الحوار الوطنى فى ضوء تجربة مصر الحديثة (1961ــ 2022)
2022-7-19

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مع دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى لإجراء حوار وطنى شامل حول أولويات المرحلة القادمة، التى تتسم بتحديات جسام نتيجة متغيرات محلية وإقليمية ودولية متشابكة، من الضرورى قراءة هذه الدعوة فى إطار العناصر التى شكلت هيكلها، وفى إطار الأهداف التى تتوافق عليها القوى الاجتماعية والسياسية لتكون بمثابة خريطة للمستقبل الذى تحلم به الأجيال القادمة.

ويرتب هذا النهج فى التعامل مع دعوة الرئيس السيسى، ألا يتم الحكم على الحوار بشكل مسبق وبناءً على مواقف أيديولوجية وسياسية تقوم على الادعاء بأن الدعوة ليست جديدة فى تاريخ مصر على الأقل منذ خمسينيات القرن الماضى، والادعاء الآخر الذى ينتج عن الأول، والذى يزعم أن الحوارات الوطنية السابقة لم تكن مجدية، ومن ثم فإن الحوار الحالى لن يكون نصيبه من النجاح أفضل من سابقيه!!.

مطلب التخلى عن هذا النهج وما يصاحبه من «ادعاءات»، ليس فقط شرطاً موضوعياً يجب إقراره لكونه مرتبطاً بفرضية رئيسية وهى تحقيق تطلعات تتوافق الأمة المصرية على ضرورة تحقيقها عبر حوار وطنى شامل، بل لأن أغلب الادعاءات السابقة لا تنهض على أساس من الحقائق التاريخية التى لا يمكن التشكيك فيها، وهو ما سنحاول إثباته من خلال الإشارة إلى ثلاث دعوات فقط للحوار الوطنى سبقت دعوة الرئيس السيسى الحالية، وتعرضت للتقييم غير المُنصِف لأسباب إطلاقها أو لنتائجها، سواء لحظة إطلاقها أو عند تناولها كواقعة تاريخية مضت.

الدعوة الأولى، أتت من جانب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى مايو عام 1962عندما وجه خطاباً إلى ما سمى فى حينها «المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية»، وهو مؤتمر حضره 1500 عضو تم انتخابهم ليمثلوا كل القوى الاجتماعية فى مصر، حيث عرض الرئيس عبدالناصر على المؤتمر تصور القيادة السياسية لـ «ميثاق للعمل الوطنى يكون دليل عمل لمرحلة جديدة من العمل السياسى، بتشكيل الاتحاد الاشتراكى العربى وإجراء انتخابات عامة لمجلس الأمة، ووضع الدستور الدائم سنة 1964».

الدعوة الثانية، وجهها الرئيس الراحل أنور السادات فى أبريل 1974، عبر عرض برنامج من عشر نقاط أطلق عليه اسم «ورقة أكتوبر» حدد فيها مستقبل مصر حتى سنة 2000 واستراتيجية العمل الوطنى فى مرحلة التحرير والتعمير. وأطلق بعض المعلقين على هذه الورقة اسم «استراتيجية للتنمية لمصر بشقيها المكان والسكان»، وضعها خيرة علماء مصر آنذاك.

أما الدعوة الثالثة، والتى أتت فى عصر الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك، فقد اختلفت عن الدعوتين السابقتين، حيث تميزت بالتكرار وبحصر أهدافها فى قضايا بعينها، مثل الدعوة للحوار حول الأهداف الاقتصادية للبلاد فى عام 1982، وفى عام 1986 دعا مبارك إلى حوار وطنى حول مشكلة الدعم، وفى عام 1988 تم عقد حوار آخر حول قضايا الإصلاح السياسى وقانون الطوارئ، وفى عام 2005 تمت الدعوة لحوار جديد بمناسبة الانتخابات الرئاسية فى ذلك الوقت، ومعايير انتخاب رئيس الجمهورية فى انتخابات مباشرة وليس بنظام الاستفتاء.

بالنظر إلى دعوات الحوار السابقة، يمكن الكشف عن جملة من الملاحظات التى تُبطِل الحجج التى ثارت فى مواجهة الدعوة الحالية للحوار الوطنى:

أولاً، إن البيئة السياسية والاجتماعية الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية فى كل مرحلة تاريخية ظهرت فيها دعوة لحوار وطنى كانت مختلفة -بطبيعة الحال- عما سبقها أو تبعها، من دعوات مماثلة، وبالتالى لا يمكن تقييم كل دعوة من هذه الدعوات، سواء تعلق الأمر بأسباب إطلاقها أو نتائجها، بمعايير واحدة وثابتة، وإلا تحول التقييم إلى إعلان موقف سياسى أو أيديولوجى وليس فحصاً موضوعياً لاستخلاص النتائج والبناء عليها.

ثانياً، تشير النماذج الثلاثة للحوار إلى أن أسباب إطلاقها ترجع فى معظمها إلى رغبة حقيقية فى إشراك القوى الاجتماعية والسياسية فى التخطيط لمستقبل البلاد. على سبيل المثال، أطلق الرئيس السادات دعوته للحوار حول ورقة أكتوبر بعد ستة أشهر من حرب أكتوبر المجيدة التى حققت فيها مصر انتصاراً عسكرياً مبهراً على إسرائيل، وكانت شرعية وشعبية الرئيس السادات فى أوجها. ولكن الرئيس السادات أراد من «ورقة أكتوبر» أن تكون ركيزة للحوار حول تحولات جوهرية وضرورية لنقل السياستين الاقتصادية والخارجية إلى مسار جديد يلبى تطلعات الأمة المصرية فى السلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وبعيداً عن التقييمات ذات الطابع الأيديولوجى لسياسات الرئيس السادات، فقد برهنت الوقائع التاريخية لاحقاً على أن التحول نحو اقتصاد السوق بشكل متدرج، وعقد السلام مع إسرائيل قد جنب مصر انهيارات وجموداً شهدتهما العديد من الدول المجاورة التى لم تستجب لمتطلبات الواقع وتصورات المستقبل وضروراته.

ثالثاً، على عكس ادعاءات البعض بأن نتائج هذه الحوارات كانت سلبية فى مجملها، فإن دعوة الرئيس عبدالناصر للحوار الوطنى عام 1962، مكنت مصر من التركيز على إنجاح خطتها الخمسية الأولى (1960-1965) -والتى يعتبرها الكثير من المؤرخين واحدة من أفضل فترات التطور الاقتصادى والاجتماعى فى مصر- بدلاً من الوقوف طويلاً أمام الإخفاق السياسى الناتج عن فشل مشروع الوحدة المصرية- السورية، بل يمكن القول إن نجاح هذه الخطة كان مرهوناً بتوافق الأمة المصرية عبر الحوار الوطنى حول ضرورة التركيز على الشأن المصرى اجتماعياً واقتصادياً.

رابعاً، فى كل نموذج من نماذج الحوار الوطنى كانت الأصوات المعارضة هى السبب الرئيسى فى عدم دفع الحوار إلى الآفاق المرجوة منه، بسبب عدم تمييزها بين معنى ومضمون الحوار الوطنى كتجمع لممثلى كل مكونات الأمة، سواء مؤيدى النظام أو معارضيه، وبين فكرة المصالحة الوطنية والتى تعنى الحوار حول الخصومة بين النظام ومعارضيه.

فى إطار هذه الملاحظات الأربع، يمكن القول إن دعوة الرئيس السيسى لحوار وطنى شامل هى امتداد أصيل لفكر الدولة المصرية على اختلاف عهود من تولوا قيادتها، حيث الرغبة فى توجيه الأمة نحو المستقبل فى ظل معطيات متغيرة تفرض على هذه الأمة المشاركة فى تجاوز الأزمات وتحقيق التطلعات المستقبلية. ولا يبقى سوى توجيه الدعوة لمن ينطلقون من افتراضات وأحكام مسبقة حول دوافع الحوار أو جدواه إلى إعادة قراءة تاريخ الدعوات السابقة المماثلة، وحينها سيدركون أن الأحكام المتسرعة ضد الحوارات الوطنية كان لها العديد من التأثيرات السلبية ليس على النظم الحاكمة، بل على آمال وتطلعات الأمة المصرية، وعلى مستقبل العمل السياسى والحزبى فى مصر إجمالاً.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 15 يوليو 2022.

 


رابط دائم: