فيما كان اللبنانيون يترقبون تشكيل حكومة جديدة، طال انتظارها منذ انتخابات البرلمان فى مايو الماضي، فاجأ رئيس مجلس النواب نبيه برى الجميع بدعوته لعقد جلسة فى 29 سبتمبر الماضى لانتخاب رئيس الجمهورية الذى تنتهى ولايته فى 31 أكتوبر الحالي. أربكت هذه الدعوة المفاجئة القوى السياسية التى كانت لا تزال تناقش مواصفات الرئيس القادم، ولم تثمر الجلسة إلا فى مسألة «جس نبض» الأطراف المختلفة وتحديد وزن كل فريق. فضلاً عن تخفيض نصاب جلسة الانتخاب القادمة، وهى الجلسة الأكثر جدية والتى لم يُعلن عن موعدها بعد. إذ يشترط لانتخاب الرئيس فى أول جلسة أكثرية الثلثين (86 نائباً من أصل 128)، بينما لا يشترط فى الجلسات التالية إلا أكثرية النصف زائد واحد (65 نائباً من أصل 128).
معضلة توازنات القوى
نظراً لتشرذم الكتل البرلمانية، لا تملك كتلة واحدة أغلبية الثلثين أو حتى أغلبية النصف زائد واحد، ولذا لابد من تحالف أكثر من كتلة كى تنتخب الرئيس. وفى ظل حالة الاستقطاب الحالية، ستكون عملية الانتخاب محط مساومات متعددة الأطراف والمستويات. إذ ترى القوى المتحالفة مع حزب الله أن الرئيس يجب أن يكون من نفس خط الرئيس عون ليحمى المقاومة وسلاحها. بينما يرى الفريق الآخر، ممن يطلقون على أنفسهم لقب «السياديون»، أن الرئيس عون قد جمّد شئون البلاد بما أوصلها إلى حالة التردى الحالية ولن ينقذ لبنان أن يأتى رئيس جديد من نفس الخط. أما كتلة التغيير فترى أن الرئيس القادم يجب أن يكون من خارج الاصطفافات، كى ينهى حالة الاستقطاب الراهنة، فى حين تريد كتلة المستقلين رئيساً قادراً على رفع العزلة عن لبنان وإعادة احتضانه ودعمه عربياً ودولياً.
وبخلاف تشرذم الكتل البرلمانية، تبرز مشكلة اكتمال النصاب، لأن كل الكتل تمتلك بشكل متقارب فرصة حقيقية لإفشال نصاب اكتمال جلسة انتخاب الرئيس. وقد انتعشت المخاوف من غياب النواب لإسقاط نصاب الجلسة وتبادل الخصوم الاتهامات بشأن نية كل منهم التغيب لإسقاط النصاب والمساومة على الحضور لاقتسام المكاسب العائدة من انتخاب رئيس واستبعاد آخر. بل إن التنازع قد وصل إلى داخل معسكر حزب الله نفسه، خاصة أن هناك مرشحين على الأقل مواليين للحزب ويطمعان فى كرسى الرئاسة وهما سليمان فرنجية وجبران باسيل. وإذ يقف الحزب متأرجحاً بين الإثنين، ربما تعود دعوة برى للجلسة المفاجئة إلى رغبة الأخير فى «تقليم أظافر» بين الحلفاء وإظهار حجمهم الحقيقى داخل المجلس مما يسهل عملية المساومة الداخلية بين صفوف حلفاء الحزب.
رسائل عديدة
انعقدت الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس بحضور 122 نائباً وغياب أربعة نواب بعذر ونائبين بغير عذر. وكان واضحاً الرغبة فى الإعلان عن أسماء الغائبين لتبيان من تخلف عن أداء مهمة انتخاب الرئيس وسط جو من الشحن الاستقطابى وتبادل الاتهامات. وجرت عملية الانتخاب فى جولة واحدة فقط، حيث أعلن عن 63 صوتاً للورقة البيضاء و36 صوتاً لميشال معوض و11 لسليم إدة و10 أصوات تنتخب «لبنان» بينما صوت نائبان بشكل رمزى «لنهج» رئيس الوزراء الأسبق رشيد كرامى –الذى اغتيل فى عام 1987- ولـ»مهسا أميني» التى أشعلت وفاتها الاحتجاجات الإيرانية الراهنة. وبدا أن حلفاء حزب الله قد توافقوا على انتخاب ورقة بيضاء تعبيراً عن صعوبة التوصل لاسم توافقى لانتخابه، وفى نفس الوقت إظهار قوة الحزب الوشيكة على انتخاب رئيس بشكل منفرد إذا ما حصل على صوتين إضافيين فقط.
وفى المقابل، قرر الفريق «السيادي» انتخاب ميشال معوض –نجل الرئيس السابق رينيه معوض الذى اغتيل عام 1989- وهو نائب عن زغرتا. بينما ظلت كتلة التغيير وفية للمعايير التى أطلقتها سابقاً ضمن مبادرة انتخاب رئيس من خارج الاصطفافات وصوتت لسليم إدة، وهو رجل أعمال مغترب فى فرنسا لم يعرف عنه من قبل الاشتغال بالسياسة مطلقاً. ولذا كان صعباً على فريق التغيير اقناع آخرين من خارج كتلتهم بانتخاب رئيس لم يسبق له العمل السياسى فقط لكونه نظيف الكف ومن خارج حالة الاستقطابات الراهنة. بينما اختارت كتلة المستقلين انتخاباً رمزياً «لبنان» كى تظهر قوتها التصويتية ككتلة متماسكة وانفتاحها على انتخاب أى مرشح يلبى معاييرها المستقلة.
وفور فرز نتائج الانتخاب، سارع النواب بالخروج من قاعة المجلس كى ينفض النصاب ولا يتم الإعلان عن جلسة ثانية، وهو ما يؤكد أن الدعوة لهذه الجلسة قد أدت عدة أدوار فى مجمل المشهد السياسى إلا انتخاب الرئيس. إذ جاءت كمحاولة لجس نبض النواب وفرز قوتهم التصويتية، حتى ضمن كتل الحلفاء وليس فقط كتل الخصوم. ولذا لم تطرح أغلب الكتل مرشحها الحقيقي. كما استهدفت الجلسة إقناع داعمى لبنان من المجتمع الدولى بأن التوافق لانتخاب الرئيس لم يتحقق بعد، وبالتالى قد يتم التسامح مع تفويت مهلة الانتخاب دون رئيس جديد ودخول لبنان فى فراغ رئاسى عقب انتهاء ولاية ميشال عون. فضلاً عن أن إطلاق ورشة الانتخاب فى مجلس النواب قد حوله لهيئة انتخابية ونفى عنه الصفة الاشتراعية لحين انتخاب الرئيس، وهو ما يمكن التعلل به لتمرير بعض المسائل دون عرضها للتصويت فى المجلس، ومن ذلك مثلاً اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل.
ماذا بعد؟
لم يحدد نبيه برى جلسة أخرى لانتخاب الرئيس، ولكن المساومات التى انطلقت فور انفضاض الجلسة الأولى إما ستصل إلى توافق يقود إلى جلسة ثانية قبل عشرة أيام من انتهاء ولاية عون أو ستقود إلى الفراغ الرئاسى وتسليم صلاحيات الرئيس للحكومة التى قد تتشكل، أو لا تتشكل فيصبح الفراغ فراغين. ولعل العوامل المرجحة لأحد هذه الخيارات تأتى من خارج المشهد السياسى اللبنانى برمته. فمن جهة، يؤثر الاتفاق النووى المعلق بين إيران والغرب فى تسهيل أو تعقيد عملية انتخاب رئيس لبناني. فحزب الله يسيطر على المشهد الانتخابى ويمتلك كتلة من الحلفاء أكثر تجانساً من بقية الكتل وينقصه صوتان فقط لتمرير المرشح الذى يختاره، بل ربما يجد صعوبة داخل معسكره أكثر مما قد يجده بسبب خصومه.
من جهة ثانية، تؤثر مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل فى تحديد هوية الرئيس القادم، فإذا نجحت فى الوصول لاتفاق، قد يكافئ الأمريكيون جبران باسيل برفع اسمه من قائمة العقوبات وبالتالى تخويله الوصول لكرسى الرئاسة، وهنا سيدعمه حزب الله بالتأكيد وإلا تعرضت الكتلة الحليفة له داخل البرلمان للتفتت. بينما يبقى التعويل على كتلة التغييريين فى طرح أسماء أكثر توافقية داخلياً وخارجياً وأقل استقطابية تحصل على موافقة بعض الكتل وتتجنب استفزاز البعض الآخر وصولاً لنصاب الانتخاب بـ65 صوتاً. ولكن تحقق كل ذلك فى المدة القصيرة المتبقية قبل انتهاء ولاية عون يستلزم اتصالات إقليمية ودولية واسعة تجنباً لسيناريو الفراغ الرئاسى وتسريعاً لخطة الإنقاذ الاقتصادى للبنان.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 9 أكتوبر 2022.
رابط دائم: