المسألة الثقافية.. مداخل للحوار
2022-7-18

نبيل عبد الفتاح
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تشكل المسألة الثقافية واحدة من أبرز علامات المسألة المصرية فى عالم متغير، وتتمثل فى تراكمات تاريخية مستمرة منذ هزيمة يونيو 1967 وحتى الآن، فى علاقاتها بالمسألة السياسية، ومدى خضوع الثقافى للسياسى، والأهم مدى إدراك الطبقة السياسية الحاكمة لأهمية ومركزية دور الثقافة الحرة، والعقل الحر، والضمير الحر، فى إضفاء قوة وحركية، وقدرة على إنماء دور الثقافة فى السياسة الخارجية، وفى إضفاء حيوية على السياسة الداخلية والسياسات الاجتماعية، فى أى نموذج تنموى يُراد تطبيقه فى الواقع المصرى، أدركته الطبقة السياسية، وتشكيلها ومصادر تجنيدها الثقافى بعد 1952، بوصفه مصدراً محتملا لعدم الاستقرار الاجتماعى والسياسى، ومن ثم أدرك غالبُ الطبقة والجهاز البيروقراطى أنها أحد مصادر التهديد غير المباشر للاستقرار السياسى والأمنى، ومن ثم خضع ما كان يطلق عليه مصطلح المثقفين الغامض فى الفهم الشائع للرقابات المختلفة، وتم إدراكهم كمعارضين للنظام.

هذا الخلط الإدراكى، والمفهومى، بين الجماعة الثقافية، وبين الأحزاب السياسية السرية، أثر سلبياً فى إدراك السلطة للمثقف كمصدر من مصادر تحريك الاضطراب السياسى والاجتماعى، وهو ما يتطلب رفع هذا التناقض والتوتر المستمر، خاصة فى ظل ظاهرة تراجع دور المثقف عقب 25 يناير 2011 وصعود سلطة الداعية الدينى السلفى، وغيره.

لا شك أن إدراك القوة الثقافية، وربطها بالتعليم، يشكل أحد محركات الحيوية الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية فى مواجهة الثقافة النقلية، والعقل الدينى النقلى، الذى تعتمد عليه القوة الرمزية، والحركية للجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، وإنتاجها لوعى اجتماعى مفارق لعصرنا وأسئلته، وتحدياته المختلفة. ثمة عالم جديد يتشكل، فى ظل الثورة الصناعية الرابعة، وبشائر الخامسة، مع الذكاء الصناعى. وانتقال الدنيا من مجال الثقافات الرفيعة، التى كانت تُستهلك فى الماضى خلال القرن العشرين، إلى مجال الثقافات الجماهيرية، واستهلاكها، فى أنماط الكتابات والسرديات الرقمية، والورقية، وكذلك الموسيقى، والغناء، والرقص، ونظام الطعام، ونظام الزى، وهو ما يدخل فى مفهوم الثقافة بالمعنى العام لدى «تايلور». من هنا لابد من إيلاء عناية خاصة للثقافة من أسفل، من خلال التحول من الثقافة الورقية إلى مجال الثقافة الرقمية، وتنشيط أدوار الجماعات الثقافية فى الأرياف، لمواجهة التطرف الدينى، من خلال تعزيز أدوار الجمعيات الأهلية الثقافية، ومحاولات دعمها، والتكامل بين جهاز الدولة الثقافى، وبين هذه الجمعيات، فى جميع المجالات، خاصة السينما، والمسرح، والموسيقى، والأدب فى الأقاليم، وإيلاء أهمية خاصة لتجديد وتنشيط قصور الثقافة، وتدريب العاملين بها على الإدارة الثقافية، بل والاهتمام بمد الأنشطة الثقافية إلى القرى. فى هذا الإطار، يمكن تقسيم البلاد إلى أقاليم ثقافية فى الدلتا، والوادى، مع الانتقال من الاستعراضات الثقافية فى القاهرة والإسكندرية إلى مختلف الأقاليم.

ثمة أهمية لإعادة تنشيط دور الأقاليم كمراكز ثقافية مع نظرائها فى العالم العربى، خاصة لبنان، وتونس والسودان والجزائر والمغرب، وذلك من خلال تشبيكات بين وزارات الثقافة، وبين بعضها بعضاً، بالإضافة إلى مجالات الفن والأدب والموسيقى والفنون التشكيلية. ثمة حاجة إلى تنظيم مستمر لإقامة المؤتمرات والأنشطة الثقافية، بين كبار المثقفين والسينمائيين والموسيقيين والفنانين التشكيليين على نحو ثنائى بين كل هذه الجماعات، وبشكل دورى خلال العام، لأن ذلك سيعيد الحيوية إلى العلاقات الثقافية الثنائية، وإلى مصادر وتنوع الثقافة المصرية، وهذا يتطلب وضع سياسة ثقافية جديدة على عديد من المحاور تبدأ بسياسة للنشر تتجاوز الطابع المحلى الضيق، من خلال سلاسل للنشر فى مختلف المجالات بين مصر وبين هذه البلدان الشقيقة، ومن ثم الاهتمام بالأجيال المبدعة العربية الشابة.

هناك حاجة لإعطاء مساحات للتحرك والنشاط المتبادل بين المنظمات الطوعية العاملة فى المجال الثقافى، مع نظيراتها فى البلدان العربية المشار إليها، لخلق حالة ثقافية مصرية متبادلة فى هذا المجال. هناك حالة نسبية من انفصال العقل المصرى عن تحولات العالم الجديد، ونحتاج إلى التواصل مع مصادر إنتاج المعرفة والفنون والفلسفة والسوسيولوجيا الجديدة، من خلال سياسة مختلفة للترجمة، والتركيز على الإنتاج الجديد فى مجال سوسيولوجيا الرقمنة، والإناسة الروبوتية، والتحول إلى ما بعد الإنسان، وأيضاً الإنتاج الجديد فى آسيا الناهضة حول الصين وكوريا الجنوبية واليابان والهند وسنغافورة.. إلخ، وأيضاً الترجمة الكثيفة للإنتاج العلمى والإبداعى فى قارتنا الأفريقية المنسية فى فكر الطبقات السياسية العربية شمال الصحراء، والسعى إلى التكامل بين سياسات الترجمة بين المراكز العربية المختلفة.

لابد من إعادة النظر فى ميزانية وزارة الثقافة والمخصص غالبها للأجور والمكافآت، وتوسيع الخلفيات العلمية والمهنية لكوادر الوزارة، وتوسيع مجالات اهتماماتها وعملها لتجاوز الآداب والفنون! كما هناك حاجة لإعادة النظر جذرياً فى سياسة جوائز الدولة، على نحو يضمن زيادة تأثيرها فى الجماعة الثقافية، وعلى المستويين الوطنى والعربى. ويمكن إنشاء هيئة مستقلة للجوائز من الكبار ذوى المعرفة والخبرة والمكانة، وتمويلها بسخاء، لتُعطى سنوياً لثلاث شخصيات بارزة أثرت فى الثقافة المصرية والعربية.

ثمة انفصال بيننا، وبين عالمنا العربى، والدنيا الجديدة التى تتشكل بعيداً عنا! الثقافة هى الحل من خلال الربط بينها، وبين التعليم وسياساته ومناهجه، والانتقال من ثقافة الأجوبة والعقل النقلى، إلى ثقافة السؤال والعقل النقدى.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 15 يوليو 2022.

 


رابط دائم: