير المادية، مثل اللغات وأنظمة المعرفة، إلى عقدة النقص وأزمة الهوية. كما أعاق الانفصال القسري عن التقاليد الصعود الأفريقي وأدى عوضًا عن ذلك إلى قبول الهياكل المهيمنة. من الجدير بالذكر أن مشروع "أفروتوبيا" موجه إلى كل من الأوروبيين والأفارقة من أجل تشكيل عقلية ما بعد الاستعمار على جانبي البحر الأبيض المتوسط. إنه مشروع يقدمه الشباب الأفريقي من خلال الموسيقى والفنون للقوى الاستعمارية السابقة في بلدانهم الأصلية، ولا يمكن تحقيقه من خلال نخبهم السياسية التي رضخت واستكانت لهيمنة الحداثة على النمط الغربي. ويقترح فلوين سار الكشف عن الإمكانات المفقودة وتحقيق التوازن بين تراث مرحلة ما قبل الاستعمار وتحديات النهضة والتقدم. وهذه معضلة كان المفكرون الأوائل في فترة ما بعد الاستعمار مثل كوامي نكروما وجوليوس نيريري يعملون على مواجهتها.
الأفروبوليتانية: نحو مشروع حداثة أفريقية
تُفهم الحداثة الأفريقية على أنها فترة تاريخية أو موقف فكري يتميز بالتشكيك تجاه التحديث الغربي. وتمثل الثمانينيات والتسعينيات فترة انتقاد صريح لمسارات التنمية الشاملة وإمكانية تكرارها، وهو ما يجسد التفكير ما بعد الاستعماري . وتستحوذ الحداثة على الطراز الأفريقي على عناصر من ثقافات مختلفة، ومع ذلك فهي أيضًا جزء من نظام عالمي. المجتمع المتخيل الذي يحدد معالمه ميمبي ليس دولة قومية. إن رؤية ميمبي هي بالأحرى رؤية مستقبل عالمي ترتبط فيه أفريقيا بالعالم، حيث لا يوجد عالم بدون أفريقيا، ولا يوجد جزء من أفريقيا غير متأثر بالعالم. كطريقة للمضي قدمًا، يدعو ميمبي المفكرين الأفارقة - وكثير منهم في بلاد المهجر - إلى عرض آفاق مستقبل جدير بالاهتمام، وهو يدعي أنه من خلال المواطنة والدمقرطة الحقيقية، سيصل المثقفون الأفارقة في نهاية المطاف إلى التفكير ما بعد الكولونيالي، والذي يراه سائدًا في المدن الحضرية، حيث تتشكل ثقافة جديدة عبر وطنية. وفي هذا السياق، يعلق ميمبي آماله على النخب الحداثية الأفريقية التي تحافظ على الشبكات في جميع أنحاء العالم. على هذا النحو، تعد الحداثة على الطراز الأفريقي مشروعًا باتجاه مستقبل العالم.
يوضح أخيل ميمبي أن العديد من الأفارقة قد استوعبوا نموذجًا من الحداثة على النمط الغربي الموعود به خلال الحقبة الاستعمارية وما بعدها، وأن إنهاء الاستعمار بالنسبة لهم لم ينتج عنه قطيعة مع النموذج الاستعماري للمستقبل. بفضل تعليمهم، لا يزال العديد من الأفارقة يعتبرون أنفسهم جزءًا من المحيط العالمي، ويمكن تفسير الهجرة إلى أوروبا جزئيًا على أنها هروب من المحيط إلى مركز العالم. وعليه فإن "الأفروبوليتانية" هي رد فعل معاصر على رؤية "التشاؤم الأفريقي"، إذ إنها استجابة يقودها بشكل أساسي الشباب ذوي التعليم الغربي، والذين يبحثون عن إطار عمل للمساعدة في توجيه حياتهم عبر الوطنية، ورؤية جديدة تشمل هوياتهم المتعددة والمتغيرة.
"أفروفيوتشريزم ": النزعة المستقبلية الأفريقية
في فيلم الخيال العلمي الكيني "بومزي" تجري الأحداث في هيكل مستقبلي بعد 35 عامًا من الحرب العالمية الثالثة، والمعروفة باسم "حرب المياه"، حيث لم يتبق منها شجرة واحدة على وجه الأرض، وكل ما تبقى هو صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء. تم إنتاج الفيلم من قبل استوديو في جنوب أفريقيا، حيث يسعى إلى نشر أشكال مبتكرة من المحتوى الثقافي من داخل الدول الأفريقية. وعلى أي حال، يشير مصطلح النزعة المستقبلية الأفريقية إلى بداية نظام زمني جديد ومجال اجتماعي مختلف تمامًا مقارنة بالحاضر. إنه يحكي قصة موسيقيين وفنانين وكتاب وفلاسفة وصانعي أفلام ومصممي أزياء ونشطاء وأكاديميين آمنوا بمستقبل أفضل لكل الأفارقة في داخل القارة وخارجها.
ويمكن فهم النزعة المستقبلية الأفريقية، بشكل أكثر تحديدًا، على أنها حركة اجتماعية وسياسية وفنية واسعة النطاق تتخيل صورة عالم جديد تقوم فيه الشعوب المنحدرة من أصل أفريقي وثقافاتهم بدور مركزي في تأسيس هذا العالم . الهدف هنا هو خلق حوار حول المستقبل الطموح وبناء مدينة فاضلة في مجال افتراضي. باختصار، "المستقبلية" هي استراتيجية لبناء مجتمع أفريقي مثالي. يقترح مشهد الفن والأدب مجتمعًا موحدًا يترك وراءه العرق والطبقة والجنس، وهو ما يعني أن القضاء على الفروق بين العرق والجنس يمثل الأسطورة التأسيسية للعصر الرقمي، حيث ستنهي التكنولوجيا عبء الهوية الاجتماعية. وهكذا، وفرت شبكة الإنترنت منصة لتأسيس "إنسانية راديكالية" شاملة لم تكن متصورة في أي وقت مضى. وقد أنتجت هذه الحركة التي يقودها الأمريكيون من أصل أفريقي صور خيال علمي، وموضوعات مستقبلية، وابتكار تكنولوجي، مما أوجد نوعًا مستقبليًا من الأفلام والأدب والوسائط المتعددة والأعمال الفنية المرئية وثقافة البوب والأزياء الأفريقية.
خاتمة
في أكتوبر 2017، أطلقت اليونسكو مشروعًا مبتكرًا تحت عنوان "تصور مستقبل أفريقيا". الهدف من هذا المشروع هو تنسيق التفكير في مستقبل أفريقيا وتعزيز القدرة على التنبؤ في القارة. على وجه الخصوص، يعمل النظام الجديد لمحو الأمية المستقبلية كأداة لتعزيز القدرة بشكل كبير على تصور واستخدام المستقبل. من الواضح أننا في لحظة يمكن فيها رؤية تحولات سياسية واقتصادية وثقافية كبيرة تحدث في أفريقيا. على سبيل المثال، على مدار العقدين الماضيين، شهدت القارة معدلات من النمو الاقتصادي تعد من بين أعلى المعدلات في العالم. بالطبع، هذا الكم الهائل من الثروة التي يتم إنتاجها لا يتم إعادة توزيعه بالتساوي. إنه لم يؤد بعد إلى مستويات عالية من التوظيف. وعليه، فإن أفضل طريقة لقراءة القارة هي البعد عن كل من المنظور التشاؤمي الذي يعني نهاية العالم والمنظور الرومانسي الذي لا يتوافق مع الواقع. إن أفضل طريقة لفهم أفريقيا هي الانفتاح على ما هو غير متوقع من أجل إدارة حالة عدم اليقين المستقبلية. هذه هي أفضل طريقة يمكننا من خلالها فهم طبيعة الديناميكيات الحالية التي تشهدها القارة الأفريقية. ولا يخفى أن الرؤى الأربعة للمستقبل الأفريقي التي طرحها هذا المقال تؤكد في مجملها على أن قضايا المستقبل الأفريقي أصبحت على قائمة الاهتمامات المتعلقة بصياغة العالم الذي نعيش فيه. لا يمكن بعد اليوم تجاهل أفريقيا أو اعتبارها نسيًا منسيًا كما فعل الأوروبيون من قبل. ولعل السبب يكمن ببساطة في أن أفريقيا هي التي سوف تصوغ مستقبل العالم.