الولايات المتحدة: "صمت " محسوب فى العراق و"تصعيد" ميدانى فى سوريا !!!
2022-8-29

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

موقفان متناقضان أبدتهما الولايات المتحدة خلال الأسبوعين الماضيين تجاه أزمتين من أهم الأزمات فى منطقة المشرق العربى، وتنخرط فيهما بوجود عسكرى "نوعى"؛ أحدهما، تمثل فى حالة "الصمت" التى تبنتها إدارة الرئيس جوبايدن حيال أزمة الصراع السياسى المتصاعدة فى العراق بين تيار الصدر وبين قوى الإطار التنسيقى بشأن تشكيل الحكومة، قبل أن يعلن الصدر اعتزاله الحياة السياسية نهائياً فى 29 أغسطس 2022. والآخر، تمثل فى حالة "التصعيد" المتعمد تجاه الميليشيات المسلحة التابعة للحرس الثورى الإيرانى فى منطقة شرق الفرات بمحافظة دير الزور السورية فى 24 من أغسطس المذكور. وما بين موقف الصمت تجاه الصراع الشيعى على تشكيل الحكومة فى العراق على مدى التسعة الأشهر الماضية، وبين خيار المواجهة العسكرية مع الميليشيات المدعومة من إيران فى شرق سوريا، تكمن العديد من الأسباب والتفاصيل وتتكشف الكثير من الدلالات التى سيكون لها انعكاساتها على نمط التفاعل الأمريكى مع الأزمتين خلال الفترة المقبلة.

لماذا الصمت فى العراق؟

حالة الصمت التى انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن حيال التصعيد السياسى فى العراق على هامش إشكاليات تشكيل الحكومة، بين التيار الصدرى وقوى الإطار التنسيقى بدت لافتة؛ بالنظر إلى كون العراق دولة كانت محتلة من قبل الولايات المتحدة عام 2003، وتحت هذا الاحتلال صيغ الدستور العراقى عام 2005، الذى أسس نظاماً للحكم منح المكون الشيعى أفضلية واضحة على حساب باقى المكونات السياسية الأخرى، وأنتج قاعدة لتداول السلطة تقوم على "المحاصصة الطائفية" التى تعد سبباً رئيسياً فى كل ما واجهه العراق من أزمات سياسية وعدم استقرار أمنى، وخلقت تلك المحاصصة مجالاً للاحتقان الطائفى بين المكونات السياسة الشيعية والسنية والكردية، ما أدى إلى وجود الميليشيات المسلحة التى تعمل خارج منظومة المؤسسة الأمنية الرسمية للدولة، وحينما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق فى عام 2011، وضعت آلية محددة للتعاون معه تقوم على آلية الحوار الاستراتيجى، وعند عودتها لمواجهة إرهاب تنظيم الدولة فى عام2014، أعادت صياغة علاقة التعاون مع بغداد فى إطار محاربة الإرهاب، ومع انسحابها الجزئى خلال الفترة (2020- 2021) جراء تصاعد حدة الرفض السياسى للوجود الأمريكى، أعادت واشنطن تصنيف العلاقات بينها وبين بغداد تحت مسمى "الشراكة الاستراتيجية الشاملة". هذا بخلاف ما يمثله العراق بالنسبة للولايات المتحدة باعتباره "شريكاً" إقليمياً فى الحرب الدولية ضد الإرهاب، ولديه فائض احتياطي من النفط، ونقطة الارتكاز فى سياسة الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الإيرانى فى المنطقة.

هذا النمط من التفاعل على مدار تلك السنوات يفرض على الجانب الأمريكى إبداء قدر يعتد به من الاهتمام حيال ما تشهده العراق من أزمة سياسية طاحنة تكاد تنذر بحالة من الاحتراب المسلح، لاسيما وأن واشنطن لديها خبرات سابقة فى التعامل مع أزمات التشكيل الحكومى فى العراق، وأن هذا الدور غالباً ما كان يأتى فى سياق "التوافق الإقليمى والدولى" بشأن شخصية من يتولى رئاسة الحكومة العراقية، وهو موقف لطالما نزع فتيل العديد من الأزمات بخصوص تشكيل الحكومات العراقية سابقاً. فما الذى تغير إذن فى الموقف الأمريكى تجاه حالة الصراع السياسية التى يشهدها العراق فى المرحلة الحالية؟.

بداية يلاحظ أن موقف الإدارة الأمريكية التى تنتهج الصمت "المحسوب" سلوكاً لها فى التعامل مع الأحداث الجارية فى العراق حالياً يعكس عدة معطيات:

أولها، تراجع الاهتمام السياسى الأمريكى بالملف العراقى إلى حد ما؛ بمعنى أنه لم يعد يحظى بأولوية واضحة فى أجندة الإدارة الأمريكية فى هذه المرحلة. هذا التصور ربما يكون صحيحاً بالنظر إلى استحواذ الحرب الروسية-الأوكرانية على جل الاهتمام الأمريكى، يضاف إلى ذلك التصعيد الذى تمارسه الولايات المتحدة تجاه الصين فيما يتعلق بتايوان، وهو ما يعكس تركيز إدارة بايدن على مواجهة السياسات الروسية والصينية فى منطقة "الاندوباسيفيك". يستثنى من ذلك بعض المحاولات التى بذلتها السفيرة الأمريكية والتى دعت فيها الأطراف السياسية العراقية إلى التزام التهدئة وضبط النفس. هذا التراجع النسبى فى اهتمام واشنطن بالعراق أعطى مساحة من التحرك الفعال لإيران لضخ مزيد من الدعم السياسى لحلفائها من قوى الإطار التنسيقى، بما أظهر حالة من الحضور الإيرانى القوى والفعال على مشهد التفاعلات السياسية العراقية، ومن شأن هذا الأمر أن "يحبط" - بصورة غير مباشرة - محاولات بعض القوى السياسية العراقية إحداث تغيير فعلى على منظومة الحكم الموجودة، التى تراها سبباً مباشراً فى كل ما يعانيه العراق من أزمات.

ثانيها، إخفاق الإدارة الأمريكية الحالية فى "التقدير الاستراتيجى" لتفاعلات مكونات المشهد السياسى فى العراق بعد نتائج الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر 2021، بمعنى أن إدارة بايدن تولى اهتماماً معيناً بفكرة الديمقراطية عبر دعم مؤسسات الدول التى تصنف بأنها صاحبة تجربة ديمقراطية "وليدة"، ولا يمتد هذا الاهتمام –فى حالات معينة - لدعم القوى السياسية. وعليه لم تهتم تلك الإدارة بتوفير الدعم الدبلوماسى الممكن للقوى السياسية التى فازت بنتيجة الانتخابات فى مسارها لتشكيل الحكومة الجديدة، وهى تيار الصدر والقوى المتحالفة معه فى "تيار إنقاذ وطن"، فى المقابل واصلت إيران دعمها القوى واللامحدود للقوى السياسية من الأحزاب الدينية التقليدية الموالية لها بالرغم من فشلها فى الحصول على "الشرعية الانتخابية" إن جاز التعبير، بل عملت على تحويل مسار إخفاق حلفائها انتخابياً إلى مسار ينجح تدريجياً فى دفع خصومه من قوى تيار إنقاذ وطن إلى الفشل مراراً وتكراراً فى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر عبر آلية – الثلث المعطل- بل ودفع قاطرة هذا التيار وزعيمه إلى الاستقالة من البرلمان، والخروج من أطر المعارضة السياسية إلى معارضة الشارع مستغلاً حضوره اللافت لدى قاعدة عريضة من الجماهير العراقية الشيعية والسنية والكردية وغيرها، وصولاً إلى إعلانه الاعتزال الكامل والنهائى للحياة السياسية.

ثالثها، أن موقف أكثر حضوراً للولايات المتحدة - عبر الأداة الدبلوماسية - فى الصراع السياسى الحالى فى العراق كان كفيلاً بتوفير قوة "موازنة " للدور الإقليمى الذى تلعبه إيران بجدارة فائقة داخل العراق، وهذا يعنى وجود إخفاق فى تقدير إدارة بايدن لمدى النجاح الذى كان يمكن أن تحققه القوى الفائزة فى الانتخابات العراقية تجاه إضعاف قبضة إيران على مقاليد الحياة السياسية فى العراق، وذلك حال نجاح تلك القوى فى تشكيل حكومة وطنية غير طائفية. بمعنى أكثر دقة مثّل "غياب" الولايات المتحدة عن مفاعيل وتطورات الأزمة السياسية فى العراق على مدار التسعة أشهر الماضية "فرصاً ضائعة" كانت كفيلة بتغيير قواعد اللعبة السياسية فى العراق ضد إيران، التى تنجح دائماً فى ملء الفراغ الذى تتركه الولايات المتحدة فى بؤر الصراع التى ينخرطان فيها. ويلاحظ هنا أن الصمت الأمريكى تجاه العراق بهذه الكيفية يدفع البعض إلى ترجيح فكرة أن واشنطن لا ترغب فى إشعال جبهات صراع جديدة بينها وبين طهران داخل العراق حتى يتم التوقيع على الاتفاق النووى الإيرانى الجديد، ما يعيد إلى الأذهان سياسة الرئيس الديمقراطى الأسبق باراك اوباما الذى اعتقد أن إبرام الاتفاق النووى مع إيران – مايو 2015 – سيمنعها أو على أقل تقدير سيبطئ من مسار نفوذ مشروعها الإقليمى فى المنطقة، وهو ما حدث عكسه تماماً.

رابعها، اكتفاء الولايات المتحدة بلعب دور "المراقب" للأحداث فى العراق، وإجراء "تقييم" لحالة الصراع السياسى، وما سيفضى إليه من نتائج وفقاً لحسابات الربح والخسارة التى يمكن أن تواجه المصالح الأمريكية فى الداخل العراقى، على خلفية أن الصراع بين المكونات السياسية الشيعية بإمكانه أن يوفر فرصاً مواتية لكسر حدة الهيمنة الإيرانية فيه، بما يوفر للعراق هامش حركة يبتعد به نسبياً عن سياسات المشروع الإقليمى الإيرانى. وتعد حظوظ هذا التصور ضئيلة وربما منعدمة لاسيما بعد أن أعلن الصدر - وهو الشخصية المتقلبة التى يصعب توقع سلوكها السياسى - اعتزاله الحياة السياسية كاملة تاركاً المجال السياسى لقوى الإطار التنسيقى لتعيد بوصلة السياسة العراقية تجاه إيران مجدداً.

تصعيد أمريكى فى سوريا

على العكس تماماً من الموقف الأمريكى "الصامت" تجاه تطورات الأزمة السياسية فى العراق، نجد موقفاً أمريكياً مغايراً فى سوريا، وتحديداً فى شرق الفرات؛ حيث صعّدت الولايات المتحدة من استهدافها العسكرى بضربات جوية لبنية تحتية تابعة لفصائل شيعية مسلحة موالية لإيران، فى محافظة دير الزور الاستراتيجية والقريبة من منطقة الحدود مع العراق، وتشمل منشآت وأسلحة وذخيرة ومعدات عسكرية، وثمة عدة أسباب يمكن الارتكان إليها فى تفسير هذا التصعيد العسكرى الأمريكى شرق سوريا:

أولها، حماية الوجود الأمريكى شرق الفرات (500-2000) جندى؛ الذى تهدد على مدار الأسابيع الماضية، وتحديداً القواعد الموجودة بدير الزور حول حقلى نفط "العمر"، و"كونيكو"، والقواعد العسكرية فى منطقة الجزيرة "الحسكة" شمال شرق سوريا، إلى جانب محافظة الرقة بالشمال. ويلاحظ أن التواجد الأجنبى المسلح فى مناطق شرق الفرات غير قاصر على الولايات المتحدة وحلفائها المحليين من قوات سوريا الديمقراطية فقط، بل هناك وجود كبير لميليشيات مسلحة تابعة للحرس الثورى الإيرانى تنتشر على طول المنطقة الحدودية مع العراق فى محافظة دير الزور السورية، لحماية حركة الانتقال للمعدات العسكرية والأسلحة والمقاتلين من العراق إلى سوريا. ومن هنا جاءت الضربات الأمريكية شرق الفرات على مدى الأسبوعين الماضيين، والتى نُفذت بتوجيهات من الرئيس الأمريكى نفسه، خاصة بعد أن شنت تلك الفصائل هجوماً بطائرات مسيرة على قاعدتى "العمر" و"كونيكو" النفطيتين، ونتج عنها إصابات بين الجنود الأمريكيين، كما تعرضت قاعدة "التنف" الأمريكية فى منطقة جنوب شرق سوريا، حيث الحدود السورية العراقية-الأردنية، لاستهداف مماثل، وتفرض جملة هذه الخسائر التى يتعرض لها الوجود الأمريكى فى سوريا ضغوطاً داخلية "حادة" على إدارة الرئيس بايدن من جانب المعارضة الرافضة لفكرة العودة إلى اتفاق نووى جديد مع إيران.

ثانيها، استهدف التصعيد الميدانى الأمريكى فى شرق سوريا توجيه رسالة واضحة لحالة "التوافقات" الدولية والإقليمية التى شهدتها صيغة آستانا الثلاثية بين تركيا وروسيا وإيران عقب القمة التى عقدت بين قادة الدول الثلاثة فى طهران في 19 يوليو 2022، خاصة بعد أن أشار البيان الختامى للقمة إلى ضرورة خروج القوات الأمريكية من شرق الفرات. وهذا ربما يشير إلى أن الولايات المتحدة قد تتخذ خطوات من شأنها تعزيز وجودها العسكرى وحمايته فى سوريا، بما يعنى أنها لن تفكك وجودها العسكرى الحالى فى الشرق السورى على الأقل فى المدى المنظور.

ثالثها، ارتباط عملية استهداف الولايات المتحدة للميليشيات التابعة للحرس الثورى الإيرانى فى شرق سوريا بمسار التفاوض بشأن البرنامج النووى الإيرانى، لاسيما ما يتعلق بحالة الجدل التى أثيرت بشأن موقف واشنطن الرافض لرفع الحرس الثورى من قائمة الإرهاب. بمعنى أن واشنطن ترغب فى توصيل رسالة لطهران مؤداها أن الاتفاق النووى الجديد معها لا يعنى بأى حال من الأحوال غض الطرف عن تحركات ميليشيات الحرس الثورى ضد المصالح الأمريكية فى الشرق السورى، وبنظرة أكثر وضوحاً يمكن القول أن التحرك الأمريكى ضد ميليشيات تابعة للحرس الثورى يعنى أن الاتفاق النووى لا يفرض قيوداً على مواجهة واشنطن لسياسات المشروع الإقليمى الإيرانى فى سوريا.

رابعها، حضور المتغير الإسرائيلى في معادلة العلاقات بين الجانبين الأمريكى والإيرانى فيما يتعلق بسوريا؛ بمعنى أن الهجوم الذى شنته عناصر موالية للحرس الثورى الإيرانى على قاعدة التنف الأمريكية فى 15 أغسطس 2022، جاء كرد مباشر على الضربات العسكرية الإسرائيلية لأهداف داخل سوريا فى اليوم نفسه. وبالتالى ولتقليل حدة الضغوط التى تمارسها إسرائيل على إدارة الرئيس بايدن بسبب الاتفاق النووى المحتمل مع إيران، رغب الأخير – عبر استهدافه الوجود الإيرانى شرق سوريا - في طمأنة الجانب الإسرائيلى بأن الاتفاق لن يغير فى قاعدة التعامل الأمريكى مع إيران، لاسيما فيما يخص "أمن إسرائيل" انطلاقاً من الأراضى السورية.

مما سبق يمكن القول إن ثمة نمطاً من التفاعل الأمريكى مع الأزمتين العراقية والسورية بدا مختلفاً ولافتاً خلال الآونة الأخيرة، ما بين الصمت "المحسوب " بالنسبة للأزمة السياسية فى العراق، وما بين "التصعيد" الميدانى فى سوريا، ولكل من الموقفين دوافعهما المختلفة، بالنظر إلى حضور المتغير الإيرانى والاتفاق النووى بوضوح في نمط هذا التفاعل فى الحالتين. وربما يؤشر هذا على أن إبرام اتفاق نووى جديد مع إيران سيكون له تبعاته الواضحة على تحركات إيران فى كل من العراق وسوريا، وهو ما يدعو إلى التساؤل بشأن مدى قدرة الولايات المتحدة على تقويض السلوك الإيرانى فى الإقليم فعلياً بعد الاتفاق النووى، أم أن المشروع الإيرانى فى سوريا والعراق سيزداد رسوخاً وقوة؟

 


رابط دائم: