* المقال جزء من العدد رقم 99 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، نوفمبر 2022.
يعد التغير المناخي أحد التحديات العالمية الكبرى في القرن الحادي والعشرين؛ حيث يشكل تهديداً وجودياً لكل كوكب الأرض وإن تفاوتت آثاره بين بلد وآخر، ووفقاً لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ؛ فإن الاحترار العالمي واضح لا جدال فيه؛ وأن درجات الحرارة العالمية تزداد باطراد وبوتيرة يصعب احتواؤها ضمن عتبة 1.5 درجة مئوية. وتشير الأدلة العلمية أن ثاني أكسيد الكربون هو المحرك الرئيسي للتغيرات المناخية، إلى جانب غيره من غازات الاحتباس الحراري، ويجمع الباحثون على أن أنشطة الدول المتقدمة وغيرها ممن تتمتع ببصمة كربونية عالية هي المتسببة في الاحترار العالمي، وهناك علاقة سببية بين تلك الأنشطة وبين معظم الكوارث المناخية الناتجة عنها على مستوى العالم. وفي ظل عدم التزام الدول بأهداف اتفاق باريس، ستتفاقم التداعيات والعواقب، وستزداد وتيرة وحدة الظواهر المناخية المتطرفة والنادرة التي سيتعذر تلافيها؛ خاصة في الدول النامية التي تتحمل تبعات سلبية ليست مسئولة عنها، وتواجه تحديات متعددة تفوق قدراتها، خاصة مع ضعف حجم التمويل المتاح لها.
وتناقش هذه المقالة السبب الرئيسي لتفاقم التغيرات المناخية الحالية والمتمثل في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بإنتاج ودعم الوقود الأحفوري واستهلاك المزيد منه، ثم تحاول بعد ذلك تحليل تأثيرات وتداعيات التغيرات المناخية على الدول النامية، ولا سيما الأقل نمواً، وكذلك الدول الجزرية الصغيرة النامية، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تقع في الخطوط الأمامية لتداعياتها.
أولًا: الانبعاثات ودعم الوقود الأحفوري
يوضح تقرير «متحدون في العلوم» الصادر عام 2022 أن تأثيرات المناخ تتجه نحو منطقة دمار مجهولة، ورغم ذلك، فإن الدول ما زالت تُضاعف كل عام من إنتاجها للوقود الأحفوري؛ حيث تشير التقديرات إلى أن انبعاثات مجموعة العشرين تمثل 80 % من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية؛ نظراً لإنتاجها واستخدامها المتزايد من الوقود الأحفوري. ووفقًا لبيانات معهد الموارد العالمية، فإن مساهمة انبعاثات الغازات الدفيئة لـ 10 دول فقط تتجاوز ثلثي الانبعاثات العالمية بنسبة 68 % وهم: الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والهند، وروسيا، واليابان، والبرازيل، وإندونسيا، وكندا، وإيران.
وعلى الرغم من أن أوروبا تُعد مهد الثورة الصناعية التي أشعلت الكربون وغذت نظام الطاقة العالمي، فإنها تُعد في الوقت نفسه موطناً للدول التي تعهدت بالقضاء على جميع التلوث الناتج عن الغازات الدفيئة؛ حيث اعتمد الاتحاد الأوروبي قانون المناخ الذي حدد هدف مشترك لخفض الانبعاثات بنسبة 55 % بحلول عام 2030، من أجل أن تصبح أوروبا محايدة مناخياً بحلول عام 2050. ولضمان تحقيق ذلك قام بتخصيص 30 % من ميزانيته الممتدة لمكافحة المناخ. وعلى الرغم من ذلك، فوفقًا لوكالة البيئة الأوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي يُعد ثالث أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم بعد الصين والولايات المتحدة، ولا تزال بعض الدول الأعضاء يعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على الفحم؛ حيث يمثل نحو ربع توليد الطاقة في الاتحاد الأوروبي، كما أن قطاع الفحم يوظف في المناجم ومحطات الطاقة 238 ألف شخص في أكثر من 100 منطقة أوروبية من بولندا إلى إسبانيا. كذلك، يقوم الاتحاد الأوروبي حالياً باستثمارات ضخمة في الوقود الأحفوري، وإنشاء بنى تحتية ذات الصلة في ظل أزمة الطاقة العالمية التي سيكون لها أكبر الأثر على تفاقم التغيرات المناخية.
ولقد تضاعفت انبعاثات الصين أربع مرات خلال 25 عامًا الأخيرة، ووفقاً لأحدث المؤشرات، فإنها أكبر مصدر لانبعاثات الكربون في العالم بنسبة 28 % من الانبعاثات العالمية؛ إذ تعد مستهلكاً ومنتجاً لأكثر من نصف الفحم في العالم. وعلى الرغم من إعلان الرئيس الصيني الالتزام بالحد الأقصى لانبعاثات الكربون قبل عام 2030 وتحقيق حياد الكربون عام 2060، إلا أن تنفيذ العديد من استراتيجيات خفض الكربون لم ترق إلى مستوى التوقعات؛ حيث تُعد الصين الدولة الوحيدة في مجموعة العشرين التي زاد استهلاكها من الفحم بشكل ملحوظ. كما أن بنوكها التصديرية الكبيرة مثل: بنك التنمية، وبنك التصدير والاستيراد الصيني تواصل تمويل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم على مستوى العالم، ولقد توقعت جمعية الفحم الوطنية الصينية (CNCA) أن يزداد إنتاج الفحم في الصين، وأن الاستهلاك الكلي سيرتفع بنسبة 6 % بحلول عام 2025، رغم أهدافها الطموحة في إنتاج الطاقة المتجددة.
وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية كثاني أكبر مصدر للانبعاثات الكربونية بعد الصين؛ حيث تمثلان معاً حوالي 40 % من إجمالي الانبعاثات العالمية المسببة للتغيرات المناخية. وعلى الرغم من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن بخفض انبعاثات الكربون بنسبة تتراوح ما بين 50 : 52 % بحلول عام 2030، لتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، إلا أن اقتصاد الولايات المتحدة ما يزال يعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري في القطاعات الصناعية والنقل والزراعة وغيرها. فوفقاً للأكاديمية الوطنية للعلوم، فإن حوالي 81 % من إجمالي الطاقة المستخدمة في الولايات المتحدة يأتي من الفحم والنفط والغاز الطبيعي، ولقد زاد مؤخراً إنتاج الولايات المتحدة من الوقود الأحفوري؛ نظراً لتعهد الرئيس بايدن بمساعدة أوروبا على أن تكون أقل اعتماداً على الوقود الأحفوري الروسي، وذلك استجابة لأزمة الطاقة العالمية التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية.
أما الهند، فإنها تُعد ثالث أكبر دولة متسببة في الانبعاثات الكربونية العالمية بنسبة 7 %؛ حيث تعهدت بتحييد الانبعاثات الكربونية المسببة للاحتباس الحراري بحلول عام 2070 أي بعد عقدين من العام المستهدف 2050؛ إذ توجد لديها الكثير من مناجم الفحم، وسوف تزيد من اعتمادها على الفحم كمصدر رئيسي للطاقة لتوليد الكهرباء وتشغيل صناعتها الثقيلة.
أما روسيا فإن الفحم يستخدم على نطاق واسع؛ حيث أنها من بين مجموعة العشرين التي قدمت ثاني أكبر مبلغ لدعم الوقود الأحفوري بصفتها منتجًا رائدًا في ذلك المجال، ويرجع ذلك إلى استثمارات الوقود الأحفوري من قبل الشركات المملوكة للدولة والإعفاءات الضريبية، ولا تزال روسيا تجني المليارات من صادرات الوقود الأحفوري في ظل استمرار الحرب الأوكرانية الروسية، رغم العقوبات المفروضة عليها، مما سيكون له أعظم التداعيات السلبية على المناخ في الفترة القادمة.
ولقد اعتمدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تاريخياً على موارد الوقود الأحفوري بوصفه مكوناً مهماً من مكونات الاقتصاد، ولا يزال معدل الاستثمار في الطاقة المتجددة ضعيفاً جداً مقارنة بالاستثمار الضخم في الوقود الأحفوري المرتبط بالانبعاثات العالمية. ويمكن القول إن إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا مسئولون على المستويات المرتفعة من الغازات الدفيئة العالمية مما سيكون له أكبر الأثر على مناخ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ووفقاً لأحدث البيانات، فإن إيران تعد ثامن دولة في معدلات انبعاثات الغازات الدفيئة؛ حيث تمثل انبعاثاتها نسبة 1.9 من الانبعاثات العالمية، كما أنها تعد من أكبر مالكي احتياطيات الوقود الأحفوري في العالم.
وتحتل السعودية المركز الثالث عشر عالمياً، وتمثل انبعاثاتها نسبة 1.52 %؛ وربما تكون السعودية قد خفضت دعم الوقود الأحفوري إلى النصف خلال الفترة (2015-2019)، لكنها لا تزال توفر ما يقرب من ثلاثة أضعاف الدعم من حيث نصيب الفرد مقارنة بأي حكومة أخرى. أما تركيا التي تخطط لبناء محطات جديدة تعمل بالفحم؛ وتعزز دعم مستهلكي الوقود الأحفوري من خلال الإعفاءات الضريبية، خاصة في قطاع الفحم، فإنها تحتل المركز الخامس عشر، وتمثل انبعاثاتها نسبة 1.17 % من الانبعاثات العالمية.
ومن ثم يتضح مما سبق، إن احتمالات حدوث استجابة جذرية لتقليل انتاج واستهلاك الوقود الأحفوري على المدى القريب تبدو منخفضة. وبالتالي، ستكون هناك آثار سلبية كبيرة على تغير المناخ، خاصة في الدول النامية.
ثانيًا: تأثيرات تغير المناخ على الدول النامية
إن التأثيرات السلبية من تغير المناخ في البلدان النامية، ولا سيما في أقل الدول نمواً، والدول الجزرية الصغيرة النامية، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ تضاف إلى سلسلة التأثيرات التي تضرب العالم منذ سنوات، ولكن نظراً لطبيعة موقعها الجغرافي، ولضعف الدعم المالي المتاح لها من الدول المتقدمة، فإن ذلك يجعلها معرضة للخطر بشكل أكبر دون غيرها؛ حيث مازال الدعم ضئيلاً مقارنة بتكاليف التكيف السنوية التي تقدر بنحو 70 مليار دولار، ومن المتوقع، أن تصل إلى 160-340 مليار دولار بحلول عام 2030.
ويذكر أن الدول المتقدمة ذات المسئوليات المالية الخاصة تعهدت بتقديم 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية، ولم يتم الوفاء بها، وجددت الدول المتقدمة تعهدها في قمة جلاسكو 2021 بتقديم المبلغ سنوياً اعتباراً من عام 2022، كما تعهدت بتقديم تقارير شفافة حول التقدم الذي تحرزه في هذا المجال.
في الواقع، لقد كانت هناك زيادة في حدوث كوارث بيئية متنوعة في الدول النامية مثل: العواصف، وارتفاع مستوى سطح البحر، والفيضانات، والانهيارات الأرضية، والجفاف، والتصحر، وموجات الحر، والأمطار الغزيرة وما إلى ذلك. كما أدت التغيرات المناخية إلى إلحاق أضرار بالصحة العامة وزيادة معدل الوفيات، كما عرضت إمدادات المياه والغذاء للخطر، وأدت إلى النزوح والهجرة المناخية.
علاوة على ما سبق، تطرح الزيادة الأخيرة في الكوارث المناخية قضايا إضافية خاصة بتهديد اقتصادات تلك الدول، التي تدفع السكان إلى الفقر. وتوضح الأدبيات أن خسائر الكوارث، بما في ذلك الخسائر الاقتصادية والبشرية، استمرت بنسب متزايدة في البلدان النامية، ومن المرجح أن تكون قضية الخسائر والأضرار التي لا يمكن تجنبها من خلال جهود التكيف والتخفيف من أكبر القضايا التي ستُطرح في مؤتمر شرم الشيخ Cop27. وفيما يلي يمكن توضيح أبرز التأثيرات السلبية من تغير المناخ على البلدان النامية.
1 - الدول الأقل نمواً
أقل البلدان نمواً (LDCs) هي بلدان منخفضة الدخل تواجه عوائق هيكلية شديدة أمام التنمية المستدامة، ومعرضة بشدة للصدمات الاقتصادية والتغيرات المناخية. يبلغ عدد تلك الدول 46 دولة من أفغانستان إلى زامبيا، وهي موطن لحوالي 13 % من سكان العالم، و40 % من أفقر سكانه. ووفقاً لتقرير التنمية البشرية 2022 الذي يحمل عنوان «عدم اليقين والعيش غير المستقر»، فإن زيادة درجات الحرارة، وتفاقم تغير المناخ في العديد من البلدان منخفضة الدخل يجعها معرضة للخطر بشكل أكبر، ولا يتناسب مع نسبة مساهمتها من غازات الاحتباس الحراري العالمية؛ حيث ساهمت بأقل قدر وهو 4 ٪.
ورغم محاولة تلك الدول الالتزام ببناء القدرة على الصمود ومعالجة تغير المناخ وخلق مسارات التنمية المستدامة، فإن الخيارات الاقتصادية، بل والمجتمعية والسياسية الحالية محدودة مما يعرضها لكوارث مناخية متتالية واسعة النطاق، ويعيق التقدم نحو أهداف اتفاق باريس. وتتطلب العدالة أن تقوم الدول المتقدمة بدورها تجاه الدول النامية؛ حيث تشير التقديرات إلى أن أقل البلدان نمواً تلقت حوالي 0.6 ٪ فقط من 100 مليار دولار، وهو جزء ضئيل جداً لتلبية احتياجاتها الحالية للعمل المناخي، والتي ستزداد مع اقتراب عام 2050. وفي استعراض لدعم أولئك الأكثر عرضة لخطر تغير المناخ، تعهدت 12 حكومة مانحة في جلاسكو بتقديم 413 مليون دولار لصندوق أقل البلدان نمواً (LDCF)، وقد جاءت التعهدات من بلجيكا، ومنطقة والونيا البلجيكية، وكندا، والدنمارك، وإستونيا، وفرنسا، وألمانيا، وأيرلندا، وهولندا، والسويد، وسويسرا، والولايات المتحدة، ويذكر أن هذا الصندوق هو الوحيد لمقاومة تغير المناخ لأقل البلدان نمواً.
ومنذ عام 2001، قدم الصندوق 1.7 مليار دولار للمشاريع التي قللت من قابلية التأثر بالمناخ لأكثر من 50 مليون شخص وعززت من مقاومة تغير المناخ في 6 ملايين هكتار من الأراضي. ويدعم الصندوق أيضًا عمليات التخطيط في البلدان لتقليل تعرضها على المدى المتوسط والطويل لتأثيرات تغير المناخ، وتسهيل دمج التكيف مع تغير المناخ في السياسات، والبرامج، والأنشطة ذات الصلة. ولقد كانت المبادرات والمشروعات في نيبال، والسنغال، وغامبيا، وغيرهم.
2 - الدول الجزرية الصغيرة النامية
تعد الدول الجزرية الصغيرة النامية (SIDS) في طليعة الدول التي تتأثر بالأزمات المناخية؛ إذ إنها مجموعة متميزة من البلدان النامية التي تواجه حالات معينة من الضعف الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. وهناك 58 دولة جزرية موزعة على بحار ومحيطات العالم، ولا تضمّ سوى 65 مليون نسمة. إن صغر الحجم والكثافة السكانية والبنية التحتية غير الملائمة والاستيطان على الساحل والعزلة الجغرافية ومحدودية الموارد، جعلت تلك الدول من بين أكثر الدول عرضة لتأثيرات تغير المناخ. قد لا تكون هذه البلدان أفقر الدول عند قياس إجمالي الدخل القومي للفرد، لكنها أكثر عرضة للكوارث وتكاليفها. ومن أمثلة تلك الدول جزر القمر، وجزر سليمان، وجمهورية الدومنيكان، وساموا، وسورينام... وغيرهم.
ورغم مساهمة الدول الجزرية بقليل من الانبعاثات الكربونية؛ حيث يمثل إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون 1 % من الانبعاثات العالمية، إلا إنها تعاني بالفعل من التأثيرات المناخية مثل ارتفاع مستوى سطح البحر الذي ارتفع أربعة أضعاف المتوسط العالمي مما يهدد بغمرها بالمياه. كما شملت التأثيرات تغير أنماط هطول الأمطار، وزيادة درجة حرارة الهواء وسطح البحر بشكل ملحوظ بأكثر من 70 ٪ من سواحل العالم، كذلك زادت حدة العواصف والأعاصير المدارية وغير المدارية، والفيضانات. علاوة على تسرب المياه المالحة، وإعاقة الصرف وتلف وفقدان الأراضى الرطبة، كما أصبحت المحيطات ومياه البحر أكثر حموضة. ومن المرجح أن تتدهور الزراعة بشكل متزايد والتي يعتمد عليها السكان الزراعيين اعتماداً كبيراً لكسب عيشهم، وكذلك، فقدان مصائد الأسماك التي لا تزال مصدراً مهماً للغذاء للعديد من تلك المجتمعات، مما يهدد بانعدام الأمن الغذائي، وهناك أيضًا مخاوف من تدهور الموارد البحرية بشكل خطير، والنظم الإيكولوجية الحيوية بشكل أكبر. وفعليًا أصبحت بعض تلك المجتمعات غير صالحة للعيش، وبدأ العديد منها الهجرة لمناطق مرتفعة.
ومن اللافت أن العديد من حكومات الدول الجزرية الصغيرة النامية لا تخصص موارد مالية وبشرية كافية لمحاولة خفض انبعاثاتها، كما أن الدول المتقدمة لطالما تجنبت إنشاء صندوق مالي للخسائر والأضرار التي تسعى إليه تلك الحكومات؛ نظراً للخسائر المتزايدة، ووفقاً لمبدأ الملوث يدفع. وبالتالي، فإن تلك الدول تتطلع إلى مؤتمر المناخ بشرم الشيخ ((COP27 من أجل تعزيز التدابير اللازمة لبناء القدرة على الصمود أمام تأثيرات تغير المناخ، وتوفير التمويل اللازم لذلك.
3 - منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معرضة بشكل خاص لتأثيرات التغيرات المناخية، ومن المتوقع أن تتسارع في المستقبل القريب؛ حيث زادت درجات الحرارة السنوية بنحو 1 درجة مئوية خلال العقود الثلاثة الماضية، ويمثل هذا أكثر من ضعف الزيادة العالمية البالغة 7. درجة مئوية، ومن المرجح أن يحدث أقوى ارتفاع في درجات الحرارة في المناطق الداخلية من الجزائر وليبيا وأجزاء كبيرة من مصر، وأيضاً في المملكة العربية السعودية والعراق وغيرهم. وهو تأثير بدأ بالفعل في الظهور في بعض دول المنطقة. على سبيل المثال؛ بلغت درجة الحرارة في إحدى مناطق شمال غرب الكويت حالياً 54 درجة مئوية، لتصبح بذلك ثالث أعلى درجة حرارة مسجلة على كوكب الأرض، وفي العام الماضي، كان هناك 19 يومًا ارتفعت فيها درجات الحرارة بها إلى 50 درجة مئوية أو أعلى. وهناك اتفاق عام على أن موجات الحرارة الشديدة تؤثر على الصحة العامة، وتساهم في انتشار الأمراض وتزيد من الوفيات المبكرة.
ومن التأثيرات الحالية للتغيرات المناخية على المنطقة تغيير أنماط واتجاهات هطول الأمطار؛ فمن المحتمل أن تشهد المغرب والجزائر ومصر وتركيا هطول أمطار أقل بنسبة 50 %، كما ستشهد المملكة العربية السعودية وإيران وأجزاء من ليبيا أيضًا نفس الانخفاض في هطول الأمطار. وفي السياق نفسه تعرضت مجتمعات المنطقة لنقص في إمدادات المياه نتيجة لتأثيرات تغير المناخ؛ حيث لا يستطيع 60 % من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الوصول بسهولة إلى المياه الصالحة للشرب. وتشير التقديرات إلى ارتفاع مستوى انعدام الأمن المائي؛ إذ ستشهد المنطقة خفض في المياه العذبة بنسبة تزيد عن 50 % بحلول عام 2050، ووفقاً لآخر تقدير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)؛ من المقدر أن يتعرض 80-100 مليون شخص إضافي بحلول عام 2025 للإجهاد المائي، والذي سيؤدي إلى زيادة الضغط على موارد المياه الجوفية، كما سيؤدي ، وفقاً للبنك الدولي، إلى خسارة ما يصل إلى 14 % من الناتج القومي الإجمالي بحلول عام 2050.
فضلًا عما سبق، فإن التغيرات في أنماط هطول الأمطار، والإجهاد المائي يؤدي إلى إلحاق الضرر بالقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية مثل قطاع الزراعة الذي يمتلك أعلى نسبة توظيف؛ حيث تشير الدلائل إلى أن انخفاض هطول الأمطار، وندرة المياه مع اشتداد درجات الحرارة سوف يخفض - وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة - غلات المحاصيل بنسبة تصل إلى 20 % بحلول عام 2050، لا سيما في مناطق الزراعة البعلية، وستكون التخفيضات أكبر بكثير في المشرق منه في المغرب العربي.
وبالتالي ستمنع تلك التأثيرات المناخية من إنتاج غذاء كاف من جميع المواد الغذائية المطلوبة محليًا، ومن المرجح الاعتماد دائماً على واردات الغذاء مما يعرض الأمن الغذائي للخطر، وهو ما يتضح بوادره حالياً في معظم المنطقة. على سبيل المثال، تستورد الإمارات حالياً معظم غذائها؛ حيث تتسم بيئتها بقلة الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، والجفاف وتعتمد على تحلية مياه البحر في الزراعة، ومن ثم يمثل تغير المناخ مصدر قلق حقيقي على أمنها الغذائي، واقتصادها الوطني. ووفقاً لتقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي، تمثل بعض دول المنطقة مثل اليمن بؤراً ساخنة للجوع، وتواجه بالفعل انعدامًا للأمن الغذائي الكارثي.
وفي السياق نفسه، تعرضت المنطقة لأسوأ فترات الجفاف، نتيجة لتأثيرات التغيرات المناخية، وهناك مخاوف من زيادة جفاف الأرض بأكثر من 60 ٪ في معظم أنحاء المنطقة. ومن المرجح أن تكون المغرب والجزائر وتونس أكثر عرضة للجفاف بشكل خاص. وستصبح كل الأراضي المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط أكثر جفافًا. ومن المفارقات أن اشتداد الجفاف قد ينخفض في إيران والمملكة العربية السعودية. وقد تؤدي زيادات درجات الحرارة، واشتداد الجفاف في المنطقة إلى تحفيز عمليات التصحر أو تعزيزها.
إن التأثيرات المناخية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث من المتوقع تضرر المدن الساحلية المنخفضة من ارتفاع مستويات سطح البحار إلى جانب ارتفاع المد والعواصف والفيضانات وتسرب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية وزيادة التعرية؛ مما يجعل بعض تلك المدن غير صالحة للعيش. وتشير التقديرات إلى إنه سيتعرض من 6 : 25 مليون شخص للفيضانات الساحلية، وسيحتاج سكان مدن مثل بنغازي، والجزائر العاصمة بشكل خاص إلى هجر المدن الساحلية، ويُعتقد أيضًا أن قطر، والإمارات العربية المتحدة، وتونس معرضة بشكل كبير لارتفاع مستويات سطح البحر. وبالتالي يجب أن نتوقع أن يصبح عدد المهاجرين والنازحين والخسائر والأضرار بسبب التغيرات المناخية كبيرًا جداً خلال هذا القرن؛ ففي مصر، ووفقاً لبيانات البنك الدولي، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر بمعدل 0.5 متر سوف يتسبب في نزوح أكثر من 2 مليون شخص، مع خسائر بقيمة 35 مليار دولار في الأراضي والممتلكات والبنية التحتية، فضلاً عن خسائر ضخمة في الأصول التاريخية والثقافية.
إن التأثيرات السلبية الناتجة عن تغير المناخ عديدة ومتنوعة، وتوضح الأدبيات بشكل جلي كيف يمكن للظروف المناخية والظواهر الجوية أن تؤثر على مستقبل المنطقة من حيث عدم الاستقرار السياسي، والصراعات الاجتماعية، ورفاهية سكانها، ولن يكفي قدر من التكيف والتخفيف لإحياء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
من مجمل ما سبق، يمكن القول إن السبب الرئيسي للتغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحراري يعود إلى أنشطة الدول المتقدمة وغيرها ممن تتمتع ببصمة كربونية؛ حيث لم تلتزم معظم الحكومات بخفض إنتاج الوقود الأحفوري واستخدامه، ويرجع ذلك إلى سعي كل دولة إلى تعظيم مصالحها الوطنية على حساب المصالح الدولية الجماعية المرتبطة بتغير المناخ. ولقد كانت هناك تداعيات وتأثيرات ضخمة على الدول النامية؛ خاصة الدول الأقل نمواً، والدول الجزرية الصغيرة النامية، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ نظراً لخصوصية وضعها ومحدودية قدراتها على التعامل مع الأزمات والكوارث المناخية، ونظراً لضعف الدعم المالي المقدم لها من الدول المتقدمة.