جاءت النتائج الأوّلية للانتخابات النصفية الأمريكية لتبدد المخاوف من سيطرة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتيار "رافضي الانتخابات" Election Deniers الموالي له على مجلسي النواب والشيوخ وعلى حكومات وبرلمانات الولايات. فقد نجح الحزب الديمقراطي في الحفاظ على أغلبيته المحدودة في مجلس الشيوخ بينما نجح الحزب الجمهوري في تحقيق أغلبية محدودة في مجلس النواب، وهو ما جاء مخيباً لتوقعات ترامب بأن تشهد الانتخابات النصفية موجة حمراء.
وقد فشل العديد من المرشحين الموالين لترامب في الفوز في الانتخابات في ضربة موجعة لتياره، كما أن رون ديسانتيس حاكم فلوريدا- وهو المنافس الرئيسي لترامب على قيادة الحزب الجمهوري- حقق انتصاراً كاسحاً في الولاية، بما يجعله المرشح الجمهوري الأقوى للانتخابات الرئاسية القادمة.
وقد انعقدت الانتخابات النصفية الأمريكية في 8 نوفمبر 2022 وذلك لانتخاب كل أعضاء مجلس النواب وعددهم 435 نائب (يتم انتخابهم كل عامين) وثُلث أعضاء مجلس الشيوخ وعددهم 35 نائباً من إجمالي 100 نائب (يتم انتخابهم كل ستة أعوام بمعدل الثُلث كل عامين)، وشهدت الانتخابات أيضاً انتخاب 36 حاكم ولاية و27 سكرتير ولاية من إجمالي 50 ولاية، بالإضافة إلى انتخاب عدد كبير من المناصب التشريعية المحلية منها انتخاب 6279 نائب من أصل 7383 نائب في مجالس الولايات التشريعية.
وشملت الانتخابات كذلك عدداً من الاستفتاءات على قوانين محلية، ومنها قوانين خاصة بتقنين الإجهاض بعد أن قامت المحكمة العليا في يونيو 2022 بإلغاء قانون فيدرالي يلزم الولايات المختلفة بتقنين الإجهاض وتركت حرية الاختيار لكل ولاية.
وبالرغم من أن الانتخابات النصفية عامة ما تحظى باهتمام ومشاركة أقل مقارنة بالانتخابات الرئاسية، إلا أن انتخابات 2022 كانت مختلفة لأنها شهدت منافسة محتدمة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في ظل حالة استقطاب سياسي ومجتمعي واسعة وفي ظل حالة تعبئة سياسية ودعم مالي غير مسبوق لمرشحي الحزبين. وفي الأسابيع السابقة على الانتخابات، أشارت العديد من استطلاعات الرأى إلى أنه من المتوقع أن يحقق الحزب الجمهوري نجاحات كبيرة في هذه الانتخابات خاصة في ظل أزمة التضخم والغلاء التي يعاني منها المواطن الأمريكي والتي نتج عنها تدني كبير في شعبية الرئيس جو بايدن في الشهور الأخيرة.
ورأى الكثير من المحللين أن تركيز الحزب الديمقراطي على قضايا حرية الإجهاض وحماية الديمقراطية وعدم إعطاء الأولوية للقضايا الاقتصادية والأمنية مثل الجريمة والهجرة غير الشرعية التي ركز عليها المرشحون الجمهوريون في حملاتهم الانتخابية والتي جاءت في مقدمة أولويات قطاع مهم من الناخبين، سوف يساعد الحزب الجمهوري في تحقيق نجاحات انتخابية مهمة، وهو ما أكدت عليه استطلاعات الرأى في الأيام السابقة على الانتخابات، عل نحو دفع ترامب إلى الإعلان عن أن الولايات المتحدة ستشهد موجة حمراء في انتخابات 2022 في إشارة إلى الولايات المؤيدة للحزب الجمهوري والتي تعرف بالولايات الحمراء، ولكن جاءت النتائج الأوّلية للانتخابات مغايرة لهذه التوقعات ولم تتحقق الموجة الحمراء التي توقعها ترامب.
النتائج الأوّلية
تشير النتائج الأوّلية للانتخابات إلى أن الحزب الجمهوري سوف يحصل على أغلبية محدودة في مجلس النواب، ولكن بنسبة أقل من التي توقعها ترامب وأنصاره. وتكشف آخر الأرقام أن الحزب الجمهوري نجح في الحصول على 211 مقعد في مقابل 204 للحزب الديمقراطي ولم تحسم النتيجة بعد فيما يخص 20 مقعد، ولكن تشير كل التوقعات إلى أن الحزب الجمهوري سوف يحقق أغلبية محدودة في مجلس النواب بعد حصر النتائج النهائية.
وفيما يخص مجلس الشيوخ، فقد نجح الحزب الديمقراطي، وبعد منافسة ضارية في عدد من الولايات المتأرجحة، في الحفاظ على أغلبيته المحدودة، حيث نجح الحزب الديمقراطي، حتى الآن، في الحصول على 50 مقعداً في مقابل 49 مقعد للحزب الجمهوري، وتعتمد النتيجة النهائية على مقعد إضافي عن ولاية جورجيا والتي سوف تشهد انتخابات إعادة في 6 ديسمبر 2022 وتحتدم المنافسة بشكل كبير في هذه الولاية مما يصعب من إمكانية التنبؤ مسبقاً بالحزب الفائز.
وفي حالة ما إذا فاز الحزب الجمهوري بمقعد جورجيا لتكون النتيجة النهائية 50-50 كما هو الوضع في المجلس السابق، فإن نائبة الرئيس كامالا هاريس- والتي تشغل بحكم منصبها رئاسة مجلس الشيوخ- سيكون لها الصوت الحاسم لصالح الحزب الديمقراطي. والجدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي نجح في تحقيق عدد من النجاحات المهمة في عدد من الولايات المتأرجحة مثل بنسلفانيا واريزونا ونيفادا والتي احتدمت فيها المنافسة بشكل كبير بين الحزبين.
وفيما يخص حكام الولايات، فقد نجح 17مرشح ديمقراطي في مقابل 17مرشح جمهوري ولم تحسم النتيجة بعد في ولايتي اريزونا والاسكا. كذلك، لم ينجح أي مرشح من تيار "رافضي الانتخابات" في الفوز بمنصب سكرتير الولاية، وهو المسئول عن الإجراءات الانتخابية على مستوى كل ولاية، مما يعوق من خطة الحزب الجمهوري بتعديل الإجراءات الانتخابية لصالحه على مستوى الولايات.
أسباب الانحسار
بعد نجاح الحزب الديمقراطي في الحفاظ على أغلبيته المحدودة في مجلس الشيوخ وتزايد احتمالات حصول الحزب الجمهوري على أغلبية محدودة في مجلس النواب، اعتبر الحزب الديمقراطي وأنصاره نتائج الانتخابات مكسباً مهماً له، بينما اعتبرها الحزب الجمهوري، خاصة الجناح الموالي لترامب، خسارة كبيرة له. فما هي أسباب هذه الانطباعات وما هي تداعياتها المتوقعة على الحزبين؟
أولاً، لم تتحقق الموجة الحمراء التي تنبأ بها ترامب وأنصاره. فبالرغم من أزمة التضخم وغلاء الأسعار وتدني شعبية بايدن، فضلاً عن أن الحزب الحاكم عامة ما يفقد أغلبيته في الانتخابات النصفية، إلا أن الحزب الجمهوري لم يحقق النجاح الساحق الذي توقعه، حيث أن عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب الجمهوري على المستوى الفيدرالي وعلى مستوى الولايات جاء مخيباً لتوقعاته ولم ينجح في إحكام سيطرته على مجلس الشيوخ.
ثانياً، نجح ترامب وأنصاره في استبعاد معظم المرشحين الجمهوريين المعتدلين وتم تصعيد مرشحين جدد موالين لترامب ومنتمين لتيار "رافضي الانتخابات" Election Deniers في إشارة لرفضهم نتائج الانتخابات الرئاسية في 2020، وقد فشل عدد كبير من هؤلاء المرشحين في الفوز في الانتخابات مما مثل ضربة كبيرة لترامب وأنصاره المسيطرين حالياً على الحزب الجمهوري.
ثالثاً، حقق رون ديسانتيس حاكم فلوريدا- المنافس الرئيسي لترامب على قيادة الحزب الجمهوري- نجاحاً ساحقاً في ولاية فلوريدا والتي تعتبر من الولايات المتأرجحة، ويرى الكثير من المراقبين أن هذا النجاح الساحق لديسانتيس يجعله المرشح الأقوى للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو ما يضع مستقبل ترامب السياسي على المحك.
رابعاً، رغم الانتقادات التي وجهت لبايدن والحزب الديمقراطي لعدم منحهم الأولوية للقضايا الاقتصادية وقضايا الهجرة والجريمة في حملاتهم الانتخابية وتركيزهم على قضايا حماية الديمقراطية وحرية الإجهاض، إلا أن نتائج الانتخابات أثبتت أن رهان الحزب الديمقراطي على قدرة هذه القضايا على تعبئة القاعدة الحزبية وجذب المرشحين المستقلين والمتأرجحين كان صحيحاً، حيث أثبتت الانتخابات أن حماية الديمقراطية والحريات الشخصية كانت القضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لقطاع مهم من الناخبين.
خامساً، أدت حالة الانقسام والتعبئة السياسية التي صاحبت هذه الانتخابات والإحساس الواسع بأن هذه الانتخابات تمثل لحظة فارقة بسبب الخطر الذي يمثله ترامب وتيار "رافضي الانتخابات" على النظام الديمقراطي الأمريكي، إلى تزايد ملحوظ في نسب المشاركة في الانتخابات 2022، خاصة في أوساط الشباب، مما ساعد على كبح الموجة الحمراء المتوقعة وتوجيه ضربة موجعة لترامب وأنصاره.
تداعيات رئيسية
يتمثل أهم تطور نتج عن الانتخابات النصفية في تراجع فرص ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة وتصاعد فرص منافسه الرئيسي رون ديسانتيس. وبالرغم من أن ديسانتيس ينتمي أيضاً لتيار اليمين الشعبوي داخل الحزب الجمهوري، إلا أنه ينظر له كشخصية أكثر عقلانية واستقراراً من ترامب وأكثر قدرة على حشد تأييد الكتل المختلفة داخل الحزب الجمهوري وأكثر قدرة على التعاون مع الحزب الديمقراطي لتحقيق المصلحة الوطنية.
كذلك، فإن نتائج الانتخابات جاءت لتؤكد على نجاح الجناح المعتدل في الحزب الديمقراطي في حشد التأييد داخل الحزب وأيضاً في أوساط الناخبين المستقلين، مما يرجح استمرار سيطرة هذا التيار على الحزب في مواجهة الجناح التقدمي في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وأخيراً، فإن النتيجة الأهم للانتخابات النصفية هي التأكيد على صلابة منظومة الديمقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة وقدرتها على تجاوز التحديات واهتمام قطاع مهم من الناخبين الأمريكيين بحماية هذه المنظومة من الخطر الذي مثله ترامب وتيار "رافضي الانتخابات".