هل اقترب اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل من مرحلته النهائية؟
2022-10-11

رابحة سيف علام
* خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

تتزايد احتمالات الوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، بعد عامين تقريباً من انطلاق الوساطة الأمريكية الجارية حالياً. إذ أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون، في 11 أكتوبر الجاري (2022)، أن "مسودة الاتفاق النهائي تلبي مطالب بيروت"، وهى المسودة التي تولت واشنطن عبر مبعوثها آموس هوكشتاين صياغتها وتبادلها بين البلدين، حول خط الحدود البحرية الذي يسمح بالاستخراج الآمن للغاز من الحقول المتنازع عليها في المنطقة الحدودية وأبرزها حقليّ قانا وكاريش.

وبينما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد أن إسرائيل توصلت إلى "اتفاق تاريخي" مع لبنان، واعتبر المقترح المقدم من الوسيط الأمريكي لائق ويحافظ على أمن إسرائيل ومصالحها الاقتصادية في المنطقة المتنازع عليها، رأى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري -والمقرب للغاية من حزب الله- أن التقدم في المفاوضات يسير بشكل إيجابي وأن الوصول لاتفاق بات وشيكاً.

وتعتبر هذه التصريحات مؤشراً حقيقياً لتقدم المفاوضات بين البلدين، خاصة بعد التوتر الذي تصاعد خلال شهور الصيف مع توالي التهديدات بإشعال حرب على خلفية التنازع على حقول الغاز. إذ كانت إسرائيل قد أعلنت سابقاً عن الاتفاق مع شركة بريطانية للبدء في التنقيب واستخراج الغاز من حقل كاريش – المتنازع عليه- ومع وصول بواخر التنقيب بالقرب من الحقل المذكور بدأت طائرات حزب الله المسيرة تحوم فوقه لتقوم إسرائيل بإسقاطها الواحدة تلو الأخرى في يوليو الماضي.

وفي أغسطس الماضي، قام الإعلام العسكري التابع لحزب الله بإصدار شريط فيديو يظهر تفاصيل إحداثيات ومواصفات منصات الغاز الإسرائيلي مع لقطات مصورة لتجهيز منصات إطلاق الصواريخ في إشارة إلى أن عملية استخراج الغاز ستكون مهددة بالقصف ما لم يتم التوصل لاتفاق مع لبنان بشأنها. ثم أكد الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله هذه التهديدات في تصريحات مباشرة ومتتالية منذ أغسطس الماضي، مما دفع إسرائيل للأخذ بهذه التهديدات بجدية وأعلنت حالة تأهب قصوى على حدودها الشمالية وقامت بتأجيل البدء في استخراج الغاز من حقل كاريش والذي كان مقرراً في بداية شهر سبتمبر. 

لا يزال مضمون الاتفاق مبهماً ويحظى بسرية تامة، ولكن المعلومات المسربة بشأنه تقول أنه يقع في عشر صفحات باللغة الإنجليزية ويتضمن ملحقاً يشمل الإحداثيات المتفق عليها للحدود البحرية. ويتوقع أن يكون قد حسم الخلاف بين البلدين على الحقلين الواقعين في المنطقة المتنازع عليها بأن يكون قد خصص حقل لكل بلد كي تستغله اقتصادياً وتمنح حقوق التنقيب بشأنه.

 ويعود التنازع بين لبنان وإسرائيل إلى وقت الاكتشافات الأولى للغاز في منطقة شرق المتوسط منذ عام 2007، حيث تأخر لبنان آنذاك في إقامة الدراسات الهيدروجغرافية اللازمة لتحديد حدوده بشكل دقيق وإيداع خرائط وإحداثيات هذه الحدود لدى الأمم المتحدة، مما سمح لإسرائيل باتخاذ خطوات متلاحقة في استقدام شركات التنقيب ومحاولة فرض أمر واقع والترويج لرواية أن الحدود بين البلدين تبدأ من خط يسمى الخط 1 ولا يحق للبنان المطالبة بأي مساحة من المياة الإقليمية جنوب هذا الخط.

بينما طالب لبنان رسمياً منذ عام 2011 عبر مرسوم حكومي يحمل رقم 6433 بحدود بحرية تبدأ من الخط المسمى خط 23 ويقع جنوب الخط 1 ويضمن للبنان الفوز بمساحة إضافية تقارب 860 كيلومتر مكعب من المياة الإقليمية. وعندما حاولت الولايات المتحدة سابقاً التوسط بين البلدين، اقترحت اقتسام المساحة المتنازع عليها آنذاك في المنتصف تقريباً عند الخط المسمى خط "هوف"، وهو طرح سبق أن رفضه لبنان بحسم.

ثم نفذ لبنان خلال الأعوام الأخيرة أكثر من دراسة هيدروجغرافية بالتعاون مع شركات خبرة عالمية لتحديد الحدود بشكل دقيق وفق تعرجات السواحل والصخور المنتشرة في هذه المنطقة. إذ توصلت هذه الدراسات إلى أحقية لبنان في الحصول على مساحة إضافية تعادل 1430 كيلومتر مربع عبر تحريك خط الحدود جنوباً إلى الخط 29.

وقد أقرت قيادة الجيش اللبناني الخط 29 كخط للحدود الفاصلة بين البلدين المتنازعين وطالبت الحكومة بإتخاذ ما يلزم من تدابير لإعلام الأمم المتحدة بالخط الجديد للحدود وإرفاق الدراسات المتخصصة المؤكدة لهذه الحقوق[1].

غير أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة تخلفت ومنذ ديسمبر 2019 عن تنفيذ مطلب قيادة الجيش ذاك، وبحكم أن الحكومة اللبنانية الراهنة هي حكومة تصريف أعمال، فلا يحق لها أن تخاطب الأمم المتحدة بشأن هذا الطلب، وهو ما يضعف من موقف لبنان التفاوضي لأن الخط 23 هو الخط المعترف به بشكل رسمي من حكومة لبنان ولم يتم تقنين الاعتراف بالخط 29. وللمفارقة أن حماس الوسطاء الأمريكيين لإحياء مفاوضات ترسيم الحدود بين البلدين يتم في كل مرة تكون فيها الحكومة اللبنانية حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات في هذا الصدد.

تداعيات الحرب الأوكرانية

أسهمت أيضاً الحرب الروسية على أوكرانيا في إحياء الوساطة الأمريكية التي توقفت أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، وذلك لرغبة أوروبا في إيجاد بديل آمن للغاز الروسي من حقول شرق المتوسط. ورغم هذه الرغبة الملحة، فإن ماراثون الأيام الأخيرة لإبرام الاتفاق يتم في ظروف حساسة لكلا البلدين، إذ تنتهي ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون في 31 أكتوبر الجاري دون التوافق على خلف له. بينما تنعقد انتخابات الكنيست الجديد يوم 1 نوفمبر القادم وينافس فيها بقوة رئيس الوزراء السابق بينيامين نتنياهو الذي يعد أحد أهم المعارضين لإتمام هذا الاتفاق. إذ سبق وانتقد نيتنياهو بشدة أداء الحكومة الإسرائيلية بشأن هذه المفاوضات واعتبر أن لابيد يخضع لتهديدات نصرالله ولا يحافظ على المصالح الاستراتيجية لدولة إسرائيل.

وبالمثل تواجه عملية المفاوضات الجارية معارضة كبيرة في لبنان، إذ يرى البعض أن صهر الرئيس اللبناني، جبران باسيل والذي يطمع في أن يخلفه في كرسي الرئاسة، قد شجع على تعمد لبنان في تأخير المطالبة بالخط 29، كي يسهل عملية إتمام الاتفاق مع الإسرائيليين، ومن ثم يكافئه الأمريكيون ويسمحون له بالترشح للرئاسة بعد رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ نوفمبر 2020، وهي اتهامات وإن صحت فتعني أن النخبة الحاكمة، ومن ضمنها حزب الله نفسه، قد أهملت حق لبنان فيما يقارب 1430 كيلومتر مربع من المياة الإقليمية والتي يقع فيها جزء من حقل كاريش.

ومن جهتها، تعول النخبة اللبنانية الحاكمة على هذا الاتفاق لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية الخانقة، فمليارات الدولارات المنتظرة من بيع الغاز لأوروبا قد تسهم بشكل مباشر في تعويض بعضٍ من خسائر القطاع المصرفي اللبناني، والتي تقدر حتى اللحظة بنحو 80 مليار دولار من الودائع المجمدة التي لا يتمكن المودعون من استردادها.

بينما يرى خبراء أن الغاز المحتمل استخراجه بموجب هذا الاتفاق سيضمن للبنان طاقة كهربائية مستقرة لعدة سنوات قادمة، وينهي مرحلة اعتماد توليد الكهرباء في لبنان من الوقود التي تسببت في عجز ضخم في الميزانية لسنوات طويلة. غير أن الترتيبات التقنية للاستخراج الفعلي للغاز قد تأخذ عدة سنوات قبل أن تثمر فعلياً في مد خزينة الدولة اللبنانية بالإيرادات، ولكن الاتفاق نفسه قد يعطي إنطباعاً بتدعيم استقرار الأوضاع في لبنان مما قد يشجع على ضخ الاستثمارات الأجنبية فيه.

معارضة محتملة

ولذا فمع الإعلان عن تفاصيل الاتفاق، يُتوقع أن يواجه معارضة شديدة في البلدين، لما قد يعتبر تنازلاً عن حقوق استراتيجية وامتثالاً لتهديدات الطرف الآخر ولضغط الوسيط الأمريكي وأيضاً ضغط الحاجة الأوروبية للغاز المتوسطي، وهو ما قد يعني أن لحظة الإعلان عن الاتفاق قد تكون هي اللحظة الأخطر لإسقاطه وإفشاله، خاصة أن الحكومة في كلا البلدين لن تكون هي ذاتها بعد شهر من اليوم، وبالتالي لن تكون هي ذاتها التي ستشرف على تنفيذه.

فقد تعهد بينيامين نتنياهو في حال فوزه بالانتخابات بأنه لن يعتد بهذا الاتفاق، بينما قد يواجه الاتفاق معارضة حقيقية تهدد بإسقاطه إذا ما عُرض في مجلس النواب اللبناني، ولكن الاتجاه العام حتى الآن أن يعامل كاتفاق محدود وليس كمعاهدة كي لا يستدعي المصادقة عليه في مجلس النواب، ويُكتفى بأن الرئيس عون قد أشرف على التفاوض عليه وأن الحكومة قد أقرته. ويعتبر هذا الأمر خلافياً من الناحية الدستورية، لأنه إذا ترتب على هذا الاتفاق أعباء مالية على الدولة اللبنانية من قبيل اقتسام ريع حقول الغاز مع إسرائيل، فإن هذا يعني دستورياً أن لا تصح المصادقة على الاتفاق إلا في مجلس النواب. ولكن في نفس الوقت، إذا ما تبين أن الأعباء المالية لتقاسم الريع مع إسرائيل لن يتحملها لبنان وإنما ستسددها الشركة الفرنسية المسئولة عن الاستخراج، فهذا قد يضيف لضبابية الموقف.

 في النهاية، يبقى الأمر مرهوناً بالإعلان الفعلي عن تفاصيل الاتفاق ومدى مطابقتها دستورياً لمعيار العرض على البرلمان للمصادقة أو الاكتفاء بإشراف الرئيس وموافقة الحكومة. ولكن في جميع الأحوال، تعتبر المفاوضات الجارية نقلة نوعية في إدراك كلا الطرفين لطبيعة الصراع بينهما، إذ ترى إسرائيل أن لبنان المعتمد مالياً على تقاسم الريع القادم من حقول الغاز ربما سيكون أقل خطراً من لبنان المنهار اقتصادياً الذي لا يجد أي مصلحة من الاتفاق مع اسرائيل. ومن جهته، يرى لبنان، وخاصة الأطراف الأكثر تشدداً مثل حزب الله، أنه لا مانع من الاتفاق مع إسرائيل - رغم رفضه السابق لسنوات طويلة - إذا كان هذا الأمر يعود بمكاسب اقتصادية ومالية ويحقق مصلحة استراتيجية في توفير قدر من الاعتمادية على الغاز اللبناني.  يُضاف إلى ذلك بعض الفرص في تضييق هامش الصراع واختبار إمكانية الانتقال إلى التفاوض على الحدود البرية بين البلدين، فضلاً عن تثبيت التهدئة في الصراع بينهما وخفض حدة التهديدات المتبادلة والاختراقات الإسرائيلية المستمرة لنطاق المجال الجوي اللبناني.


[1] للمزيد عن هذا الأمر يمكن مراجعة: https://acpss.ahram.org.eg/News/17568.aspx

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام ويكلي، 6 أكتوبر 2022.

 


رابط دائم: