سبق بدء الجولة الأولى للرئيس الأمريكي جو بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، والتي من المقرر أن تستمر خلال الفترة (13-16) يوليو الجاري (2022)، يزور خلالها إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية التي ستشهد أيضاً عقد قمة أمريكية- خليجية- مصرية- عراقية- أردنية، طرح العديد من التقديرات حول القضايا الرئيسية على أجندة هذه الجولة. من بين هذه الأفكار بناء "ترتيب أمني" جديد في المنطقة، يضم إسرائيل بجانب دول عربية أخرى، يكون هدفه الرئيسي مواجهة التهديد الإيراني. تبدو الفكرة مطروحة في ضوء افتقاد الإقليم إلى ترتيب أمني إقليمي حتى الآن مقابل أولوية الترتيبات الدفاعية الثنائية، لكن مع ذلك فإن هذه الفكرة لازالت تواجه تحديات كبيرة، ربما تدركها الولايات المتحدة أكثر من غيرها. لكن هذا لا ينفي أن العلاقة مع الولايات المتحدة، على المستويين الثنائي والإٍقليمي، باتت تتطلب تأسيساً جديداً.
مركزية القضية الفلسطينية
تظل القضية الفلسطينية هى القضية العربية المركزية بالرغم من المتغيرات الإقليمية والدولية التى أدت إلى تراجع أولوية هذه القضية فى اهتمامات مختلف الأطراف، خاصة فى ضوء عاملين رئيسيين: أولهما، تصاعد المشكلات المثارة فى كل من سوريا وليبيا واليمن والسودان ولبنان والعراق. وثانيهما، اتفاقات التطبيع الإسرائيلية التى تم التوصل إليها خلال العامين الأخيرين مع كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان والتى لم تكن القضية الفلسطينية حاضرة فى أى منها.
ولعل أهم التطورات التى يجب الوقوف عندها أن هناك محاولات متواصلة من جانب الولايات المتحدة، سواء الإدارة الجمهورية السابقة أو الإدارة الديمقراطية الحالية، لإعادة ترتيب الأوضاع فى المنطقة بما يتواءم مع مصالحها، وبحيث يتم إدماج إسرائيل فى المنظومة الإقليمية الاقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية، ودون أن يكون للقضية الفلسطينية أيضاً أى حضور فى هذه الترتيبات.
وفى خضم هذه التطورات، كان الدور المصرى سباقاً ومتمشياً مع تاريخ هذا الدور المشرف من حيث التأكيد على أولوية هذه القضية فى السياسة الخارجية المصرية، وأن تكون القضية دائماً فى دائرة الضوء، وأن يتم حلها من خلال المفاوضات دون أى تنازل عن الثوابت الفلسطينية المعروفة. وفى الوقت نفسه، فإن مصر هى الدولة الوحيدة التى تتحرك بقوة فى الملفات المهمة المرتبطة بتأمين الوضع فى قطاع غزة سواء بالنسبة لإعادة الإعمار التى قطعت فيها مصر شوطاً كبيراً، أو تثبيت التهدئة وعدم التصعيد العسكرى بين حماس وإسرائيل، بالإضافة إلى التحرك المحسوب فى قضيتى المصالحة وتبادل الأسرى.
أما الجانب المؤسف والخطير فى الوقت نفسه، فإنه يرتبط بموقف إسرائيل تجاه القضية الفلسطينية؛ حيث لازالت تتعامل مع هذه القضية من منطلق الحفاظ على الوضع الراهن والقضاء على أية محاولات للاقتراب من فكرة حل الدولتين، بالتوازى مع تنفيذ سياسة ممنهجة فى مجال الاستيطان والتهويد والتهجير والاعتقال، الأمر الذى قد تعتقد معه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنها سياسة ناجحة وقابلة للاستمرار دون مشاكل. لكن الواقع يشير إلى أن الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية مرشحة للانفجار فى أى وقت، وهو الأمر الذى يبدو أنه لم يدخل فى الحسابات الإسرائيلية بالشكل المطلوب.
وإذا كان الرئيس الأمريكى جو بايدن سوف يلتقى مع الرئيس محمود عباس "أبو مازن" خلال زيارته للضفة الغربية يوم 14 يوليو الجارى، وسيؤكد على مبدأ حل الدولتين، إلا أن هذا الموقف الأمريكى سوف يظل يدور فى دائرة مفرغة ما لم تمتلك واشنطن إرادة سياسية وآليات حقيقية لوضع مبدأ حل الدولتين موضع التنفيذ. وفي الحقيقة، فإن الواقع يشير إلى أن زيارة بايدن للمنطقة سوف تصب بطبيعة الحال فى صالح الولايات المتحدة، وكذا فى صالح إسرائيل، ولاسيما بالنسبة لمزيد من عملية دمجها فى المنظومة العربية ودون أن تقدم أية تنازلات لصالح القضية الفلسطينية. كما سيسعى بايدن إلى تكتيل دول المنطقة من أجل المساهمة بدور أكبر لمواجهة المخاطر الإيرانية.
ولاشك أن الحسابات المصرية إزاء كافة هذه التطورات تنبع من رؤية منطقية وقراءة دقيقة لمتطلبات الواقع، وفى هذا المجال من الضرورى الإشارة إلى أن مصر سوف تظل متمسكة برؤيتها الشاملة للمخاطر الحقيقية التى تواجه المنطقة، وأهمية التحالفات الاستراتيجية العربية/العربية للتصدى لهذه المخاطر أياً كان مصدرها، بالإضافة إلى تأكيد القيادة السياسية على قناعتها بأن أساس الاستقرار فى المنطقة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحل العادل للقضية الفلسطينية. وفى النهاية، فإن أية ترتيبات إقليمية فى المنطقة مهما كانت طبيعتها سوف تظل ترتيبات مؤقتة أو قاصرة مادامت القضية الفلسطينية لم تجد طريقها إلى الحل.
تصورات إسرائيلية غير واقعية
قبل أيام قليلة من بدء جولة بايدن في المنطقة، والتي ستبدأ بزيارته لإسرائيل، قام البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بحل نفسه، بعد انهيار الائتلاف الحاكم الذي كان يقوده نفتالي بينت، والذي تشكل في يونيو من العام الماضي. وبموجب هذا الاتفاق الائتلافي، يتولى رئيس حزب "يش عتيد" (هناك مستقبل) بزعامة يائير لابيد، والذي كان الشريك الأكبر لبينت، رئاسة الحكومة الانتقالية أو حكومة تصريف الأعمال، لحين إجراء الانتخابات العامة في نوفمبر القادم.
وكما هو معروف، فإن حكومة تصريف الأعمال في أي نظام سياسي عادةً ما تكون حكومة ضعيفة بحكم صيغة تكليفها، التي تمنعها عملياً من اتخاذ أية قرارات حاسمة، خاصةً في القضايا الحساسة التي تحتاج لدعم من قاعدة واسعة من نواب مُنتخبين في البرلمان. وبالتالي، سيلتقي الرئيس بايدن برئيس حكومة إسرائيلية لا يمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية، في وقت يتوقع الكثير من المراقبين السياسيين في تل أبيب أن تدور المحادثات حول مستقبل ملف التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل، والموقف من المحادثات الجارية بين واشنطن وطهران للعودة للاتفاق النووي، وكذلك البحث في أنسب الصيغ لإطلاق تعاون أمني بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.
ويبدو من تركيز التصريحات والتعليقات الإسرائيلية على زيارة بايدن للمنطقة، أنها تبتعد عن البناء على الوقائع الحقيقية؛ فمعظم التعليقات الإسرائيلية تحصر هدف الزيارة في إقامة "تحالف أمني" لمواجهة إيران، دون الأخذ في الاعتبار الأولويات الأمريكية، التي تشير إلى أن زيارة بايدن ستُركز أكثر على كيفية إقناع الدول العربية، خاصةً دول الخليج الغنية بالنفط، والدول التي تمتلك قدرات في مجال إنتاج وتسييل للغاز -مثل مصر وإسرائيل- للمساهمة في معالجة أزمة الطاقة التي يعاني منها الأمريكيون والأوروبيون جراء تداعيات الحرب الأوكرانية– الروسية. ويبدو ذلك أمراً منطقياً في ظل حقيقة أن الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة نفسها قد تأثرت بهذه الأزمة التي باتت تهدد الاقتصاد الأمريكي بالدخول إلى حقبة من الركود من الصعب التنبؤ بموعد انتهائها. ومما لا شك فيه أن هذا الملف يحظى بأولوية كبيرة لدى بايدن الذي يعاني من تدهور شعبيته داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي عمق من مخاوف الحزب الديمقراطي إزاء فقدان الأغلبية داخل الكونجرس في انتخابات التجديد النصفي المُقررة في نوفمبر القادم.
أيضاً، من الصعب التسليم برؤية إسرائيل بأن زيارة بايدن للمنطقة مُكرسة بالأساس لمعالجة الخطر الإيراني. كما من الصعب القبول بمنطقية الرؤية الإسرائيلية بشأن إقامة تحالف إقليمي استناداً إلى القلق الذي تشعر به العديد من الدول العربية جراء السياسة الإيرانية الهادفة لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية؛ ذلك أن أغلب الدول العربية التي نُقل عنها استعدادها لوجود مستوى من التنسيق بينها وبين إسرائيل من أجل مواجهة التهديدات المشتركة، أكدت أيضاً، في الوقت نفسه، أنها لا تسعى لإقامة تحالف مُوجه ضد دولة معينة، بل يجب أن يكون هناك تنسيق أمني، وتعاون عسكري واستخباراتي في مواجهة الإرهاب، وفي مواجهة انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيرة.
وعلى الجانب الآخر، تتجاهل التناولات الإسرائيلية للزيارة أن بايدن سيلتقي برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومن دون شك سيتناول اللقاء إمكانية استئناف مسيرة السلام المعطلة منذ سنوات، بين الفلسطينيين وإسرائيل. وعلى الرغم من أن حكومة انتقالية مثل حكومة لبيد لا يمكنها اتخاذ قرار بهذا الشأن، فإن بايدن سيعيد التأكيد على التزام واشنطن بحل الدولتين المرفوض من جانب معظم أحزاب اليمين التي تهيمن على المشهد السياسي والحزبي داخل إسرائيل حالياً. كما أن لبيد الذي يصرح دوماً بدعمه لإقامة سلام مع الفلسطينيين، لا يتحدث صراحة عن حل الدولتين، ولا يمتلك هو وحزبه "يش عتيد" تصوراً واضحاً لحل الصراع مع الفلسطينيين. غير أن ما تخشاه إسرائيل بالفعل أن يطرح القادة العرب عند لقائهم ببايدن في المملكة العربية السعودية، ضرورة تقديم مبادرة بشأن القضية الفلسطينية لتسهيل تمرير أي صيغة للتعاون مع الولايات المتحدة تتضمن إدماج إسرائيل في المنطقة وتطبيع العلاقات بينها وبين العالم العربي.
تعقيدات عدة تواجه "الترتيب الأمني"
الانطباع السائد حول الشرق الأوسط هو أنه إقليم "غير مستقر"، وهو انطباع غير قابل للتغير فى ظل المؤشرات الحالية للإقليم، وهو ما يُفْقِد المصطلحات التي تُوصِّف حالة الأمن الإقليمي منذ الحرب الباردة وحتى الآن -بمعدل كل عقد تقريباً- بريقها الاستراتيجي؛ فقد تراوحت التوصيفات المرحلية ما بين "ترتيبات الأمن الإقليمي"، وإقليم "قيد التشكل"، أو "إعادة التشكل".. إلخ، ولا يعتقد بحكم عوامل كثيرة، أنه خاضع لإجراء عملية ترتيب أو تشكيل محكمة تغير هذا الانطباع. كما أن الإقليم لم يراكم، بل ربما لم يعرف، خبرة الأمن الجماعي أو شبه الجماعي، بالإضافة إلى هشاشة خبرة التحالفات الأمنية العسكرية متعددة الأطراف فيما بين الدول العربية. ومن المنطقي القول إنه من الصعوبة بمكان تصور قيام تحالفات أو أحلاف إقليمية مستقرة ومستدامة.
وفقاً لهذه الخلفية، فإن تنامي الحديث عن إدراج عملية "ترتيبات أمن إقليمي" على أجندة زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدين إلى المنطقة هو أمر ينطوي على مبالغة كبيرة إلى حد ما، بما لا ينفي أن هناك طرحاً ما نحو تنسيق أمني بالمعنى التكتيكي بين بعض الدول التي تتقاسم نمطاً معيناً من التهديدات الأمنية، والتي تتناسب مع عملية "إعادة التموضع الأمريكي" فى الشرق الأوسط، فى مرحلة ما بعد انتهاء حقبة التواجد الأمريكي بشكله الذي كان عليه على مدار عقدين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وغزو أفغانستان والعراق، وذلك بالانسحاب الفوضوي من الأولى، وانتهاء العمليات القتالية في الثانية. مع الوضع فى الاعتبار أن طبيعة الدور الأمريكي فى تلك الدول، شكل أحد مسببات ومحركات الفوضى فى الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن أي صيغة جديدة قد تحتمل إعادة إنتاج الفوضى فى الشرق الأوسط، أكثر مما يمكن أن تلعب دوراً فى عملية "إعادة الضبط" كمدخل لاستعادة الاستقرار فى الإقليم.
فى كل الأحوال، ارتبطت صيغ الترتيبات الأمنية بأجندة المصالح الأمريكية في المنطقة؛ فقد بدأت بمساعي بسط النفوذ الأمريكي بعد انتهاء الحرب الباردة. وعلى الأرجح، فقد بدأت دورة جديدة لإعادة التأكيد على هذه الصيغة خشية تداعيات الفراغ الذي يمكن أن تتركه الولايات المتحدة، ويمكن أن تملئه الصين وروسيا، المنافسان والخصمان الاستراتيجيان للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه. وبالتالي، سعت واشنطن إلى الحد من التمدد المتسارع لهاتين القوتين خلال السنوات الأخيرة، والتي كانت ترى خلالها أن القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط تراجعت بشكل كبير، وهي نقطة تتشابك مع الفهم العام لسياق "الترتيبات" الجاري الحديث عنها، والتي تختزل الأمر في مساعي إدماج إسرائيل أمنياً فى الشرق الأوسط، فى حين أن واشنطن تنظر إلى المنطقة بالمنظور الأوسع فى ظل تنامي مصالح بكين وموسكو فيها.
بشكل أكثر تحديداً، يمكن القول إن أول تحدي يواجه فكرة الترتيبات الأمنية يتمثل في الفجوة الاستراتيجية ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الهدف الرئيسي من أي "ترتيبات"، وهو المواجهة مع إيران؛ فبالإضافة إلى تباين وجهات النظر حول كيفية التعامل مع هذا الملف، وهو ما اتضح منذ اتفاق (5+1) عام 2015، وصولاً إلى مرحلة محاولة إعادة إحياء الاتفاق مجدداً الجارية منذ أكثر من عام، فإن هناك فجوة أكبر فى الاستراتيجية الأمنية. عملياً هناك معركة بين إسرائيل وإيران، ذات طابع محدد، ولا يعتقد أن الطرفين يسعيان إلى تطوير هذا النمط إلى المواجهة التقليدية التي تعني تحول المعركة الحالية إلى حرب. وبالتالي، فإن عملية بناء منظومة إنذار مبكر إقليمي للتعامل مع التهديدات الإيرانية (الصواريخ، والطائرات من دون طيار) تكون فى نطاق ضيق للغاية إن أمكن ذلك، لأسباب استراتيجية تتعلق بمنظور الأعضاء المحتملين للانضمام إلى هذه المنظومة، حيث لا تتصدر إيران قائمة التهديدات لكافة الأطراف. كما تتعلق بطبيعة "العقيدة العسكرية" للقوى الرئيسية، فضلاً عن طبيعة الأصول العسكرية. فمن المتصور أن عملية دمج منظومات (أمريكية بالأساس) من جانب بعض دول المنطقة، ستظل تحت إشراف أمريكي، وفى إطار دور القيادة الوسطى، وجزء أساسي من البنية العسكرية الأمريكية، فربما ستكون الأصول الدفاعية حلقة وصل بين القيادة الوسطى فى الشرق الأوسط، والقيادة الأوروبية، وأفريكوم، وأيضاً جزء من تشبيك بنية تحالف الإندو- باسيفيك "أوكوس" فى المستقبل.
من الأهمية بمكان، الإشارة فى هذا السياق أيضاً إلى أن هناك حالة تراجع ثقة فى الولايات المتحدة، وحرب اليمن على سبيل المثال كانت نموذجاً لهذا السياق، فى إطار الشراكة الاستراتيجية الأمريكية، حيث كان هناك تخاذل واضح من الجانب الأمريكي فى إسناد شركائه فى الخليج، وتقديم الدعم الدفاعي عندما تعرضت أرامكو لهجمات متكررة. ومن زاوية أخرى، ما هي ضمانات الثقة الممكنة فى الجانب الأمريكي إزاء هذا المشروع مع التقلب المزاجي للإدارات المتعاقبة فى البيت الأبيض، فضلاً عن أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال ضبط الموقف الإسرائيلي من الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
فى الأخير، قد يكون "الحوار الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة مهماً أكثر من أهمية أي مشروع أمني، أو ترتيبات أمنية مرحلية، خاصة وأن هناك مساراً إقليمياً لاحتواء إيران. ومن مصلحة واشنطن تعزيز هذا "الحوار الاستراتيجي" بين القوى الإقليمية. ويمكن البناء على مسار التهدئة فى اليمن بما يضمن أمن ومصالح الشركاء العرب. كذلك من مصلحة الأطراف الإقليمية تعزيز هذا المسار، خاصة أن هناك سابقة في حوار بغداد الإقليمي في العام الماضي، بدلاً من دفع إيران إلى رد فعل عكسي وانفعالي جراء ترتيبات تستهدفها. وفى المقابل يتعين على إيران أن تبادر هي الأخرى إلى تغير النظرة الإقليمية إليها من الجانب العربي في المقام الأول.
إيران تبادر لكن بشكل تكتيكي !!
لقد بادرت إيران بتوجيه رسائل عديدة إلى بعض دول المنطقة بالفعل، لا سيما الدول المرشحة -وفقاً للتقارير والتصورات الأمريكية والإسرائيلية- للانخراط في مثل هذه الترتيبات. لكن هذه الرسائل لا تعبر عن سياسة مستقرة لديها. ففي النهاية، فإن معظم التحركات التي تقوم بها إيران في المرحلة الحالية، تدخل ضمن إطار تكتيكي تحاول من خلاله تقليص أهمية الترتيبات الأمنية التي يجري الحديث عنها أمريكياً وإسرائيلياً، والتماهي مع التطورات الأخرى التي تجري على الساحة، خاصة المفاوضات المتعثرة حول الاتفاق النووي، بسبب الخلافات الرئيسية العالقة مع الولايات المتحدة، سواء حول الضمانات التي تطلبها إيران بعدم تكرار تجربة الانسحاب من الاتفاق مجدداً، أو رفع العقوبات المفروضة عليها بما فيها تلك التي تخص الحرس الثوري، ولا سيما شطبه من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية.
ربما تدرك إيران، كغيرها من الدول، أن هناك إشكاليات لا تبدو هينة أمام بلورة تلك الترتيبات، وتحويلها إلى خطوات إجرائية على الأرض. ولكنها في الوقت نفسه تحاول الاستعداد لكل الاحتمالات. وفي هذا السياق، فإنها تتحرك على أكثر من مسار:
الأول، محاولة "تحييد" بعض الدول المرشحة للانخراط في هذه الترتيبات المحتملة. وفي هذا السياق، وجهت إيران إشارات إيجابية عديدة إزاء استعادة العلاقات مع السعودية. وحرصت على دعم دور الوسيط الذي تقوم به قطر، التي استضافت الجولة الأخيرة للمحادثات النووية التي جرت بشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة يومى 28 و29 يونيو الماضي.
ويتوازى ذلك بالطبع، مع إدراكها، وربما اطمئنانها، لصعوبة انخراط دول بعينها في مثل هذه الترتيبات، على غرار العراق. ففضلاً عن أن هناك نفوذاً واضحاً لا يمكن تجاهله لإيران داخل الأخيرة، فإن العراق اتخذت بدورها قراراً بمنع اتخاذ خطوات خاصة بالتطبيع مع إسرائيل، وهي تطورات تسير دون شك في اتجاه معاكس لمثل تلك الترتيبات.
الثاني، توسيع نطاق العلاقات مع القوى المنافسة، لا سيما روسيا. وقد كان لافتاً أن الرئيس إبراهيم رئيسي حرص خلال مشاركته في اجتماع قمة بحر قزوين في عشق آباد، في 29 يونيو الماضي، على عقد اجتماع مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين. ورغم أن هناك "حساسية" إيرانية لا يمكن إغفالها إزاء تطور العلاقات مع روسيا، حتى مع العلاقات القوية التي تؤسسها الدولتان، لاعتبارات تاريخية، فإن الرسالة كانت واضحة، ومفادها أنه إذا كان أحد الأهداف المبتغاة من مثل تلك الترتيبات هو منع خصوم واشنطن من ملء فراغ الانسحاب الأمريكي من المنطقة، فإن إيران سوف تعمل على إعاقة هذا الهدف، عبر السماح بتوسيع نطاق العلاقات مع هؤلاء الخصوم؛ وهما روسيا عبر التعاون النووي والعسكري، والصين من خلال التعاون الاقتصادي.
الثالث، إطالة أمد المفاوضات النووية، بشكل يجعلها بلا أفق، فلا هى فشلت وأعادت أزمة البرنامج النووي الإيراني إلى مربعها الأول، ولا هى نجحت وانتهت بصفقة، وذلك على الأقل إلى حين استشراف ما سوف تفرضه زيارة بايدن من معطيات جديدة خلال المرحلة القادمة.
وهنا، فإن إيران تبدو مطمئنة، إلى حد ما، من أن الدول الغربية في حاجة إلى اتفاق نووي معها، أولاً لكي تتجنب اندلاع أزمة جديدة في المنطقة بالتوازي مع استمرار أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية. وثانياً، لكي تخفف من حدة أزمة إمدادات الطاقة، التي ترى إيران أنها أحد العناوين الرئيسية لزيارة بايدن.
نحو توازن جديد في الشرق الأوسط
لقد خلقت حالة الفوضى التي كرستها موجة "الربيع العربي" توازنات جديدة في الإقليم، استطاعت فيها القوى غير العربية والفاعلون من غير الدول -بتنسيق مباشر أو غير مباشر فيما بينها- استغلال حالة الفراغ التي نتجت عن انكفاء مصر لفترة غير قليلة على أوضاعها الداخلية، وخروج دول مثل العراق وسوريا من المعادلة السياسية والأمنية، وتحول دول عربية أخرى إلى ساحة للصراع الداخلي والإٍقليمي، أو الدولي. ثم جاء توجه الولايات المتحدة لتخفيف ارتباطها بالإقليم لمصلحة التفرغ لمسرح "الإندو-باسيفيك" والمواجهة مع الصين، ليمثل عاملاً إضافياً لتكريس هذا الواقع الجديد.
الإقليم الآن يشهد اتجاهاً معاكساً لهذه التحولات، عنوانه الرئيسي وجود فرصة كبيرة لامتلاك القوى العربية الرئيسية زمام السياسات الرئيسية بالإٍقليم. أسس لهذا التوجه مجموعة من التحولات المهمة؛ أبرزها عودة دور مصر القوي إلى الإقليم وخروجها من حالة الانكفاء على الداخل، واضطرار الولايات المتحدة إلى مراجعة طبيعة علاقاتها والتزاماتها تجاه القوى العربية الرئيسية بالإقليم، تحت تأثير عوامل عدة، أبرزها فشل المراهنة على العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران (حتى الآن)، وتزايد الأهمية النسبية للدول العربية المنتجة والمصدرة للطاقة، والتي انضمت إليها مصر حديثاً بفعل اكتشافات غاز شرق المتوسط والبنية التحتية لتسييل الغاز، وحسابات الصراع الأمريكي مع روسيا والصين. كما أسس له أيضاً عدد من التحولات العربية البينية الإيجابية، أهمها انتهاء الأزمة الخليجية/ المصرية مع قطر، والاتجاه إلى طرح مقاربة خليجية جديدة بشأن الأزمة اليمنية، وبدء مباحثات سعودية- إيرانية بمساعدة العراق. أضف إلى ذلك تنامي اتجاه داخل العراق بقيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ينحاز إلى بناء علاقات متوازنة مع الإقليم ويُعيد الاعتبار لروابطه العروبية التاريخية.
هذه التحولات تخلق فرصة كبيرة لفرض توازنات جديدة في الإقليم، جوهرها إعادة الاعتبار لأدوار القوى الرئيسية، ممثلة في مصر، ومجلس التعاون الخليجي، والعراق، والأردن، والتأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية، وعلاقات الإقليم مع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
الاستغلال الأمثل لهذه الفرصة يتطلب شروطاً عدة، أهمها ضرورة وجود تصور محدد من جانب القوى العربية الرئيسية بشأن القضايا والتحديات الأساسية بالإقليم (قضايا التعاون والصراع، وأنماط التهديد)، وطريقة إدارة مسارات التفاعل بين هذه القضايا، وطبيعة العلاقة بين الإقليم والقوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، ونمط توزيع الأدوار والأعباء والمسئوليات على هذه القوى استناداً إلى الاعتبارات والحسابات الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية. وستظل هناك حاجة لجهود دبلوماسية عربية موازية ومستدامة ومنسقة داخل الولايات المتحدة نفسها للدفاع عن المصالح والرؤى العربية بشأن الإقليم، وتجنيب هذه المصالح التحول بين الإدارات الأمريكية المختلفة.
هذا التوازن الجديد لا يعني بالضرورة الدخول في علاقات صراعية مع القوى غير العربية بالإقليم ولا يعني أيضاً تجاهل مصالح هذه الدول أو أوزانها الإقليمية، لكنه يعني بالضرورة أهمية وضع ضوابط محددة للعلاقة مع هذه القوى، وعلاقاتها بالإقليم، تقوم بالأساس على احترام الأمن القومي لوحدات الإقليم ولمصالح كل دوله، واحترام مبدأ السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشئون الداخلية.
***
خلاصة القول، إن استقراراً حقيقياً في إقليم الشرق الأوسط يتطلب تأسيساً جديداً لعلاقات الولايات المتحدة مع دول الإقليم، يأخذ في اعتباره مجموعة من المعطيات المهمة، أبرزها تاريخ فكرة الترتيبات الأمنية بالإقليم، والتباينات الاستراتيجية بين دوله رغم ما بينها من توافقات في قضايا عدة، وطبيعة اللحظة الراهنة في تطور النظام العالمي وما تتضمنه من تعقد المصالح الدولية وتشابكها. كذلك، فإن تأسيساً جديداً لعلاقات القوى الإقليمية لا يمكن أن يكون تأسيساً مستداماً طالما لم يتم التعاطي مع قضايا مركزية مثل القضية الفلسطينية.