تفاعلات مكثفة بخصوص قضايا حقوق الإنسان في كوريا الشمالية توالت في الفترة الأخيرة من بينها تعيين كوريا الجنوبية مبعوثاً خاصاً بالقضية بعد سنوات من شغور هذا المنصب، وزيارة مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في كوريا الشمالية الجديد لكوريا الجنوبية بعد فترة قصيرة من تعيينه، واتجاه سول إلى المشاركة في رعاية القرارات التي تصدر عن مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بخصوص كوريا الشمالية بعدما توقفت عن ذلك لسنوات، وتوالي الانتقادات الأمريكية لملف بيونج يانج الحقوقي. كل هذا في جانب، وفي الجانب الآخر التعامل الكوري الشمالي مع تلك التطورات.
هذه التفاعلات نقلت الملف إلى مرتبة متقدمة ضمن ملفات شبه الجزيرة الكورية الكثيرة والمتشعبة والمتداخلة والمعقدة في ذات الوقت. فإلى أين تسير الأمور على هذا الصعيد؟.
مؤشرات عديدة
يمكن رصد الكثير من المؤشرات على تزايد الاهتمام بملف حقوق الإنسان. ومعظم هذه المؤشرات مرتبط بتولي إدارة الرئيس الكوري الجنوبي يون سيوك يول مقاليد السلطة في مايو الماضي (2022) بعدما فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل ذلك بشهرين، حيث أن طرح الرئيس منذ كان مرشحاً في التعامل مع كوريا الشمالية يختلف كثيراً عن نهج إدارة الرئيس مون جي ـ إن، من حيث إدراك طبيعة التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية، ومن ثم التعامل مع ما تقوم به من إجراءات على صعيد تجاربها الصاروخية وبرنامجها النووي، سواء بشكل منفرد أو بالتعاون مع الحليف التقليدي ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك بتوسيع دائرة التعاون بحيث تشمل اليابان، ومن ثم فرص الحوار مع بيونج يانج، والتعامل مع ما يرتبط بها من قضايا في المنظمات الدولية.
بعد خمس سنوات من شغور منصب مبعوث كوريا الجنوبية لشئون حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، قامت إدارة يون بتعيين مبعوث جديد. ومن بين مهام منصب المبعوث الجديد الذي شغلته لي شين ـ هوا المتخصصة في العلوم السياسية بجامعة سول التنسيق مع المقرر الخاص الأممي المعني بذات القضية في كوريا الشمالية، وقد تصادف أن من تولى المنصب الدولي مؤخراً سيدة أيضاً ممثلة في إليزابيث سالمون، والتي زارت كوريا الجنوبية مؤخراً.
وبعد عامين من التوقف، عادت الاجتماعات التنسيقية بين الأجهزة الحكومية الكورية الجنوبية المعنية بحقوق الإنسان في كوريا الشمالية، والتي تضم وزارت الخارجية والعدل والوحدة. ومن بين موضوعات النقاش المقترحة إمكانية صياغة تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان في الشمال.
الحكومة الكورية الجنوبية الجديدة تتجه أيضاً إلى العودة إلى رعاية مشاريع قرارات منظمات حقوق الإنسان الدولية فيما يتعلق بكوريا الشمالية. وكانت الإدارة السابقة قد توقفت عن رعاية مثل هذه القرارات الدورية منذ أربع سنوات.
أضف إلى كل ذلك تصاعد الانتقادات الكورية الجنوبية لأوضاع حقوق الإنسان في الشمال. ومن ذلك، على سبيل المثال، ما ذكره سفير كوريا الجنوبية لدى الأمم المتحدة هوانج جون. كوك في 11 سبتمبر الحالي واصفاً حالة حقوق الإنسان في الشمال بأنها خطيرة جداً، وأنه قد لا يكون لها نظير في القرن الحادي والعشرين.
وقد لخصت كلمات وزير خارجية كوريا الجنوبية بارك جين عند لقاءه المقررة الأممية العنصرين السابقين معاً عندما قال: "إن حكومتي قلقة للغاية بشأن وضع حقوق الإنسان في كوريا الشمالية. وسوف نتعاون بشكل استباقي مع المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، لتعزيز وحماية حقوق الإنسان في كوريا الشمالية".
إليزابيث سالمون المقررة الدولية التي تولت منصبها بداية شهر أغسطس الفائت، حطت الرحال في سول أواخر الشهر واستمرت زيارتها ثمانية أيام التقت فيه كبار المسئولين المعنيين بملف حقوق الإنسان في الشطر الشمالي. وكان لافتاً أن مستوى اللقاءات قد شمل وزراء بعدما كان يقتصر على نوابهم فقط في المرات السابقة. كما أنها التقت مسئولي منظمات مجتمع مدني معنية بحقوق الإنسان في كوريا الشمالية، وكذلك منشقين كوريين شماليين في الجنوب. وقد أثيرت في هذه اللقاءات قضايا كثيرة من قبيل إعادة المنشقين قسراً إلى الشمال، وإرسال المنشورات إلى الشمال، وكذلك أوضاع المرأة في الشمال.
في شهر يوليو الماضي، صدر التقرير الأمريكي الخاص بالاتجار بالبشر وتضمن انتقادات كثيرة لسجل كوريا الشمالية بهذا الخصوص. كما استمرت التصريحات المتعلقة بقضايا كثيرة في الملف الحقوقي، ومن بينها الاهتمام ببرامج التسلح على حساب الاحتياجات الأساسية للشعب.
تحركات في اتجاهات مختلفة
كوريا الشمالية من جانبها لم تقف صامتة حيال كل ما ذكر. وقد اتبعت في تعاملها معه أسلوباً ذي ثلاثة أبعاد: أولها، يتمثل في تفنيد ما يثار. وثانيها، يتعلق بانتقاد حقوق الإنسان لدى الأطراف التي تنتقدها. وثالثها، يرتبط بالمنظمات الدولية وممثليها من حيث طبيعة الدور والاعتراف بالمهام.
بالنسبة لتفنيد ما يثار بخصوص حقوق الإنسان لديها، تذهب بيونج يانج ابتداءً إلى أنها تقوم على رعاية واحترام تلك الحقوق ليس من منطلق الضغوط الخارجية، وإنما من منطلق القناعات الوطنية متمثلة في فلسفة الحكم التي تعطي هذه المسألة أولوية مطلقة. ومن ثم فإن كل ما يثار في الخارج هو عبارة عن "تلفيقات" على أحسن الأوصاف التي تستخدمها، وأن الهدف من إثارة هذه القضايا هو الإساءة إلى الدولة والنظام وتشويه صورة البلاد، معتبرة أن ذلك بمثابة عدوان على سيادتها لايمكن التسامح معه. وتزيد بأن ذلك من الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة للتدخل في الشئون الداخلية للدول، وللاستمرار في بسط هيمنتها في شتى أرجاء العالم. ومن ثم فإنها ستتصدى لكل ذلك.
ومن نقطة التصدي ينتقل الحديث إلى البعد الثاني في التعامل الكوري الشمالي مع هذا الملف والمتمثل فيما يمكن تسميته برد الصاع صاعين لمن ينتقدوا حقوق الإنسان لديها. وعلى الأغلب تنال الولايات المتحدة النصيب الأكبر من هذا النقد المضاد. فإلى جانب ما ذكر عن توظيفها لتلك القضايا سياسياً ولأغراض أبعد ما تكون عن احترام حقوق الإنسان، فإنها تتهمها بأنها أكبر منتهك لحقوق الإنسان على مستوى العالم. وتعدد في هذا السياق الحروب التي خاضتها واشنطن، وما خلفته تلك الحروب من ضحايا سواء القتلى أو المصابين أو اللاجئين والمشردين، ناهيك عن الخراب الذي حل بالدول التي تعرضت لتلك الحروب. ولا تكتفي بيونج يانج بذلك بل ترصد ما يحدث داخل الولايات المتحدة من انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك تلك القضايا التي تلومها واشنطن عليها، من قبيل الاتجار بالبشر. وتذكر في هذا السياق أرقاماً، ولا تنس التذكير بما حدث على مدار التاريخ الأمريكي على صعيد العبودية والعمل القسري، مع بيان ما يجري في الحاضر من عنف متصاعد، وتمييز عنصري وغيرها من الظواهر في المجتمع الأمريكي.
ومما يجدر ذكره بالنسبة لما توجهه بيونج يانج من انتقادات لمن ينتقدوها على ما يعتبرونه انتهاكات لديها ما ذهبت إليه من أن الشطر الجنوبي هو المتسبب في نقل عدوى كورونا إلى أراضيها.
فيما يتعلق بالمنظمات الدولية، فإن بيونج يانج تطالبها بالتوقف عن أن تكون أداة في يد الولايات المتحدة، وأن تقوم بما هو منوط بها، ومن ثم فإنها لا تعترف بولاية المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان لديها، كما أنها لا تقبل بالقرارات التي تصدرها المنظمات الدولية. وعلى سبيل المثال، فقد ذكرت وزارة الخارجية الكورية الشمالية، بداية سبتمبر الحالي، أنها لا تعترف ولا تتعامل مع أي مقرر خاص، معتبرة أنه "مجرد دمية للولايات المتحدة".
متلازمة ثلاثية
هناك ما يمكن توصيفه بالمتلازمة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان في كوريا الشمالية. هذه المتلازمة تتضمن الحقوق والعقوبات والمساعدات. فبينما تنتقد بيونج يانج كثيراً فيما يتعلق بالحقوق، تفرض عليها عقوبات مغلظة، ترد عليها استثناءات تتعلق بالمساعدات التي تحتاج إلى موافقات من لجنة الجزاءات التابعة لمجلس الأمن الدولي. وهنا تطرح أسئلة كثيرة: هل العقوبات من شأنها إجبار النظام على القيام بإصلاحات؟، مع العلم بأن العقوبات فرضت بالأساس على خلفية برامج التسلح وليس انتهاكات حقوق الإنسان التي يتم الحديث عنها. وهل العقوبات تفاقم من أوضاع حقوق الإنسان؟، وهل نظام الاستثناءات الخاص بالمساعدات كافٍ لتلافي الآثار السلبية للعقوبات على الحقوق؟.
الحالة الكورية الشمالية تشير إلى أن العقوبات قد زادت النظام إصراراً على المضي قدماً في تعزيز قدراته العسكرية بما فيها غير التقليدية وعلى رأسها النووية. وقد قالها زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون صريحة وهو يتحدث مؤخراً عن عدم التخلي عن السلاح النووي، حيث ذهب إلى أن هناك حسابات خاطئة وسوء تقدير لدى من فرضوا العقوبات، وأضاف: "دعهم يفرضوا العقوبات مائة أو ألف يوم عشر سنوات أو مائة سنة فلن يزحزنا ذلك عن حق الدفاع عن النفس".
ليس ثمة جدال بأن العقوبات تؤثر بالسلب على المواطنين العاديين، وليس على النظام الحاكم، ولم تؤد إلى تغيير في سياساته. كما أن الحجة القائلة بأن النظام هو من يسهم في تدهور أوضاع الناس عبر تخصيص موارده الشحيحة لبرامج التسلح وليس لحاجاتهم تطرح تساؤلات أخرى أكثر مما تقدم إجابات. وأما عن الاستثناءات التي ترد على العقوبات ممثلة في المساعدات، فإنه فضلاً عن ضآلتها فإنها تظل رهينة مآخذ كثيرة وعقبات أكثر عند التنفيذ. وهذا ما أشارت إليه الأمم المتحدة في حالات كثيرة وليس في الحالة الكورية الشمالية فقط. قد يقال أيضاً إن الجانب الكوري الشمالي يرفض أحياناً عروض المساعدات، كما حدث عند تفشي وباء كورونا، وهذا صحيح، والرفض هنا أيضاً لاعتبارات سياسية مرتبطة بالرؤية العامة والاستراتيجية الشاملة.
تعقيدات رئيسية
أول من يدرك تعقيدات ملف حقوق الإنسان في كوريا الشمالية هم المعنيون بهذا الملف وإن شئت فقل المعينون. فالمبعوثة الكورية الجنوبية تقول: "التصريحات بشأن قضايا حقوق الإنسان قد تكون مسألة حساسة بالنسبة للنظام الكوري الشمالي، لكنها مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب الكوري الشمالي. أعتقد أن دوري هو أن أدعو النظام الكوري الشمالي إلى ضمان ليس أمن النظام ولكن الأمن البشري". فإذا كانت مجرد التصريحات مثيرة للنظام وإذا كان النظام لا يعبأ بمثل هذه التصريحات، وفي نفس الوقت يرى أنه يرعى حقوق شعبه أفضل رعاية فما الذي يبقى لفعله وهل سيستجيب لمثل هذه الدعوات؟، وبالتبعية إذا كان لا يعترف بولاية مقرر الأمم المتحدة فكيف ستتحقق مقولتها "لابد لي من عدم التخلي عن تعزيز التعاون مع كوريا الشمالية لأن ذلك يتعلق بحقوق الإنسان للشعب الكوري الشمالي ومعيشته"؟.
لا تقف التعقيدات عند هذا الحد، حيث أن كوريا الشمالية تعيش في حالة عزلة عن العالم، وقد زادت هذه العزلة مع تفشي وباء كورونا منذ حوالي ثلاث سنوات. وربما تجادل بيونج يانج بأن العقوبات تزيد من تلك العزلة. هذه العزلة وما تؤدي إليه من شح في المعلومات الدقيقة إن لم تشكك فيما يقال حول أوضاع حقوق الإنسان، فإنها تظل في حاجة إلى مطالعة على أرض الواقع.
كذلك، لا يمكن فصل ما يدور بخصوص حقوق الإنسان عما يدور من مناوشات أيديولوجية لا تخص فقط الممارسات السياسية، وإنما مجمل القواعد التي تحكم النظام الاجتماعي والاقتصادي في كوريا الشمالية. ولا تقف هذه المسألة عند كوريا الشمالية وحدها.
أخيراً وليس آخراً، فإن ملف حقوق الإنسان في كوريا الشمالية هو واحد من مجموعة من الملفات. وإذا كان هذا الملف معقداً، فربما كانت تعقيداته هي الأقل إذا ما قورن بالملف النووي. بل إنه يمكن القول إن ملف حقوق الإنسان هو ملف تابع لملفات أخرى. وتشهد الخبرة التاريخية أن التصعيد والتهدئة في هذا الملف كانت مرتبطة بالملفات الأخرى. ومن ثم فإن التسخين في ملف حقوق الإنسان والنشاط الذي تشهده تفاعلات معادلته مرتبط بما يجري توازياً في معادلات الملفات الأخرى.