فتح الإعلان عن الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى عدد من دول الشرق الأوسط، المجال أمام تساؤلات عدة حول أهداف الزيارة، والنتائج المتوقعة منها، وتأثير ذلك على حركة التفاعلات السياسية، وأيضاً على أفق التحالفات المنتظر إقامتها في المنطقة مستقبلاً.
في القراءة التقليدية لنمط الزيارات التي يقوم بها قادة الدول الكبرى لمناطق تمتلك فيها هذه الدول مصالح كبيرة اقتصادية وأمنية، يكون الانطباع السائد أن حضور الرئيس يعني أن هناك توافقات تم إنجازها بين فريقه الذي أعد الزيارة، وبين مساعدي رؤساء دول المنطقة التي سيزورها، وأن اجتماع القادة يأتي فقط من أجل التوقيع على هذه التفاهمات أو الاتفاقيات كتدشين عملي لها.
غير أن الوضع بالنسبة لزيارة الرئيس بايدن لإسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولقائه في المملكة العربية السعودية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي وكل من مصر والأردن والعراق، قد لا ينطبق على النمط المشار إليه لمثل هذه الزيارات. أو بمعنى أكثر وضوحاً سيكون من السابق لأوانه الحديث عن نتائج سريعة لمثل هذه الزيارة، نظراً للعديد من التناقضات التي تحيط بمواقف الولايات المتحدة والدول التي سيزورها بايدن أو سيلتقي بقادتها، من العديد من الملفات الدقيقة التي تشغل اهتمام كل هذه الأطراف، والتي تجعل من الصعب الجزم بتحقيق توافق حقيقي بينها، يمكن أن يقود لتبني استراتيجيات موحدة في القريب العاجل.
الولايات المتحدة وترتيب الأولويات
تواجه إدارة الرئيس بايدن العديد من التحديات التي كان بعضها ميراثاً ثقيلاً من الإدارات السابقة، وبعضها الآخر نتيجة لتطورات مفاجئة وقعت في عهده. ووفقاً للترتيب الزمني لظهور هذه التحديات والتطورات، يمكن القول إن إدارة بايدن تحاول ترتيب أولوياتها في القضايا التالية:
1- حسم الجدل الدائر، منذ عقدين من الزمان على الأقل، حول مدى أهمية منطقة الشرق الأوسط للمصالح الأمريكية- بين ثلاث اتجاهات ميزت توجهات النخبة السياسية الأمريكية: الانسحاب من المنطقة، تقليل الاهتمام والتواجد العسكري بها، أو الإبقاء على السياسات المتبعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي نظرت إلى الشرق الأوسط كركيزة أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية.
2- كيفية مواجهة الصعود الصيني الذي بات يهدد انفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي.
3- صياغة سياسة ردع قوية تجاه روسيا خاصة بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014 وصولاً إلى شنها حرباً شاملة ضد أوكرانيا وتهديدها للدول الأوروبية الأعضاء في الناتو، وحشد العديد من دول العالم خلفها تحت مسمى بناء نظام عالمي جديد لا تنفرد الولايات المتحدة بقيادته.
4- إعادة بناء القوة الأمريكية في الداخل بعد تعرض الولايات المتحدة لأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية متوالية منذ مطلع الألفية الثانية إلى الحد الذي بات يهدد تماسكها الداخلي، كما يهدد مكانتها كقوة عظمى.
ويمكن القول إن القضايا الأربع السابقة باتت مرتبطة ببعضها البعض، بحيث لا يمكن معالجة كل منها على حدة، أو ترتيبها تنازلياً أو تصاعدياً من حيث أولوية المعالجة.
من هنا تظهر الأهمية النظرية لزيارة بايدن لإسرائيل ولقائه بالقادة العرب في المملكة العربية السعودية، حيث إنه على الرغم من أن عناصر إنجاح هذه الزيارة، ومحاولة تحقيق الأهداف المرجوة منها، غير متوافرة في الوقت الراهن، إلا أنه من السهل إثبات أن إعادة اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، وفي القلب منه المنطقة العربية، يمكن أن يكون مدخلاً لبناء استراتيجية متكاملة لمعالجة المعضلات الثلاث الأخرى المذكورة سابقاً والتي تواجهها الولايات المتحدة حالياً.
الشرق الأوسط الكبير بشروط جديدة
تناولت معظم التقارير الأمريكية والعربية الزيارة المرتقبة لبايدن إلى إسرائيل ولقاءه بعدد من القادة العرب في السعودية، على أنها محاولة لتدشين تحالف إقليمي يضم إسرائيل ودولاً عربية، ويكون قابلاً للتوسع مستقبلاً بضم دول أخرى مثل تركيا وباكستان. ويستهدف مثل هذا التكتل مواجهة السياسات التوسعية لروسيا وإيران وطموحات الصين، والتي تسعى جميعها لتقويض مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى تنفرد بإدارة النظام الدولي وحدها.
وبافتراض صحة هذه الرؤية إجرائياً، فإن إدارة بايدن تبدو كما لو كانت تعيد إنتاج فكرة الشرق الأوسط الجديد التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش عام 2004. وقد انطلقت إدارة بوش في حينها من ثلاثة افتراضات رئيسية هى:
1- تحتاج الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى تنفرد بقيادة النظام الدولي إلى مواجهة الصعود الصيني، واحتمال عودة التوجهات الإمبراطورية لروسيا مستقبلاً.
2- مواجهة الإرهاب العالمي الذي تنخرط إيران وعديد من الجماعات السنية المتطرفة فيه، والذي يهدد المصالح الأمريكية في العديد من مناطق العالم وعلى الأخص في منطقة الشرق الأوسط.
3- سيتحول الشرق الأوسط تحت ضغوط نشر الديمقراطية إلى منطقة فوضى عارمة لبعض الوقت (قبل أن يتحقق التحول الديمقراطي في النهاية على المدى البعيد)، وهذه الفوضى ستحول دون تمدد الصين وروسيا وإيران في المنطقة بسبب التكلفة الهائلة التي سيتعين على الدول الثلاث دفعها لتأمين وجود مستقر لها على حساب النفوذ الأمريكي، وبالتالي ستتمكن الولايات المتحدة من التفرغ لمواجهة الصين وطموحاتها، وردع العدوانية الروسية والإيرانية من دون خشية فقدان الشرق الأوسط لصالح منافسيها وأعدائها.
وقد استمر الرئيس الأسبق باراك أوباما (2008-2016) في السير في النهج نفسه بخطاب مغاير ولكن بنفس محتوى التوجه الاستراتيجي لسياسة سلفه جورج بوش. ثم جاءت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لتعيد ترتيب الاستراتيجية نفسها حيال الشرق الأوسط بركائز مختلفة تقوم على التخلي عن نشر الديمقراطية عبر الفوضى الخلاقة التي ابتكرتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس في عهد بوش الابن، وحشد الشرق الأوسط، وفي القلب منه المنطقة العربية، لتكون جزءاً من مواجهة محور الشر الجديد (إيران، الصين) مع تحييد روسيا.
ولتحقيق هذه المهمة، أوقف ترامب استخدام قضايا حقوق الإنسان في الضغط على الدول العربية، بعد أن برهنت هذه السياسة في عهد أوباما على أنها كانت لخدمة التماسك الداخلي في الحزب الديمقراطي، كونها تمثل أيديولوجية الجناح اليساري في الحزب، وليس من أجل خدمة قضية حقوق الإنسان في حد ذاتها، فضلاً عن أن المبالغة في استخدام هذه الأداة في عهد أوباما أضرت بالمصالح الأمريكية ولم تسفر عن دعم التوجهات الديمقراطية بالمنطقة بقدر ما سمحت بنشر الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان على يد قوى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) وروافدها من التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم "القاعدة" وتنظيم "داعش".
أيضاً، وفي سبيل الهدف نفسه الخاص بحشد الشرق الأوسط خلف الولايات المتحدة ضد إيران والصين، عمد ترامب إلى معالجة القضية الفلسطينية بإطلاق مشروعه المعروف باسم "صفقة القرن"، كما رعى الاتفاقيات الإبراهيمية التي استهدفت تحقيق السلام بين إسرائيل ومزيد من الدول العربية، على أمل أن تكون هذه الاتفاقيات ركيزة لتشكيل تحالف إقليمي عربي وإسلامي ضد التمدد الإيراني في المنطقة.
بعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض بعد انتخاب بايدن، تعود إدارته للتفكير في أفضل الخيارات لمواجهة الصعود الصيني والعدوانية الروسية والتمدد الإيراني، ولن يكون أمام بايدن، الذي شهدت ولايته وصول التحدي الصيني للريادة الأمريكية إلى آفاق أكثر خطورة، وتفاقم العدوانية الروسية بغزو أوكرانيا وتهديد دول حلف الناتو، واستمرار إيران في سعيها لحيازة السلاح النووي رغم المفاوضات الجارية بينها وبين الولايات المتحدة منذ العام الماضي للعودة للاتفاق النووي، لن يكون أمام بايدن في ظل هذه المعطيات، سوى تقوية الاستراتيجية الهادفة لحشد الشرق الأوسط، وفي القلب منه الدول العربية وإسرائيل، من أجل تحقيق الأهداف التالية:
1- معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها الولايات المتحدة بسبب تداعيات جائحة كورونا، وبسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار الطاقة ومعدلات التضخم التي ترتبت عليه والتي تنذر بوقوع الاقتصاد الأمريكي والعالمي في الركود لسنوات طويلة. وعليه، فإن دور الدول العربية الغنية بالنفط في معالجة هذا الوضع يغدو محورياً، حيث يمكنها أن تزيد من إنتاجها لدفع أسعار النفط نحو الانخفاض، والتأثير على فرص روسيا في زيادة دخلها من صادرات الغاز والنفط.
2- إن نجاح بايدن في كسب ثقة الدول العربية المحورية في المنطقة، يمكنه أن يعزز من قوة السياسة الهادفة لحصار روسيا وعرقلة الطموحات الصينية وردع السياسة الإيرانية المثيرة للاضطرابات في المنطقة والعالم. إذ يمكن أن تتراجع الدول العربية عن السياسات التي اتبعتها مؤخراً والتي تشكل تحدياً للأهداف الأمريكية، مثل زيادة التعاون العسكري والأمني مع روسيا، والاهتمام بمشروع الحزام والطريق الذي تعول عليه الصين كثيراً لضرب النفوذ الأمريكي في العديد من مناطق العالم وعلى الأخص منطقة الشرق الأوسط.
ولكن تحقيق هذين الهدفين سيقتضي من إدارة بايدن التعهد أمام دول المنطقة بالمشاركة في ردع إيران عبر استخدام نفوذها (أي الولايات المتحدة) وقوتها الاقتصادية، بدلاً من سياسة أوباما التي قامت على تقديم التنازلات لطهران دون التفات لمخاوف الدول العربية وإسرائيل من الطموحات الإيرانية، وبدلاً من سياسة ترامب التي تأسست على ترك الدول العربية لتدفع تكلفة مواجهة إيران وحدها، أو ابتزازها مالياً وسياسياً باسم دفع تكلفة حماية هذه الدول بشكل مبالغ فيه.
وأخيراً، فإن إدارة بايدن سيتعين عليها الضغط على إسرائيل للتوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية وفقاً لمبدأ حل الدولتين وبشكل يلبي الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة بحدود يمكن أن تحافظ على تواصلها الجغرافي وعلى استقلاليتها، إذ إن معالجة القضية الفلسطينية على هذا النحو سيجرد القوى المتطرفة (الإسلام السياسي، واليسار المتشدد) من معظم قوتها، ويحرمها من القدرة على التحريض ضد الأنظمة الحاكمة استغلالاً لهذه القضية ببعديها القومي والديني.
ويبقي السؤال: هل سيتمكن بايدن من إطلاق استراتيجية الشرق الأوسط الكبير بالشروط الجديدة التي تراعي المصالح المشتركة للولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط في ظل الضغوطات الهائلة التي يتعرض لها من داخل حزبه ومن داخل إدارته والتي تريد الاستمرار في السياسة التي اتبعها الرئيس الأسبق باراك أوباما، رغم ثبات فشلها؟، وهل ستكون زيارته للمنطقة بمثابة تدشين لتحالف إقليمي تقوده الولايات المتحدة لمواجهة التحديات السابق ذكرها، والأهم من ذلك هل سيقبل بايدن بالرؤية السائدة لدى الدول العربية الكبرى ببناء هذا التحالف بشكل تدريجي يبدأ بإجراءات تنسيقية بين الدول التي ستنضم إليه، خاصة في المجالين الأمني والعسكري، ويركز بشكل أكبر على التعاون الاقتصادي الذي يمكن من خلال زيادته ودعمه بصورة مستمرة أن يكون قاعدة قوية لبناء تحالف حقيقي مستقبلاً، يمكنه ردع طموحات خصوم الطرفين، سواء روسيا أو الصين أو إيران؟