يبدو أن نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد فوجئ باستمرار الاحتجاجات التي اندلعت بسبب وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني، في 16 سبتمبر الفائت (2022) ولم تتراجع حتى الآن، رغم كل الإجراءات التي اتخذها من أجل احتواءها. وربما يمكن القول إن النظام قد يتجه في الفترة القادمة إلى تصعيد حدة هذه الإجراءات، أو الاستناد إلى الآلية الأهم والأخيرة وهى الحرس الثوري في التعامل معها ومحاولة إنهاءها، والذي بدأ بدوره في تحذير المحتجين من استمرار التواجد في الشارع.
وفي الواقع، فإن قلق النظام من استمرار الاحتجاجات لا يعود فقط إلى حجم الضغوط التي باتت تفرضها عليه، خاصة أنها اكتسبت دعماً خارجياً واسعاً، وإنما يعود أيضاً إلى خشيته من أنه كلما استمرت الاحتجاجات كلما زاد ذلك من احتمال حدوث تباينات داخل النظام نفسه إزاء التعامل معها.
ويبدو أن ذلك قد بدأ يحدث بالفعل، وإن كان على استحياء، إلا أنه قد يتسع تدريجياً، وبالتالي يفرض ضغوطاً مضاعفة على النظام. وقد انعكس ذلك في التباين الذي حدث بعد وقوع الهجوم المسلح على ضريح الإمام أحمد ابن الإمام موسى الكاظم في شاهچراغ، في 26 أكتوبر الجاري، والذي أعلن تنظيم "داعش" مسئوليته عنه.
إذ كان لافتاً أن معظم المسئولين في النظام حرصوا على الربط بين الحادث وبين الاحتجاجات الحالية، في محاولة لتشويه تلك الاحتجاجات ولإضفاء وجاهة خاصة على الاتهامات التي يوجهونها للاحتجاجات بأنها تخدم أجندة قوى خارجية تسعى إلى تقويض دعائم النظام الحاكم.
ففي هذا السياق، قال الرئيس إبراهيم رئيسي، في 27 أكتوبر الجاري في تعقيبه على الحادث الذي وقع في مدينة شيراز، أن الاحتجاجات الحالية تمهد المجال أمام تنفيذ مزيد من العمليات الإرهابية، مضيفاً أن "العدو ينوي إعاقة تقدم البلاد عبر أعمال الشغب هذه التي تمهّد الطريق أمام أعمال إرهابية".
وربما يمكن القول إن هذا التوجه كان متوقعاً إلى حد كبير، خاصة أن هذا الربط المتعمد يتوافق مع الرواية الرسمية للنظام، والتي تقوم في الأساس على إنكار الأسباب الحقيقية للاحتجاجات الحالية، مقابل الترويج لوجود مؤامرة خارجية تسعى إلى عرقلة ما يطلق عليها قادته بـ"الإنجازات" التي يحققها.
لكن هذه الرواية لم تعد تحظى بإجماع لدى بعض النخب التي تمثل الأعمدة الأساسية للنظام، على غرار نخبة رجال الدين. وانعكس ذلك في التصريحات التي أدلى بها عضو مجلس الخبراء أمين عام المجلس الأعلى للحوزة العلمية في قم آية الله مرتضى مقتدايي، في 29 أكتوبر الجاري. إذ أنه أدان الهجوم الذي وقع في مدينة شيراز، إلا أنه رفض الرواية التي يتبناها مسئولوا النظام بالربط بين الهجوم والاحتجاجات.
إذ قال في هذا السياق: "نحن منزعجون للغاية مما حدث، ونطالب بالتعامل مع مرتكبي هذه الجريمة بحزم. لكن هذا العمل لا يمت بصلة للاحتجاجات".
دلالات عديدة
من دون شك، فإن هذا الرأي لا يعبر عن توجه عام يسود حوزة قم أو نخبة رجال الدين، الذين ما زال معظمهم يتبنى الرؤية التي يروج لها النظام. لكن مجرد ظهور شخصية تحظى بموقع خاص داخل هذه النخبة، وتتبنى رؤية مختلفة في هذا التوقيت، يطرح دلالات عديدة لا تبدو هينة.
أول هذه الدلالات يرتبط بأن هذا الرأي ربما يوحي بأن هناك تحفظات أو بمعنى أدق اعتراضات من جانب كوادر منضوية تحت لواء النظام تجاه الآليات التي يتبعها في التعامل مع المحتجين، والتي أنتجت في النهاية تداعيات عكسية تمثلت في استمرار الاحتجاجات وافتتاحها الأسبوع السابع، وتجاوزها اليوم الأربعين، بل وانضمام نخب وطبقات وأجيال جديدة إليها.
واللافت هو أن هذا الرأي صدر من جانب أحد رجال الدين المعروفين بحرصهم على التماهي مع الخطاب العام للنظام، ما يعني أن المسألة لا تعبر عن تباينات أيديولوجية، وأن بعض الكوادر في النخبة الدينية القريبة من النظام بدأوا في توجيه رسائل تفيد أنهم قد لا يستطيعون مواصلة سياسة التماهي مع توجهات النظام، طالما أن هناك سلبيات، وربما انتهاكات ترتكب، ولا يمكن السكوت عنها.
فيما ينصرف ثاني هذه الدلالات إلى أن هناك اتجاهاً داخل النخبة المؤيدة للنظام، يرى ضرورة الاعتراف بوجود أسباب ومحفزات حقيقية للاحتجاجات التي تشهدها إيران، وأن سياسة إنكار هذه الدوافع هي التي تتسبب في اتساع نطاق الاحتجاجات وتجددها بين حين وآخر، لدرجة أنها تحولت إلى ظاهرة يومية تقريباً.
وفي رؤيته، فإن الاعتراف بهذه الأسباب هو المدخل الأساسي لاحتواء الاحتجاجات ومعالجة دوافعها الحقيقية، وربما تراجع احتمالات تجددها مرة أخرى، باعتبار أن إصرار النظام على رواية "المخطط الخارجي" يدفعه إلى عدم تفعيل الآليات الحقيقية التي يمكن أن تساعد في تقليص حدة الاستياء على مستوى الشارع.
أما ثالث هذه الدلالات فيتمثل في أن اعتماد النظام على التحالف بين البرجوازية الاقتصادية، ممثلة في طبقة التجار (البازار)، والنخبة الدينية، بدأ يواجه اختبارات صعبة بفعل السياسات التي يتبعها في التعامل مع الاحتجاجات المتتالية.
إذ كان لافتاً أن نخبة التجار بدأت بدورها، مع بداية الاحتجاجات الحالية، في التعبير عن استياءها إزاء الإجراءات التي يتخذها النظام، على نحو بدا جلياً في حرص بعضهم على إغلاق محلاتهم، بل إن بعض المحتجين نظموا تظاهرات في البازار الكبير بالعاصمة طهران، في إشارة إلى حجم التأييد الذي تحظى به الاحتجاجات.
وهنا، فإن استمرار الاحتجاجات، وارتفاع مستوى القمع الذي يستخدمه النظام في التعامل معه، والذي ربما يتزايد بعد التهديدات الجديدة التي أطلقها الحرس الثوري بعد وقوع حادث مدينة شيراز، يمكن أن يؤدي إلى اتجاه مزيد من التجار ورجال الدين نحو إبداء حرصهم على عدم التماهي مع الرواية العامة للنظام وبالتبعية الإجراءات التي يتخذها إزاء المحتجين.
ظل رفسنجاني
قد لا يكون بروز اتجاه مناوئ من داخل نخبة رجال الدين للسياسة التي يتبناها النظام في مواجهة الاحتجاجات جديداً، فسابقاً كان رئيس الجمهورية الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني حريصاً، في بعض الأزمات، على توجيه انتقادات للإجراءات التي يتبعها النظام، على غرار ما حدث في عام 2009، عندما لم يخف دعمه لبعض المطالب التي نادى بها أنصار ما يسمى بـ"الحركة الخضراء" الذين اعترضوا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في هذا العام وأسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
ومن دون شك، فإن الثِقل السياسي والديني الذي كان يحظى به رفسنجاني ربما هو الذي شجعه على تبني هذا الموقف المناوئ- والذي دفع وعائلته بسببه أثماناً سياسية باهظة فيما بعد. لكن وفاته المفاجئة في 8 يناير 2017، أحدثت فراغاً في هذا الصدد، حيث لم يستطع أي قيادي في النخبة المؤيدة للنظام أن يحذو حذوه. وبالتالي، فإن ظهور رأى جديد مناوئ من داخل تلك النخبة في هذا التوقيت يوحي بأن "هيبة النظام" ربما تواجه اختباراً صعباً في هذه المرحلة، وأنها لم تعد تمنع بعض القيادات والكوادر في تلك النخبة- والذين لم يصلوا إلى مكانة رفسنجاني- من إبداء تحفظاتهم تجاه بعض الإجراءات التي يتخذها النظام.
كرة الثلج
انطلاقاً من ذلك، ربما يمكن القول إن أكثر ما يثير قلق النظام في الوقت الحالي ليس الدعم الخارجي الذي تقدمه بعض الدول الغربية، على المستويين المعنوي واللوجيستي، للاحتجاجات، وإنما استمرار بروز مزيد من الآراء المناوئة للسياسة التي يتبعها النظام من داخل النخبة المؤيدة له. وبمعنى آخر، فإن النظام يخشى حالياً من أن يتحول هذا الرأي المناوئ إلى ما يشبه "كرة الثلج"، التي يمكن أن تتطور وتتسع لتضم مزيداً من رجال الدين وتجار البازار، على نحو سوف يؤدي إلى دخول الأزمة الحالية التي يواجهها مرحلة جديدة غير مسبوقة.