تأثير الفتوى: دلالات احتفاء الإعلام الإيراني باستهداف سلمان رشدي
2022-8-17

د. محمد عباس ناجي
* رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعيداً عن الجدل الذي اتسع نطاقه حول علاقة الفتوى التي أصدرها مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية روح الله الخميني في عام 1989 بإهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي، بسبب رواية "آيات شيطانية"، بعملية استهدافه التي جرت في نيويورك في 12 أغسطس الجاري، وحول التساؤلات التي أثيرت بشأن ما إذا كانت السبب الرئيسي في ذلك أم أن هناك أسباباً أخرى، فإن الحادث نفسه وما أثاره من ردود فعل بدا بعضها مُرحِّباً بما جرى على غرار ما عكسته بعض وسائل الإعلام الرئيسية في إيران، يلقي الضوء مجدداً على تأثير الفتوى على المستويين الديني والسياسي في المجتمع والفقه السياسي الشيعي بشكل عام.

فرغم اختلاف المدارس الفقهية الشيعية حول قضايا رئيسية، ومنها علاقة رجل الدين بالسياسة- وهو ما يبدو جلياً في نموذجى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي والمرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله على السيستاني- والموقف من إقامة الدولة في حد ذاته، فإنها تتفق على أن الفتوى تمثل ركناً أساسياً من أركان الفقه. إذ أن إحدى مهام الفقيه المجتهد "مرجع التقليد"- الذي يعتبر همزة الوصل بين الإمام الغائب وجمهور الشيعة أو "المُقلِدين"- تتمثل في إصدار فتاوى للجمهور حول القضايا المختلفة.

وقد بدا تأثير الفتوى جلياً في مناسبات وأحداث سياسية رئيسية. ويتزايد تأثيرها مع الوضع في الاعتبار أن المؤسسة الدينية في الفقه الشيعي تقليدياً مستقلة من الناحية المالية عن الدولة، حيث يحصل مرجع التقليد على موارد مالية عبر زكاة "الخُمس" التي يدفعها مُقلِدوه له أو لممثليه. وهنا، فإن الفتوى، في بعض الأحيان، تناقضت مع السياسة التي كانت تتبعها الدولة، وغالباً ما كان لها تأثير مباشر على اتجاهات علاقاتها الخارجية.

ويبدو المثال الأبرز على ذلك في فتوى تحريم التبغ، التي أصدرها المرجع الشيعي محمد حسن الشيرازي في عام 1891، والتي أدت إلى إلغاء الاتفاقية التي وقعتها إيران في عهد الملك القاجاري ناصر الدين شاه مع شركة بريطانية، حيث كانت هذه الاتفاقية تهدد مصالح عدد كبير من التجار والعمال الإيرانيين، وهو ما أدى إلى اندلاع ما يسمى بـ"ثورة التنباك" "نضهت تنباكو" في عام 1890، والتي دفعت الشيرازي إلى إصدار تلك الفتوى التي قضت بتحريم التبغ، باعتبار أنه يدخل في إطار "محاربة الإمام". وقد وصل تأثير هذه الفتوى إلى بيت الحاكم نفسه، حيث أشارت دراسات عديدة إلى أن زوجات الشاه وخدمه التزموا بها[1].

وثمة أمثلة عديدة ما زالت تقدم نماذج واضحة على مدى تأثير الفتوى، ومنها فتوى "الجهاد الكفائي" التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني في عام 2014 لمحاربة تنظيم "داعش"، بعد أن اجتاح مناطق واسعة من العراق بداية من نصف هذا العام. بل إن إيران نفسها ما زالت تستند إلى الفتوى التي أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي، في عام 2003، لتحريم إنتاج وتخزين أسلحة الدمار الشامل، في تأكيد "سلمية" برنامجها النووي.

وقد كان لافتاً أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ذكر هذه الفتوى ضمن أسانيده لتعزيز قدرة إدارته على استقطاب دعم داخلي وخارجي للمفاوضات مع إيران التي انتهت بالوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015. فقد رحب أوباما، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2013، بوعود أطلقها الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني وأكد فيها أن بلاده لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، وبرر الرئيس الأمريكي ذلك بقوله أن "هناك أساساً لذلك القرار، لأن المرشد الأعلى الإيراني أصدر فتوى ضد تطوير الأسلحة النووية"[2].

ومن دون شك، أثارت تلك التصريحات ردود فعل سلبية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث دفعت اتجاهات عديدة إلى شن حملة ضد الرئيس الأسبق، باعتبار أنه يستند في تبريره للمفاوضات مع إيران إلى "فتوى دينية" يصدرها مرشدها الأعلى ولا تلزم الحكومة الأمريكية بشئ. بل إن هناك من ذهب إلى أن هذه الفتوى لا تفرض قيوداً على الأنشطة النووية الإيرانية وأنه من الممكن تعديلها في حالة ما إذا ارتأت القيادة الإيرانية ضرورة لذلك. وقد كان لافتاً أن هذه التكهنات الأخيرة وجدت مؤخراً ما يضفي عليها نوعاً من الأهمية والزخم، حيث قال النائب في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني (البرلمان) محمد رضا صباغيان بفقي، في 2 أغسطس الجاري، أنه "على العدو أن يعلم أنه إذا استمر في وقاحاته وتهديداته، فسوف نطلب من المرشد تغيير الاستراتيجية وفتوى إنتاج الأسلحة النووية".

قوة خفية

هنا، يمكن العودة من جديد إلى أسباب احتفاء الإعلام الإيراني بمحاولة اغتيال سلمان رشدي. إذ يمكن تفسير هذا الاحتفاء في إطار التذكير بأحد الأسس القوية التي يقوم عليها النظام الإيراني، الذي يستند إلى قاعدة دينية وسياسية في آن واحد، ويمزج بين الجانبين الثيوقراطي والمؤسسي. وربما لا يكون ذلك بعيداً عن محاولة النظام- بشكل غير مباشر- الرد على الانتقادات التي يتعرض لها من جانب قوى داخلية وخارجية.

إذ تتبنى هذه القوى مقاربة مناقضة لتوجهات النظام، تقوم على أنه لم يستطع على مدار أكثر من أربعة عقود تطوير نفسه للتكيف مع المعطيات الجديدة التي طرأت على الساحة الداخلية تحديداً. فالمجتمع الإيراني "شاب"، وحسب بعض التقديرات، فإن نسبة من تقل أعمارهم عن 14 عاماً تصل إلى 25%، في حين أن نسبة من تقل أعمارهم عن 40 عاماً تبلغ نحو 50%[3]. ويعني ذلك أن نصف المجتمع الإيراني ولد بعد قيام الثورة، ولم يعاصر أو يتأثر بالخطاب الأيديولوجي الذي بلغ ذروته في العقد الأول منها، خلال عهد الخميني (توفى في 4 يونيو 1989)، وأثناء اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.

هنا، فإن أحد أهداف هذا الاحتفاء يتمثل في إلقاء الضوء مجدداً على تأثير الفتوى باعتبارها "قوة خفية" تستطيع استقطاب قاعدة عريضة من الجمهور بمختلف الأعمار. ورغم أن وسائل الإعلام الإيرانية التي تناولت الحادث لم تربط بين هادي مطر- 24 عاماً- المتهم بالاعتداء على رشدي وبين الفتوى، وأن وزارة الخارجية الإيرانية نفت وجود علاقة، إلا أنها في النهاية أوحت بأن المسألة لها علاقة بشكل ما بها أو على الأقل منحت الفرصة للبعض للربط بين الأمرين.

استقطاب قاعدة عريضة من الجمهور يخدم خطاب النظام الإيراني من ناحيتين: الأولى، الرد على الادعاءات التي تروجها قوى المعارضة في الخارج بأن شعبية النظام الإسلامي تتآكل، بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها إيران. وهنا، فإن الجانب الثيوقراطي للنظام يقوم بمهامه، حيث أن نفوذ الولى الفقيه (وهو المرشد الأعلى للجمهورية في الوقت نفسه) يتعدى حدود الدولة التي يحكمها ويصل إلى مختلف أصقاع الأرض، طالما أن هناك مُقلِدين يتبعونه.

وربما لا ينفصل ذلك عن محاولات للإيحاء بأن للنظام الإيراني أنصار حتى في الدول التي تتبنى سياسات مناوئة له، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية. بل إن بعض الاتجاهات قد تطرح في هذا السياق افتراضاً نظرياً بأن هذا النفوذ ربما يتحول، في مرحلة معينة، إلى ورقة ضغط يمكن التلويح بها.

والثانية، نفى الطابع التدخلي للسياسة الخارجية الإيرانية، من خلال الترويج إلى أن هذا التدخل، حسب الادعاءات الإيرانية التي لا تتسامح في كثير من الأحيان مع المعطيات الموجودة على الأرض، يدخل في إطار "الدعم المعنوي" الذي يفرضه وجود مرجع تقليد تصل فتاواه إلى جمهوره أياً كانت مناطق تواجدهم، وفي سياق ما يسمى أيضاً بـ"نصرة المستضعفين"، وهو العنوان الرئيسي للدعم الذي تقدمه إيران للمليشيات المسلحة وبعض الجماعات الطائفية في دول مختلفة داخل المنطقة وخارجها.

ومع ذلك، يمكن القول في النهاية إن هذا التأثير الذي تمارسه الفتوى على السياسة الإيرانية لا يعني أن الجانب الأيديولوجي يطغى على تفاعلات إيران مع الخارج أو الداخل. فإيران تستند إلى أيديولوجيتها في حالة واحدة فقط هى عندما تتسامح مع مصالحها. لكن في غير ذلك تبقى الغلبة للأخيرة.


[1] بي بي سي، حكاية ثورة التبغ التي هزت عرش الشاه في إيران، 10/3/2019، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/r07Ew

[2] Oren Dorell, White House stands by alleged anti-nuke fatwa in Iran, USA TODAY, Oct 1,2013, available at; https://2u.pw/IDkwT

[3] Tara Kangaroul, Iran Is Too Often Viewed Through the Lens of Our Rulers. Try Looking Through the Eyes of Our People, TIME, June 18, 2021, available at; https://2u.pw/Ro3dg.


رابط دائم: