لماذا لا يزال هنري كيسنجر مؤثراً حتى الآن؟
2022-7-7

عمرو عبد العاطي
* باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية

 

أثارت تصريحات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السادس والخمسون ومستشار الأمن القومي الأسبق، خلال مداخلته الافتراضية أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في 23 مايو الماضي (2022)، التي أكد فيها على ضرورة تنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها من أجل تحقيق السلام مع روسيا، وأن الفشل في استئناف المفاوضات الروسية-الأوكرانية، وفرض المزيد من العزلة على موسكو، سيكون له عواقب وخيمة على المدى الطويل بشأن الأمن الأوروبي، جدلاً وانتقادات واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها.

لكن هذا الجدل الذي أثارته تلك التصريحات كشف عن دلالة مهمة تتمثل في أن كيسنجر رغم تركه العمل الدبلوماسي والسياسي الرسمي داخل الولايات المتحدة منذ عقود، وتقدمه في السن، حيث يبلغ من العمر الآن 99 عاماً، لا زال مؤثراً بأفكاره في المقاربات الأمريكية للتعامل مع التحديات والتهديدات الدولية التي تواجهها الولايات المتحدة راهناً. وكثيرا ما يثير صناع القرار الأمريكي مع كل أزمة خارجية تساؤلاً مفاده: ماذا كان سيفعل كيسنجر لو كان في وزارة الخارجية أو دوائر السلطة اليوم؟. ولا يقتصر الأمر على سعى المسئولين الأمريكيين للاستفادة من خبرات كيسنجر، ولكنه اكتسب – أيضاً - شهرة عالمية لنفوذه القوى والعملي في الدبلوماسية الدولية.

يعد كيسنجر- بصرف النظر عن مدى التوافق أو الاختلاف مع آراءه- أشهر دبلوماسي أمريكي على قيد الحياة، وأكثرهم تأثيراً داخلياً وخارجياً، رغم العديد من الانتقادات التي توجه لأفكاره، وسياساته خلال الفترة من 1969 إلى 1976في عهد الرئيسين السابقين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. وقد كانت أفكاره وتأثيره في السياسة الأمريكية، وكذلك الدولية، محور العديد من المؤلفات لباحثين في العلاقات الدولية، والتاريخ على حد سواء. ويرتبط استمرار أهمية ما يطرحه كيسنجر، وتأثيره بعدة عوامل، منها ما يتعلق بخبرته الأكاديمية والعملية، وأخرى بالسياق الأمريكي والدولي الحاليين.

خبرة دبلوماسية وعملية

عين الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، هنري كيسنجر في ديسمبر 1968 كمساعد لشئون الأمن القومي، ليتولى منصب رئيس مجلس الأمن القومي خلال الفترة من 1969 إلى 1975وكوزير للخارجية خلال الفترة من سبتمبر 1973 إلى يناير 1977. وخلال تلك الفترة، كان كيسنجر شخصية مؤثرة في إدارة نيكسون، وكانت خدمته مليئة، وفقاً للرؤية الأمريكية، بالإنجازات السياسية والدبلوماسية، التي لم يحققها دبلوماسي أمريكي سابق حتى الآن.

فقد طور علاقات أمريكية أكثر دفئاً مع الاتحاد السوفيتي السابق، ما أدى إلى محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت) في عام 1969، وساعد في التفاوض على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت١) مع الاتحاد السوفيتي، التي وقعت في عام 1972، وأسس السياسة الأمريكية المؤيدة لباكستان خلال الحرب الهندية-الباكستانية في أواخر عام 1971.

ومهد كيسنجر الطريق لزيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين في عام 1972، بعد فترة من تعامل الولايات المتحدة معها كدولة منبوذة منذ فوز الشيوعيين بالسلطة في عام 1949. وقد أعاد الانفتاح الدبلوماسي الأمريكي على بكين عودتها للانضمام مرة أخرى إلى المجتمع الدولي. وفي عام 1973، فاز كيسنجر بجائزة نوبل للسلام عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى التعثر الأمريكي في فيتنام. وبعد حرب أكتوبر 1973قام كيسنجر بدبلوماسية مكوكية أوقفت العمليات العسكرية، وعززت من الهدنة بين الجيشين المصري والإسرائيلي، وبداية مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل، والتي انتهت بالتوصل لمعاهدة السلام في عام 1979.

وعلى الرغم من الخبرة الدبلوماسية الفريدة التي يتمتع بها هنري كيسنجر، فإن أفكاره وكتاباته كانت لها تأثيرات جلية في السياسة الخارجية الأمريكية. فقد جعله كتابه "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" (1957) مرجعاً للسياسة الإستراتيجية الأمريكية، حيث عارض فيه سياسة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون فوستر دالاس القائمة على "الانتقام النووي الهائل" على الهجوم السوفيتي، ولكنه دعا بدلاً من ذلك إلى رد مرن يجمع بين استخدام الأسلحة النووية التكتيكية والقوات التقليدية، فضلاً عن تطوير تكنولوجيا الأسلحة وفقاً للمتطلبات الاستراتيجية. وقد كان لهذا الكتاب وكتاب "ضرورة الاختيار" (1960)، الذي حصر فيه كيسنجر مفهومه للاستجابة المرنة للقوات التقليدية وحذر من "فجوة صاروخية" بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، تأثير كبير على أنشطة إدارة جون كينيدي.

ويعد كيسنجر من أكثر الدبلوماسيين والسياسيين الأمريكيين تأليفاً للكتب التي تتنوع ما بين سيرته الذاتية عن فترة عمله الدبلوماسي، وتحديات السياسة الخارجية الأمريكية، وتحولات النظام الدولي، وقضايا دولية معاصرة. وقد كانت آخر مؤلفاته عن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على مستقبل الإنسان، والذي صدر في 2 نوفمبر 2021. وصدر كتابه التاسع عشر في 5 يوليو القادم بعنوان "القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية"، وفيه يستعرض صفات واستراتيجيات القيادة معتمداً فيه على لقاءاته بستة قادة سابقين، وهم كونراد أديناور أول مستشار لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وشارل ديجول الذي أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، والرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، والرئيس المصري الراحل أنور السادات، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر التي كانت توصف بـ"المرأة الحديدية"، وولي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة. ويأتي هذا الكتاب في وقت يواجه فيه قادة العالم أزمات غير مسبوقة، ووسط تشاؤم متزايد بشأن قدرة القادة على إدارتها.

وقد دفع هذا الإرث الدبلوماسي والأكاديمي لهنري كيسنجر الساسة والباحثين الأمريكيين، والأجانب، إلى أن ينظرون له ولأفكاره بكل اهتمام وإمعان، وكذلك انتظار آرائه في كيفية التعامل مع التحديات الدولية. وقد عبر عن ذلك جون ماكين (1936-2019)، السيناتور الجمهوري ومرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية لعام 2008، الذي قال أن "إرثه (هنري كيسنجر) هو إدارة أمتنا في أصعب الأوقات، وصوته المهم المستمر في سياسات الأمن القومي. إنه رجل له مكان فريد في العالم. لا أعرف أي فرد يحظى باحترام أكبر في العالم من هنري كيسنجر".

ولا يرتبط تأثير كيسنجر المتصاعد في السياسة الأمريكية فقط بنجاحاته وشهرته وسمعته، ولكن أيضاً قدراته الاستثنائية على بناء شبكة من العلاقات الصامدة حتى بعد فترة طويلة من مغادرته الحكومة في عام 1977، ليس فقط مع المسئولين الأمريكيين الحاليين والسابقين، ولكن أيضاً مع شخصيات مؤثرة من خارج السلطة السياسية، ولا سيما الصحفيين وملاك كبرى الصحف، والسفراء الأجانب ورؤساء الدول، وحتى منتجي هوليوود. وقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على تلك العلاقات من خلال شركته للاستشارات (Kissinger Associates, Inc)، وهي شركة استشارات جيوسياسية دولية مقرها مدينة نيويورك، أسسها ويديرها منذ عام 1982. وتساعد الشركة عملائها في تحديد الشركاء الاستراتيجيين وفرص الاستثمار وتقديم المشورة لهم بشأن العلاقات الحكومية.

السياق الأمريكي والدولي

سمحت إخفاقات التيار الليبرالي التدخلي التي سيطرت على السياسة الخارجية الأمريكية في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتصاعد الحديث عن انتصار الديمقراطية الليبرالية ونهاية التاريخ، في تحقيق الأهداف والمصالح الأمريكية، ولا سيما مع فشل التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وفشل الإدارات الأمريكية المتعاقبة في بناء الدول، بصعود التيار الواقعي الذي يعلي من المصالح والأمن وتوازن القوى على المبادئ والمثل الليبرالية، وهي بيئة ساهمت في رواج أفكار كيسنجر الواقعية للسياسة الأمريكية، وكيفية تعامل الولايات المتحدة مع التحديات والأزمات الدولية.

وقد أدى استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي تقترب من شهرها الخامس بدون حسم، وغياب الرؤية الواضحة لكيفية إنهائها في وقت يخفق فيه التحالف الغربي الذي شكلته الولايات المتحدة والعقوبات الدولية غير المسبوقة على قوى كبري في النظام الدولي في إضعاف روسيا أو إرغامها على وقف عملياتها العسكرية، إلى صعود أفكار التيار الواقعي الذي يعارض السياسات الأمريكية والغربية تجاه موسكو، والداعي إلى عدم محاولة "إزلال" روسيا في أوكرانيا خوفاً من تحول الحرب الراهنة إلى حرب نووية، إذا استشعر النظام الروسي هزيمته الساحقة في كييف، ولا سيما مع التهديد الروسي باستخدام القوة النووية. وقد دفع ذلك كيسنجر إلى طرح رؤية واقعية لحل الأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لها، فإن المؤشرات على أرض الواقع تدفع إلى التوصل إلى اتفاق أو تسوية تنهي الحرب قريبة من التصور الذي طرحه كيسنجر في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.

كما أن التحولات التي يشهدها النظام الدولي الذي تشكل في أعقاب نهاية الحرب الباردة راهناً، وتراجع الهيمنة الأمريكية الأحادية على هذا النظام، مع الصعود الصيني، وتبني بكين مقاربات تعديلية، تدفع إلى إعادة دراسة السياسة الواقعية التي اعتمدها هنري كيسنجر لإحداث توازن في القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة، باعتبارها سياسة تم اختبارها على أرض الواقع وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها، ولا سيما أن الفترة الحالية من النظام الدولي – وفق بعض الكتابات الأمريكية - تشبه إلى حد كبير فترة الحرب الباردة ومنافسة القوى العظمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث هناك منافسة محتدمة بين الصين- التي تعزز من تحالفها الاستراتيجي مع روسيا في تحدٍ للقوة والنفوذ الأمريكي عالمياً- والولايات المتحدة، وهو ما دفع الكثيرين إلى الحديث عن حرب باردة جديدة يشهدها النظام الدولي راهناً.

ومع إخفاقات السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة في منطقة الشرق الأوسط، ظهرت أدبيات منها كتاب السفير الأمريكي السابق في إسرائيل ومبعوث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لمفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، مارتن انديك، بعنوان "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن السلام في الشرق الأوسط" (2021) تدرس كيفية الاستفادة من إرث كيسنجر لتشكيل نظام شرق أوسطي خلال فترة الحرب الباردة دام لمدة ثلاثة عقود نجح في إحداث السلام في المنطقة، في تحقيق الاستقرار والأمن الإقليمي في وقت يواجه فيه الشرق الأوسط العديد من الأزمات وتعثر عملية السلام، وتصاعد نفوذ القوى الإقليمية غير العربية التي تعمل على تهديد أمن واستقرار المنطقة بينما تقلل الولايات المتحدة من انخراطها بها لصالح التركيز على منطقة الإندو-باسيفيك.

خلاصة القول، سمحت الخبرة الدبلوماسية والأكاديمية وغزارة الإنتاج الفكري لهنري كيسنجر وإخفاقات النخبة الأمريكية في تقديم أطروحات فاعلة لتعامل الولايات المتحدة مع التحديات والأزمات التي تواجهها، وإخفاقات مقاربات التيار التدخلي الليبرالي الذي سيطر على السياسة الخارجية الأمريكية لعقود، والتحولات في النظام الدولي، بأن يكون هناك اهتمام أمريكي وعالمي بأفكار ورؤى كيسنجر رغم تقدم سنه وتركه الحكومة منذ عقود. ولكن هناك كتابات أمريكية تنتقد إرثه وأفكاره وتوجه له الاتهام بأنه مسئول عن إدامة الحرب والجرائم الكبرى ضد الإنسانية على حساب الأمن القومي للولايات المتحدة.

وقد صدر في 15 فبراير الماضي كتاب بعنوان "أمريكا الثانية: كيف تجعل النخب الأمريكية الصين أقوى؟"، ينتقد دور النخبة الأمريكية في تعزيز النفوذ الصيني داخل الولايات المتحدة. وفيه يوجه الكاتب، إسحاق ستون فيش، الانتقاد لهنري كيسنجر للعبه دور الوسيط بين الشركات الأمريكية ومسئولي الحكومة الصينية الذي حوله – بحسب الكتاب – من رجل الدولة الشهير إلى ما يوصف على أفضل وجه بأنه "عميل للنفوذ الصيني"، وعمله وراء الكواليس للدفع من أجل علاقات أمريكية أفضل مع الصين، من خلال تخفيف الولايات المتحدة مطالبها بتحسين التزامات الصين حقوق الإنسان والمعايير الأساسية الأخرى.

 


رابط دائم: