تتشابك العديد من التحركات التى تشهدها القضية الفلسطينية على هامش زيارة الرئيس الأمريكى جو بايدن للمنطقة التى سوف تجرى فى منتصف يوليو القادم، فى تشكيل صورة إيجابية عن احتمال عودة الملف الفلسطينى إلى الواجهة، وإحياء القضية بعد تراجع. تصور يكتسب قيمته من غياب المستوى المطلوب من الاهتمام رغم التصعيد وفرص الحرب، ورغم الدعوات الفلسطينية الرسمية للعودة للمسار السياسى، وفى ظل استمرار الاستيطان بكل ما يترتب عليه من تآكل فرص إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة. وتتمثل أبرز التحركات المعلنة فى الحديث عن مطالبة بايدن بزيارة مستشفى «المقاصد»، أكبر مركز طبى فلسطينى فى القدس الشرقية، دون مرافقة مسئولين إسرائيليين من أجل تجنب إثارة الغضب الفلسطينى وتأكيد الالتزام بتقسيم المدينة وفقاً لحل الدولتين، وعودة الدعم المالى لمستشفيات القدس الشرقية بعد إيقافه خلال فترة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب. بالإضافة إلى إمكانية افتتاح القنصلية الأمريكية بالقدس رغم معارضة إسرائيل، وإعلان الاتحاد الأوروبى حزمة مساعدات مالية للشعب الفلسطينى بقيمة 224.8 مليون يورو، ضمن التعهد بتقديم 1.152مليار يورو حتى عام 2024، دون إعلان موافقة السلطة الفلسطينية على تغيير المناهج التعليمية، وهو الشرط الذى مثل عائقاً أساسياً أمام التوصل إلى اتفاق مشابه لفترة. ويظل السؤال: هل تعبر زيارة بايدن، وما يصاحبها من تحركات ووعود، عن تغير ورغبة حقيقية فى إحياء القضية، أم أن ما يحدث هو تحرك تكتيكى يتناسب مع مرحلة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، والحاجة إلى توفير البيئة الضرورية للزيارة، دون تغيير جوهر التحديات المحيطة بالقضية أو التوصل لحلول سياسية؟
الموقف الأمريكى بين حربين
رغم رغبة إدارة بايدن فى تجنب الانخراط فى القضية الفلسطينية بكل تشابكاتها، جاءت حرب غزة الرابعة فى مايو 2021 لتُحدِث التغيير الأول. ومع أن التغير الذى أحدثته الحرب لم يؤد إلى التحرك على صعيد المواقف الجوهرية الخاصة بإحياء المسار السياسى، وممارسة ضغوط فعّالة من أجل وقف الاستيطان، فإن الحرب وضعت واشنطن فى مواجهة وجب فيها التعامل مع خيارات تبدو محدودة ومحسومة إلى درجة كبيرة. وتمثل الخيار الأول فى التركيز على ما أسمته الإدارة الأمريكية بالخطر الصينى، وتهميش القضية بشكل يهدد بتصعيد مفتوح قابل للامتداد على مساحة الإقليم. أما الخيار الثانى والمتبع، فتعلق بالعودة المحسوبة للقضية من خلال دعم جهود التهدئة ومحاولة ضبط التصعيد والبقاء على مساحة تسمح بالتواصل مع الأطراف المعنية.
وعلى خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية، يعود بايدن للقضية، ولكن بكل ما يمكن أن تحمله زيارة رئاسية إلى قضية مأزومة من فرص متصورة وأحلام مؤجلة. عودة تفرضها ضرورات المرحلة والحرب الأوكرانية، أو الحرب الثانية فى إطار التأثير على علاقة بايدن بالقضية الفلسطينية، وضمن الحاجة إلى ترتيب التحالفات والتنسيق مع دول المنطقة فى عدة ملفات. يأتى بايدن ومعه أجندة تتضمن القضية ولكنها قد لا تستجيب بالضرورة للمطالب الفلسطينية، ولا تتعامل مع الشعور المتزايد بغياب العدالة مقارنة بالمواقف الأمريكية خصوصاً، والغربية عموماً، من الحرب الأوكرانية.
تغييرات مرحلية تتجاوز جوهر القضية
رغم التفاؤل الفلسطينى الرسمى المصاحب للتواجد الأمريكى خلال وبعد حرب غزة الرابعة، استمر الوجود الأمريكى فى إطار مقيد وقريب من المواقف الإسرائيلية على صعيد تقديم الحل الاقتصادى، مع محاولة تحقيق نوع ما من التوازن فى العلاقات عبر تقديم بعض المكتسبات للجانب الفلسطينى بهدف تقليل الضغط الذى يواجه السلطة الفلسطينية فى ظل غياب الأفق السياسى. وركزت الجهود الأمريكية على دعم الائتلاف الحكومى الإسرائيلى برئاسة نفتالى بينيت بوصفه أفضل الخيارات بعد مسار معقد من التطورات السياسية الإسرائيلية، والتوترات مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى حرب غزة وانعكاساتها على المواقف الداخلية الأمريكية من إسرائيل. وبهذا، ساهمت الحرب الأولى خلال فترة بايدن- حرب غزة الرابعة- فى العودة المقيدة للقضية، ودعم الحل الاقتصادى، مع التنديد بالاستيطان وإعلان التمسك بالتسوية السياسية.
ورغم تزايد أسباب التصعيد خلال الفترة ما بين الحربين، خاصة خلال العام الجارى (2022) وتزامناً مع الحرب الأوكرانية، لم يحدث تغير حقيقى فى الموقف الأمريكى من القضايا المهددة للتهدئة أو خيار الدولتين، رغم ارتباط بعض محطات التصعيد بها بشكل مباشر مثل وفاة المسن الفلسطيني- الأمريكى عمر أسعد فى يناير الماضى، ومقتل الصحفية الفلسطينية- الأمريكية شيرين أبو عاقلة فى مايو الفائت بكل ما فرضته تلك الأحداث من ضغوط على السياسات الأمريكية والمطالبة باتخاذ مواقف أكثر تشدداً فى مواجهة السياسات الإسرائيلية وما يترتب عليها من خسائر بشرية ومادية. وعلى الجانب الفلسطينى، ساهم التعامل الأمريكى والغربى مع أوكرانيا فى تزايد النقد الفلسطينى للسياسات الغربية. وفى حين اهتم الغرب بالحصول على الدعم الإسرائيلى لأوكرانيا، ودعم جهود التطبيع فى المنطقة، أدى الجدل حول الضغوط الأوروبية على السلطة من أجل تعديل المناهج التعليمية قبل الحصول على المساعدات الاقتصادية تنفيذاً للمطالب الإسرائيلية، والمشكلات التى تواجه وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، إلى زيادة الغضب الفلسطينى وتصاعد حديث التناقضات.
الواقع وحدود العودة
تؤشر التحركات الأمريكية والأوروبية السابقة لزيارة بايدن إلى إمكانية وجود توجهات إيجابية من شأنها إحياء الاهتمام بالملف الفلسطينى، وتأكيد المواقف الأساسية من بعض النقاط الخلافية خاصة وضعية القدس الشرقية دون التعامل مع الملفات التى تهدد جوهر الحل السياسى. وفى هذا السياق، تمثل التحركات المعلنة حتى اللحظة الخطوات المطلوبة من أجل توفير البيئة الضرورية لتمرير الزيارة وتحقيق الأهداف المركزية التى لا تشمل تقديم حلول للقضية الفلسطينية بقدر الحفاظ على التهدئة وتقييد فرص التصعيد قبل أو خلال الزيارة. بالمقابل، يحتاج توفير الشروط اللازمة من أجل تجنب التصعيد والتهدئة الممتدة إلى معالجة الأسباب وتقديم تصورات واضحة للتعامل مع القضايا الأساسية على المستوى السياسى، والحفاظ على فرص إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.
وفى حين يؤثر الدعم المالى الأمريكى والأوروبى على تعامل السلطة مع بعض المشكلات التى تواجهها، لا يمكن أن يستبدل المدخل الاقتصادى الحلول السياسية. وبدون التعامل مع القضايا ذات الأولوية، والعودة للمسار السياسى، وتجميد الاستيطان وتغيير السياسات الإسرائيلية فى القدس الشرقية والمسجد الأقصى، يرجح استمرار دائرة التهميش والإحياء، والغياب والعودة، والمخاوف من لحظات تصعيد من شأنها نقل المعركة من مستوى يمكن التعامل معه إلى مستوى يصعب تقييده. ومن القدس إلى غزة أو العكس، ومن تصعيد فى الداخل الفلسطينى إلى تصعيد فى الإقليم يحمل عنوان «محور القدس» وتشابك الملفات الإقليمية، تظل الخطوات المعلنة أقل من إحياء حقيقى للقضية، وبمثابة عودة مؤقتة ومحدودة التأثير فى انتظار أزمة أو حرب جديدة فى الإقليم أو خارجه.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 23 يونيو 2022.
رابط دائم: