كتاب "القيادة": قراءة في رؤية كيسنجر لاستراتيجية الرئيس السادات
2022-10-14

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على مدى ما يزيد على أربعة عقود، ظل أغلب الرافضين لطريقة الرئيس الراحل أنور السادات في معالجة الصراع بين مصر وإسرائيل، والتي تُوجت بتوقيع اتفاق سلام بين البلدين في عام 1979، وعودة السيادة المصرية على كامل سيناء لاحقاً.. ظل هؤلاء الرافضين يستشهدون بما كتبه أو صرح به وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مناسبات عدة، لكي يثبتوا أن السادات لم ينتصر في حرب أكتوبر، وأنه راهن رهاناً خاسراً على الأمريكيين الذين ورطوه -حسب زعمهم- في اتفاق أدى إلى جملة من الخسائر الآنية والمستقبلية لمصر والعالم العربي.

والمفارقة أن كيسنجر في كتابه الأخير بعنوان "القيادة" The leadership ودون أن يتخلى عن الروايات التي أوردها في مذكراته ولقاءاته في وسائل الإعلام حول وقائع صناعة السلام بين مصر وإسرائيل، وهي الروايات التي استغلها بعض الكتاب والسياسيين في العالم العربي لإدانة الرئيس الراحل منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم.. قد أعاد الاعتبار للسادات بوضعه ضمن ستة شخصيات عالمية بلورت سياساتها الداخلية والخارجية معنى القائد وخصائص عملية القيادة الناجحة في ظروف تبدو غير مواتية وسياقات تتسم بالاضطراب وعدم اليقين.

يشرح كيسنجر في مقدمة كتابه معنى القياده بقوله: أي مجتمع وبغض النظر عن نوع النظام السياسي الذي يحكمه، يخضع لعملية تحول أو انتقال مستمر بين الماضي الذي يشكل ذاكرته، والمستقبل الذي يتطلع إليه. وخلال هذا المسار الصعب، فإن فن القيادة يصبح ضرورة لا غنى عنها، وتعني القيادة القدرة على اتخاذ القرار، وكسب الثقة، والحفاظ على الوعود. كما تعني كيفية مساعدة البشر على العبور من واقع يعيشونه ويدركونه جيداً، إلى واقع مغاير ربما لم يمر بخيالهم؛ فبدون القيادة المناسبة في تلك المراحل الحساسة، قد تنتهي عمليات التحول بكارثة تحيق بتلك المجتمعات.

حسب كيسنجر في كتابه "القيادة"، ثمة استراتيجيات عالمية ارتبطت بشخصيات ستة مهمة، هي:

1- كونراد اديناور، أول مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبطت اسمه بـ"استراتيجية التواضع أو حتمية التجديد".

2- شارل ديجول، قائد حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية ورئيس فرنسا لاحقاً، حيث ارتبط اسمه بـ"استراتيجية الإرادة" أو التصميم.

3- ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي الأسبق والذي أنهى التدخل الأمريكي في فيتنام وقاد سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي، وسياسة الانفتاح تجاه الصين، وارتبط اسمه بـ"استراتيجية التوازن".

4- محمد أنور السادات، الزعيم المصري الذي صنع السلام مع إسرائيل وفتح الطريق أمام كل نماذج التسويات في الصراع العربي-الإسرائيلي حتى بعد رحيله بأربعين عاماً، وارتبط اسمه بـ"استراتيجية التجاوز".

5- لي كوان يو، زعيم سنغافورة الذي حول جزيرة صغيرة فقيرة إلى واحدة من أنجح تجارب النمو في العالم حتى اليوم، وارتبط اسمه بـ"استراتيجية التفوق".

6- مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا، أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة، وإحدى أهم قيادات التحول الكامل نحو اقتصاد السوق في العالم، وارتبط اسمها بـ"استراتيجية الإيمان".

ولأن الهدف من هذا التحليل ليس مراجعة كتاب "القيادة" أو تقديم عرض نقدي له، بل التدليل على الكيفية التي أعاد بها هنري كيسنجر الاعتبار للرئيس الراحل أنور السادات أمام منتقديه؛ فسوف نركز اهتمامنا على تبيان الفارق في المنهج بين كيسنجر وخصوم السادات في النظر إلى مسيرة السلام التي صنعها السادات وشارك فيها كيسنجر، رغم عدم تغييره لشهادته (أي كيسنجر) حول وقائع ما دار بينه وبين الرئيس السادات خلال الفترة (1973-1981)، تلك الوقائع -كما سبق وأن ذكرنا- التي استغلها خصوم السادات لإشاعة أسطورة "تفريط" الرئيس الراحل في كرامة مصر وحقوقها، وتسببه في دخولها في نفق مظلم لم تخرج منه حتى بعد رحيله بسنوات طويلة، حسب زعمهم.

القراءه الموضوعية لشهادة كيسنجر

إذا جاز النظر إلى ما ورد في كتاب "القيادة" عن الرئيس السادات والكيفية التي أدار بها عملية صنع السلام مع إسرائيل واسترداد الأراضي المصرية المحتلة، على أنه شهادة من كيسنجر على وقائع كان جزءاً منها وصانعاً مشاركاً فيها، فإن تفسير هذه الوقائع هو ما سيخلق الاختلاف بين أنصار السادات وخصومه، وبالتالي لا خلاف على ما قاله كيسنجر في مصادر قديمة وفي كتابه الأخير حول تقديم السادات لما بدا له وللإسرائيليين "تنازلات" غير مفهومة، مثل:

1- إصراره في أوج تقدم القوات المصرية في سيناء خلال الأسبوع الأول لحرب أكتوبر على أن هدف الحرب محدود، وهو تحريك الوضع الراكد على جبهة القتال وجبهة الدبلوماسية الدولية.

2- رفضه الاستعانة بالاتحاد السوفيتي، بعد اختراق الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية لقناة السويس، وبعد قرار وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في 22 أكتوبر، لكي يتم تثبيت هذا الخط الذي تعرض للانتهاك مراراً، وكان الاتحاد السوفيتي يريد المشاركة بقوة مشتركة مع الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف على عكس رغبة واشنطن.

3- إسراع السادات بالإعلان عن استعداده لإجراء مفاوضات مباشرة برعاية أمريكية لفض الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في غرب القناة (مفاوضات الكيلو 101).

4- قبوله الإبقاء على عدد محدود من الدبابات المصرية التي كانت قد عبرت القناة وقضت على خط بارليف، وسحب أغلب ما تبقى منها إلى غرب القناة.

5- تبني التصور الأمريكي للسلام بين العرب والإسرائيليين القائم على ما يسمى بسياسة الخطوة، أو قطعة من الأرض مقابل قطعة من السلام، بدلاً من التمسك بالسلام الشامل على كل الجبهات مع إسرائيل مقابل العودة إلى حدود الرابع من يونيو 1967.

6- توقيع اتفاقية ثانية لفض الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية في عام ١٩٧٥ مقابل تعهد مصر بعدم العودة للخيار العسكري مجدداً حتى في حالة توقف مسيرة التسويات الجزئية عند هذه النقطة.

7- القيام بمغامرة الذهاب للكنيست عام 1977 دون التشاور مع دول المواجهة العربية (سوريا والأردن على وجه الخصوص) والحديث باسم العرب دون موافقة منهم.

8- الاستمرار في مسيرة التسوية رغم التعنت الإسرائيلي الواضح بعد زيارة القدس، والاضطرار في النهاية للقبول بالقيود التي فرضتها اتفاقيتا كامب ديفيد والسلام على مصر عسكرياً وسياسياً.

كل تلك الوقائع تكرر ذكرها في أحاديث وكتابات كيسنجر، وهو ما اعتبرته الآراء المعارضة للسادات في الماضي والحاضر، والرافضة لاستراتيجية السلام المصري مع إسرائيل جملة وتفصيلاً، دليلاً على ما أسمته بـ"خيانة السادات للقضية الوطنية".

بالنسبة لكيسنجر، فإنه يقر بأن الآراء المسبقة عن السادات وشخصيته والتي صورته على أنه شخص ضعيف وغير قادر على اتخاذ قرارات مصيرية ربما لعبت دوراً بالغاً في عدم فهم الغرب وإسرائيل لقرارات السادات وتوجهاته في البداية، تلك الآراء التي كانت تقارير الاستخبارات الأمريكية عامرة بها عشية تولي السادات السلطة بعد رحيل عبد الناصر عام 1970، والتي أشارت إلى توقع بعدم استمرار السادات في السلطة لبضعة أسابيع.

ويرى كيسنجر أن السادات كان في كل تحركاته منذ توليه السلطة يجمع بين سمتين مهمتين، هما وضع القيم الأخلاقية والإنسانية في الاعتبار عند وضع السياسات، والثاني هو الاستعداد للمغامرة من أجل تحقيق أهداف تبدو مستحيلة. وبهذا المعنى، فإن فكرة السلام كهدف إنساني مطلق هي فكرة أساسية في تكوين السادات الشخصي، خاصة أنه سبق له أن جرّب في شبابه تطبيق الأفكار الثورية والتي كان تأثيرها السلبي على تحقيق هدف استقلال مصر قبل ثورة 1952، أكبر من أي إيجابيات (إن وجدت) لمثل هذه التوجهات. وعلى الجانب الآخر، كان السادات يتحرك في بيئة غير مواتية لأفكاره الجديدة والجريئة، حيث جاء بعد زعيم له شعبية جارفة مثل جمال عبد الناصر الذي كان يرفض أي توجهات للسلام مع إسرائيل، ومن ثم فإن قرار الخروج من جانب السادات على خط عبد الناصر كان بالفعل مغامرة غير مضمونة النتائج كما يرى كيسنجر.

لقد أعاد كيسنجر تفسير ما بدا أنه تنازلات غير مفهومة من جانب السادات، في إطار السمات الخاصة التي اكتشفها متأخراً فيه، بحيث أصبحت هذه القرارات ناتجاً لاستراتيجية بعيدة الأمد وليس ناتجاً لضعف المواقف أو هشاشة الشخصية، أو بسبب الاضطرار لاتخاذها في ظروف ضاغطة.

رتب كيسنجر فهمه لقرارات السادات بأنه امتلك رؤية تمحورت حول الإيمان باستقلالية القرار المصري، وعدم الاستعداد المتأصل في الشخصية المصرية للخضوع للآخر، مع انعدام الرغبة في السيطرة عليه أيضاً. ودلل كيسنجر على ذلك بذكر واقعة جرت عندما التقى بعد تركه لمناصبه الرسمية مع الرئيس السادات، وقال له إن الولايات المتحدة تشعر بالامتنان لأن مصر في ظل قيادته ساعدت على تحسين صورتها كشريكة في صنع السلام أمام العالم في ظل قتامة هذه الصورة بسبب حرب فيتنام، وأجابه السادات بهدوء وبصراحة مطلقة بأنه لم يكن مهتماً بتحسين صورة الولايات المتحدة، بل بالبحث عن مصلحة مصر وفقط.

باختصار، فسر كيسنجر في كتابه "القيادة" كل النقاط التسعة سالفة الذكر بأنها كانت نوعاً من "التنازل الظاهري" أو "التكتيكي" لصالح هدف استراتيجي وهو إخراج مصر من النفق المظلم الذي اضطرت للدخول فيه عندما تبنت سياسة عدائية تجاه الغرب والولايات المتحدة منذ الخمسينات. ويبدو أن كيسنجر أراد أن يقول بشكل غير مباشر إن السادات كان يسعى لإصلاح ما اعتبر أنه "خطأ تاريخي" عندما لم تلحظ مصر أن سياسة عدم الانحياز التي تبنتها في الخمسينات قد تحولت في الواقع العملي إلى سياسة انحياز للكتلة الشرقية، وعداء للغرب، وبالتالي لم يكن أمام الغرب وخاصة الولايات المتحدة، وفقاً لمزاعمه، سوى الاتكاء على إسرائيل لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط وإيقاف التهديد الذي تمثله الأفكار القومية غير المتصادمة مع سياسة الكتلة السوفيتية. السادات فهم إذن مكمن الخطأ وأراد عبر تكتيك إلقاء أوراقه في يد الولايات المتحدة أن يُبطِل معادلة ارتباط المصالح الأمريكية بالحليف الإسرائيلي وحده، وهو ما أشعر إسرائيل بالانزعاج فعلاً إلى حد قول كيسنجر الذي نقل هذا الشعور من رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن الذي تولى السلطة هناك في عام 1977. ومثلما لم تكن إسرائيل طوع بنان واشنطن في كل مطالبها، وتمكنت من تحقيق تفوقها العسكري والتكنولوجي والاقتصادي بمساعدة أمريكية، فقد طمح الرئيس السادات أولاً إلى تحقيق هدف تحرير سيناء بالكامل عن طريق الدمج بين خيار عسكري محدود المدى بحكم طبيعة التوازن العسكري القائم بين مصر وإسرائيل في ذلك الوقت، وبين خيار دبلوماسي اقتضى جذب الولايات المتحدة نحو تغيير تفكيرها في نمط تحالفاتها في الشرق الأوسط وإثبات إمكانية أن تلعب مصر دور الحليف الموثوق فيه مستقبلاً، ثم طمح الرئيس السادات لاحقاً إلى استغلال العون الأمريكي بعد تحقيق السلام في إطلاق طاقة مصر الاقتصادية، ولكن حالت ملابسات عديدة دون تحقيق هذا الحلم نتيجة صعوبات داخلية وخارجية، كما لم يمهل القدر الرئيس السادات لمواصلة محاولاته تحقيق التطلعات المصرية بعد استشهاده على يد الجماعات الإرهابية.

وربما يلخص المشهد الحالي في المنطقة العربية مدى ما كان يتحلى به الرئيس السادات من بعد نظر؛ فالجولان السورية ما زالت تحت الاحتلال، بل أصبحت الولايات المتحدة تعترف بحق السيادة الإسرائيلية عليها، كما أن الاستيطان في الضفة الغربية تمدد بشكل سرطاني يهدد بنهاية أي آمال في إقامة دولة فلسطينية، بما يثبت أن طريق الرفض المتشنج للأفكار الجريئة والتي أثبتت فاعليتها في الحالة المصرية، قد أضاع فرص استرداد الجولان أو إقامة كيان فلسطيني قابل للتطور في ظل الإمكانية التي كانت متاحة في عام 1978 لإيقاف الاستيطان أو تحديد توسعه بشكل كبير. ويحسم كيسنجر في كتابه "القيادة" مدى التفكير الخلاق والعملي لدى الرئيس السادات، حيث يذكر أنه سأل الرئيس السوري حافظ الأسد بعد توقيع فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل برعاية أمريكية عام 1975: ما هو البديل لسوريا إذا توقفت عن السير في اتجاه مزيد من اتفاقات السلام الجزئية وصولاً للسلام الشامل؟ حيث أجاب الأسد بكل هدوء -حسب وصف كيسنجر- قائلاً: "لقد خسرتم في فيتنام وخرجتم منها، وغداً ستضطرون لمغادرة تايوان، ونحن هنا جالسون حتى تعلنوا رغبتكم في التخلص من عبء الحليف الإسرائيلي".

في كل الأحوال، كان مجرد وضع السادات في قائمة كيسنجر لدراسة معنى مصطلح القيادة وسمات القائد الناجح والاستثنائي، هو أكبر اعتراف بأصالة وعبقرية الرئيس السادات رغم عدم حصوله على التقدير الذي يستحقه حتى اليوم من جانب أغلب الباحثين والسياسيين العرب والمصريين.

 


رابط دائم: