المجتمع المدني والحوار الوطني .. أولوية الرؤية
2022-5-12

د. أيمن السيد عبد الوهاب
* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

 

تطرح الدعوة المفتوحة للحوار الوطنى التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي العديد من التساؤلات والدلالات المرتبطة بفلسفة الحوار ومكوناته وأهدافه ورؤيته وما سيسفر عنه من نتائج ومخرجات، كما أنها تطرح العديد من الآمال والآفاق المرتهنة بالقدرة على أن يمثل الحوار بداية وانطلاقة للوقوف على حجم التغيرات والمستجدات التي شهدها المجتمع المصرى منذ 2011، وما فرضته تلك المتغيرات من تعميق لتداعيات قضايا قديمة وممتدة، وما يعكسه الواقع الراهن من تحديات تمس النسيج والبنيان الاجتماعى. كذلك يمكن أن تمثل أجندة الحوار بمحاورها المتعددة مدخلاً لبناء الرؤى المشتركة حول مقومات ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية المبنية على أسس المواطنة والقانون والمؤسسات، كمنهاج عمل وطنى لمواجهة العديد من المظاهر المجتمعية السلبية وما يكتنفها من مظاهر خلل تعكسه العديد من التفاعلات الاجتماعية، مثل: قضايا التطرف (الدينى واللادينى) والعنف، والاستقطاب السياسى، والسيولةالاجتماعية، وتنامى مؤشرات الانغلاق والتجزر المجتمعى على المستوى الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى والفكرى، واتساع الفجوة الجيلية لاسيما بين أجيال المراهقين والنشء والشباب على مستوى الأفكار والهوية والانتماء والنظرة الى المجتمع  والدولة. بمعنى أدق إن تراجع درجات التجانس والتماسك المجتمعى مع التحديات الاقتصادية والاستقطاب السياسى يتطلب بناء منظومة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية الفعالة والمستندة الى رؤية وقناعات مجتمعية داعمة للإصلاح والبناء.

وانطلاقاً من هذه الفرصة، تتجلى أهمية دور المجتمع المدنى والمنظمات الأهلية والقوى الاجتماعية في تفعيل قوى الحوار وامتداده الى المستويات والشرائح المختلفة من المجتمع، وبحيث لا يقتصر على النخبة والفاعلين على الساحة. ولذا تستهدف هذه الورقة طرح بعض الأفكار والتصورات المتعلقة برؤية ودور المجتمع المدنى في صياغة وتنفيذ الأجندة الوطنية، لاسيما في شقها التنموى المستند إلى الحقوق بالمعنى الواسع للحقوق، وذلك انطلاقاً من رؤية واقعية لطبيعة مكونات المجتمع المدنى المصرى الذى يعانى من اختلالات هيكلية على مستوى القيم والأدوار والمسئوليات والتنظيمات، فضلاً عن قصور العلاقة الارتباطية بين القطاعات الثلاث (الأهلى والخاص والحكومى) التى تقف عند مستوى الحد الأدنى المرتبط بالتعاون في تنفيذ بعض المشروعات والبرامج. وحرصاً على تعميق الحوار وجنى فوائده وثماره، ولو بشكل متدرج وبقدر ما يتوافق مع عمق المشكلات والقيود ومتطلبات التغيير، فسوف تبدأ الورقة بتناول موقع المجتمع المدنى من الحوار والمشكلات الهيكلية فى هذا الصدد، مروراً بمرتكزات الحل وتفكيك هذه المشكلات، وانتهاءً بمتطلبات إعادة تنظيم المجتمع المدنى وزيادة إسهامه وفاعليته.

المشكلات الهيكلية

المجتمع المدنى هو مرآة عاكسه للمجتمع المصرى، تلك النتيجة يجب أخذها في الاعتبار عند النظر لموقع المجتمع المدنى والتنظيمات الأهلية من الحوار الوطنى، وأيضاً عند النظر لخريطة مكوناته وتباين الوزن النسبى لفاعلية تنظيماته وحجم إسهامها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومردوها السياسى، وارتباطها بالنخب السياسية والاجتماعية.

عند النظر إلى خريطة المنظمات الأهلية على سبيل المثال، سنجد أنها تجسيد واقعى لدرجة تطور المجتمع التقليدى وطبيعة الثقافة والقيم السائدة، وترجمة لواقع القوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من هنا تأتى أهمية المرحلة التحضيرية للحوار الوطنى من جانب المجتمع المدنى، والتى يجب أن تسير في اتجاهين: أولهما، على المستوى الوطنى، ويرتبط بعلاقة المجتمع المدنى بالبيئة والسياق الحاكم وحيز المجال العام واعتبار الحوار فرصة مواتية لإعادة تنشيط العديد من مواطن الركود التي أصابت مقومات المجتمع ومرتكزات حركته، ومنطلق لصياغة فاعلة لدور المواطنين ولأدوارهم ومسئولياتهم تجاه الدولة والمجتمع.

وثانيهما، يرتبط بالفاعلين والقائمين على التنظيمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى، وأهمية بلورة رؤية وفلسفة تنموية على قاعدة حقوقية تأخذ بعين الاعتبار عدداً من النقاط، منها: حجم التحولات التي شهدها المجتمع وفرضتها التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يقتضى ذلك من إعادة تنظيم خريطة المجتمع المدنى ومعالجة اختلالاتها على مستوى فلسفة العمل ومنظومة القيم وميادين العمل والتوزيع الجغرافى، جنباً إلى جنب مع طرح رؤى متطلبات التنمية وتفعيل دور المجتمع المدنى في تنفيذ الأجندة التنموية الوطنية للدولة بالقدر الذى يتوافق مع زيادة القدرة على التكيف ومواجهة احتياجات واختلالات المجتمع في كافة المجالات.

وبعيداً عن التفاصيل الإجرائية المرتبطة بالحوار، مثل: من سيدير الحوار وينظمه، ويضع أجندته، والفترة الزمنية، وشموليته لغالبية الأطراف الفاعلة والمؤثرة، رغم أهميتها وحتميتها لإنجاح الحوار وإظهار فاعليته ومردوده على الواقع، فإننا هنا سوف نركز على عدد من القضايا والإشكاليات الهيكلية الواجب طرحها على مائدة الحوار، وخاصة أنها تمثل في جوهرها الإجابة على تساؤل رئيسى مفاده: هل نريد مجتمعاً مدنياً حقيقياً راسخاً؟ أم نريد تنظيمات أهلية تساعد الحكومة في توفير المساعدات الاجتماعية وتساعد في تثبيت الأمن الاجتماعى؟ فتحديد الرؤية والفلسفة ومن ثم الأدوار والمسئوليات مسألة حتمية لإنجاح الحوار، مع الأخذ في الاعتبار أن الإجابة على التساؤلين تفترض مراعاة تكلفة كل مسار، وأن الخبرة القديمة في الجمع بين تنظيمات أهلية وبعض ملامح لمجتمع مدنى أثبتت عدم فاعليتها وأن سمات ضعف المجتمع المدنى رفعت التكلفة الاجتماعية والسياسية بالقدر الذى تجاوز الفوائد على مستوى المجتمع والدول.

أول هذه الإشكاليات، يتمثل في تحديد المفاهيم وتحريرها، وهنا يجب أن نحدد ما المقصود بمفهوم المجتمع المدنى، وحدود اختزال البعض له في العمل الأهلى وتحديداً في الجمعيات الأهلية، ودون أن يمتد المقصود لباقى مكونات المجتمع المدنى مثل التعاونيات والنقابات المهنية والعمالية، والحركات الاجتماعية، ونوادي هيئات التدريس بالجامعات، والنوادي الرياضية والاجتماعية، ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، والغرف التجارية والصناعية وجمعيات رجال الأعمال، والمنظمات الدفاعية والتنموية ومراكز حقوق الإنسان، ومراكز الفكر والبحوث والدراسات، والحركات الصوفية وغيرها من المنظمات والمؤسسات غير الحكومية والتي لاتهدف إلى الربح.

وترجع أهمية التفرقة بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في هذه اللحظة مع بداية الحوار الوطنى، لتحديد المحددات والمرتكزات التي سوف يستند اليها العمل الوطنى وأجندته، ولتفهم طبيعة وحجم إسهام المنظمات الأهلية، وذلك استناداً إلى طبيعة المكونات التنظيمية. فالمجتمع المدني يقوم على التنوع الاجتماعي والثقافي ويرتكز على التنظيمات والروابط والتحالفات غير الرسمية الملتزمة بالتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وذلك عن طريق الترويج للقيم المدنية وحقوق الإنسان والمسئولية المدنية والمواطنة الفعالة[1]. بينما غالباً ما يرتكز المجتمع الأهلي على الارتباط الإثني والعرقي والروابط التقليدية، وهو ما يتجلى في الدول النامية، التي غالباً ما تنشأ تنظيمات أهلية تهتم بخدمة أبناء قبيلة أو عائلة بعينها، أو فئة إثنية محددة، الأمر الذي يمكن معه القول إن المجتمع الأهلي وما يرتبط بدوره هو معبر عن تطور المجتمع ذاته الذي يعمل فيه[2].

ولذا يبقى التكامل بين منظمات المجتمع الأهلي ومنظمات المجتمع المدني أمراً حتمياً لتعزيز المشاركة المجتمعية وتنظيمها وتفعيل مكوناتها بالقدر الذى يعظم من قدرات الدولة على تنفيذ خططها التنموية والإصلاحية، فالمنظمات الأهلية تمثل الإطار القاعدي والأفقي للمجتمع، نظراً لما تعبر عنه عملية تكوينها وأدوارها الرعائية والخيرية البسيطة، وما تحمله من قيم تكامل وتضامن. وبالتالي تبقى أدوار ومنظمات المجتمع المدني في طابعها ووظائفها وقيمها ممثلة للإطار الرأسي للمجتمع والمخترق لكل شرائحه وفئاته، فالوظائف المتعددة للمجتمع المدني تتطلب وعياً مجتمعياً ونخبوياً، وتبلور قوى مدنية قادرة على إعادة تنظيم مكونات المجتمع المدني بالقدر الذي يمكنه من لعب أدواره التنموية والحقوقية والرعائية والتوعوية.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الاستناد إلى مفهوم المجتمع الأهلي كأساس لتوصيف العلاقة بين الدولة والمجتمع يقترب من الواقع الراهن ويعبر عن غلبة الطابع الأهلى للأنشطة والبرامج، كما أنه يتوافق مع درجة تطور المجتمع ومنظماته، إذ تذهب بعض الآراء للتأكيد على أهمية المجتمع الأهلي، لاسيما في تلك المجتمعات التي لم تدخل مرحلة الحداثة بشكل كامل وما تزال قضية التقليدية والحداثة تتنازعها. فضلاً عن أن المفهوم الأهلي سوف يوفر إطاراً أكثر اتساعاً ليشمل القوى الموصوفة بـ"المدنية" جنباً إلى جنب مع القوى الريفية والتقليدية دونما إثارة للحساسيات والمواجهات بين القوى والثقافات "الريفية" والمدنية وبخاصة في إطار مسألة "ترييف المدن" التي تشهدها العديد من دول العالم ومنها مصر.

وتكمن أهمية ذلك في القدرة على تحديد المكونات وقدراتها كقوى مجتمعية وكموارد وإمكانيات عند إعداد خطط التنمية والمشروعات القومية، لاسيما تلك المرتبطة بالأبعاد الاجتماعية والعادات والتقاليد والثقافة السائدة، لما تمثله هذه المكونات من تأثير فاعل تجاه الأفكار والمعتقدات سواء بشكل سلبى أو إيجابى مثل القضايا السكانية، والتفكك الأسرى، والعنف، وتمكين المرأة، وحقوق المواطنة، والمساواة، والتطرف، فهذه القضايا التي تتطلب معالجتها مشاركة ومسئوليات مجتمعية، تفرض تحديد المسئوليات والأدوار جنباً إلى جنب مع تعزيز النهج التشاركى بدءاً من التخطيط. وبالتالي، فإن تحديد موقع المنظمات الأهلية وحدود الارتباط بالمجتمع المدني تبدو غاية في الأهمية، لاسيما في لحظات الإصلاح والبناء.

الإشكالية الثانية، تتعلق بأزمة الثقة وتباين الإدراكات للأدوار، وتتجسد هذه الإشكالية بشكل واضح في الإدراك المتباين للقطاعات الثلاثة (الحكومى والخاص والأهلى) للأدوار والمسئوليات، فالحكومة تنظر إلى المجتمع المدنى والتنظيمات الأهلية بكونها امتداداً وأداة من أدواتها، في حين تنظر للقطاع الخاص من منظور المسئولية الاجتماعية وقصوره في تأديتها بالقدر المطلوب، بينما يفضل القطاع الخاص التعامل مع القطاع الأهلى من خلال الحكومة، والمنافسة على التمويل الأجنبى، بينما يمثل القطاع الأهلى الطرف الأضعف في معادلة التعاون بين القطاعات الثلاث.

يتوازى مع هذا الخلل في العلاقة الثلاثية، ضعف أطر الشراكة، ومحدودية نموذج التنمية بالمشاركة، وتنامى دور التوظيف الدينى والسياسى للأدوار الاجتماعية والخدمية التي تقدمها بعض المنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدنى وخاصة في فترتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى (والتى ماتزال قائمة وإن كانت بدرجة أقل) والتي عمقت أزمة الثقة من جانب الحكومة تجاه دور المجتمع المدنى ومثلت تهديداً للأمن القومى فى بعض جوانبها، لاسيما مع تزايد العامل الخارجي وتوظيف ملف حقوق الإنسان وإقدام بعض المنظمات الحقوقية على محاولة الاستئساد على الدولة.

وتمثل الجمعيات الأهلية حالة كاشفة لباقى مكونات المجتمع المدنى وخاصة النقابات المهنية التي تعانى من قصور أدوارها المتعلقة بالمحافظة وتطوير المهنة ليقتصر دورها على تقديم بعض الخدمات، كما عانت معظمها من عملية تسييس واضحة للدور النقابى وعدم التفرقة بين الدور الحقوقى لأصحاب المهنة والدور السياسى للنقابات، كما برز الدور السلبى للتعددية النقابية التي انتهجتها النقابات العمالية خلال الفترة الممتدة من 2011 وحتى 2014.

وعلى مستوى التعاونيات، يكشف تعديل قانون التعاونيات عن الاهتمام الواضح بالفلاحين وبالتنمية الزراعية من جانب الحكومة، ولكنه اهتمام يظل رغم إيجابيته منقوصاً، حيث يجب أن يمتد هذا الاهتمام ليشمل كافة التعاونيات وليس التعاونيات الزراعية فقط، كما يجب أن ينظر إلى التعاونيات بشكل تكاملى مع باقى منظمات المجتمع المدنى فيما يتعلق بالدور التنموى والشراكة مع الحكومة، لاسيما وأن التعاونيات يصل عددها إلى 12609 ألف جمعية وتأتي في المرتبة الثانية بعد الجمعيات الأهلية (قبل مرحلة توفيق الأوضاع حيث كانت أعداد الجمعيات الأهلية نحو 57 ألف جمعية). وتتوزع خريطة التعاونيات على خمس أنماط هى: 6682 جمعية تعاونية زراعية، و2846 جمعية تعاونية إسكانية، و2527 جمعية تعاونية استهلاكية، و453 جمعية تعاونية إنتاجية، و100 جمعية تعاونية الثروة المائية.

التعاونيات وإن كان يُنظر إليها على أنها أقرب للجمعيات القاعدية التى تلبى الاحتياجات المباشرة للمواطنين وتقدم الخدمات، فإن المطلوب حالياً أن تتسع النظرة إلى البعد التنموى، وربما تمثل بعض التعديلات الخاصة بقانون التعاونيات (قانون 204 لعام 2014 وتعديل بعض مواد قانون التعاون الزراعى 122 لعام 1981) خطوة فى هذا الاتجاه. وتجدر الإشارة إلى أن هناك نحو ثماني قوانين صدرت منذ الثمانينات وحتى 2014 تحكم التعاونيات ولكنها كانت تعبر عن سياق اقتصادى واجتماعى وثقافى مختلف، وهو ما يتطلب بالتبعية إعادة النظر فى دور التعاونيات، وخاصة تلك المرتبطة بالتصدير والاستثمار وربطها بمفهوم التنمية بالمشاركة مع كافة تنظيمات ومنظمات المجتمع المدنى.

الإشكالية الثالثة، تتصل بالتوظيف الدولى لملف حقوق الإنسان، حيث تظل المنظمات الحقوقية تمثل إحدى الإشكاليات الكبرى التى تحول دون تفعيل أدوار المجتمع المدنى المصرى على أسس حقوقية. فبغض النظر عن طبيعة النشاط الذى تقوم به التنظيمات الأهلية فمن الضرورى أن تستند كافة الأنشطة والبرامج التى تقوم بها المنظمات الأهلية على النمط الحقوقى، ولكن تظل هناك مجموعة من القضايا الواجب مناقشتها بصراحة ووضوح حتى يمكن تجاوز هذه العقبة، ومنها: اعتماد المنظمات الحقوقية على التمويل الأجنبي بنسبة 100 فى المائة، والتدخل الدولى المرتبط بتسييس القضايا الحقوقية، وتحديد متطلبات المحافظة على الأمن القومى، واستمرار الطابع النخبوي للعمل الحقوقى، وضعف انتشار الثقافة الحقوقية. وهنا يمكن للمجلس القومى لحقوق الإنسان أن يكون هو المظلة الراعية لهذه الجمعيات.

الإشكالية الرابعة، تتعلق بالتوظيف السياسي والديني لمنظمات المجتمع المدني، حيث صبغت عملية التوظيف منهاجاً ورؤية سلبية أدت الى تزايد وتعقد العديد من القضايا، بحيث أصبحت العديد من التنظيمات الأهلية جزءاً من المشكلة والاختلالات المجتمعية، وليست سبيلاً أو آلية لمواجهة المشكلة أو حلها. والأمثلة هنا كثيرة وفى مقدمتها قضية التطرف والاستقطاب واستغلال الفئات المهمشة. بل إنه يمكن القول إن المجتمع المدني المصري لضعفه وعدم تبلوره، رغم طول عمره وخبرة بعض منظماته، كان أداة من أدوات الصراع السياسي والاجتماعي خلال المرحلة الماضية، لاسيما في مرحلة حكم الإخوان المسلمين، وهو ما تجلى في مؤشر نمو الجمعيات الأهلية ذات السمة الدينية بأعداد تزيد عن باقى الجمعيات التي تأسست خلال الثلاث سنوات التالية على يناير 2011، حيث تشير التقديرات إلى إشهار نحو 4 آلاف جمعية ذات سمة دينية (يناير 2011- 2013). ورغم حل العديد من الجمعيات الأهلية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، ودخول الجمعيات الأهلية في مرحلة توفيق الأوضاع، فإنه من الضرورى ملاحظة -كما سبقت الإشارة- أن الجمعيات الأهلية مرآة عاكسة لأفكار وقيم المجتمع، وبالتالى فإن معالجة بعض الاختلالات المجتمعية على مستوى الأفكار ومتطلبات التنمية تقتضى النظر في مسألة القناعات والتوجهات التي تطرحها بعض القوى الاجتماعية والسياسية من خلال الجمعيات الأهلية، حيث تمثل بعض مكونات المجتمع المدنى والتنظيمات الأهلية قوى رفض أو تحفظ تجاه بعض السياسات والاتجاهات التنموية للمجتمع، وهنا يمكن الإشارة تحديداً لقضايا مثل التطرف والقضايا الاجتماعية مثل الزواج المبكر وعمالة الأطفال والعنف الأسرى والزيادة السكانية.

وبالإضافة لهذه الإشكاليات، هناك حزمة أخرى من الإشكاليات المتعلقة بالثقافة المجتمعية مثل غلبة الطابع الشخصى وليس المؤسسى، وضعف ثقافة التطوع مقابل ثقافة التبرع، وضعف الكوادر التنموية، وقلة أعداد منظمات المظلة والشبكات إلى غير ذلك من المشكلات والقيود التى تحد من تطوير الأدوار التنموية.

مرتكزات تفعيل وبناء المجتمع المدني

1- الرؤية والفلسفة الرسمية للمجتمع المدني: استندت الدولة إلى منهاج المراجعة والتقييم وخاصة مع مقارنته بقانون 70 لعام 2017، وحفزت آليات الربط الهيكلى بين أدوار المنظمات الأهلية ومسئولياتها وأولويات الدولة واحتياجاتها، ودعمت الأدوار التنموية والمبادرات، وحرصت على التواكب مع اللغة والمعايير الدولية الحاكمة لمثل هذه القوانين إلى حد كبير، وهو ما تجلى بوضوح في إعلان رئيس الجمهورية عام 2022 عاماً للمجتمع المدنى، وإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإعادة تشكيل المجلس القومى لحقوق الإنسان، ومن قبل إصدار القانون الجديد 149 لعام 2019 ولائحته التنفيذية، وتنامى الخطاب الرسمى الداعم للنهج التشاركى فى مجالات التنمية، وخاصة المبادرات الرئاسية المتعلقة بحياة كريمة (تنمية القرية المصرية وتنمية الأسرة المصرية وغيرها).

هذه الرؤية يجب أن تمتد لتشمل باقى مكونات المجتمع المدنى ليعمل كمنظومة واحدة قادرة على تجاوز سمات الضعف التي حمّلت الدولة والمجتمع الكثير من التكلفة السياسية والاجتماعية، ولم توفر المقومات الدافعة للمشاركة في عملية التنمية الشاملة والمستدامة.

2- تفعيل مكونات المجتمع المدني: في ظل قدرته على تحقيق فلسفة عدالة التوزيع، فمن ناحية تساعد منظماته على توسيع نطاق المشاركة وتنظيم تفاعلات المواطنين، ومن ناحية ثانية، تبدو مؤسساته بمثابة آلية لتنشيط المجتمع ككل. ومن ناحية ثالثة، فأن ذلك يوفر القدرة على إحداث حراك اجتماعي يساعد على مشاركة وفعالية الطبقات الدنيا، بالإضافة إلى دوره الخاص بتقريب السياسات العامة من المواطنين العاديين وتجزئة هذه السياسات إلى مجموعة من القضايا النوعية بشكل يجعلها أقرب للتناول من جانب المواطنين.

3- الفاعلية ليست بالقانون فقط: ذلك أن العلاقة بين النص والتطبيق تمثل إشكالية ممتدة ربما لا تقتصر على قانون الجمعيات الأهلية، لأنها ترتبط بميراث تاريخى، وتوافقات مجتمعية، وخبرات إدارية ومؤسسية، وسياق اقتصادى واجتماعى وثقافى وسياسى، تجعل من انتقائية التطبيق، وإلزامياته، والتفسيرات المتعددة سبيلاً للتعامل مع القانون، ومحدداً لمقومات العمل الأهلى من ناحية. كما أن ضعف الأطر المؤسسية والهياكل الإدارية والميل للأعمال الخيرية والمساعدات الاجتماعية تمثل قيوداً أمام الحديث عن إمكانية أن يوفر القانون وحده نقلة نوعية داعمة للمنظمات الأهلية ومحفزاً لأجندتها التنموية الحقوقية من ناحية ثانية، أو الحديث عن فرص تعزيز النهج التشاركى بين الدولة والقطاع الأهلى بدون التوافق على خطوات هذا النهج الذى يجب أن يبدأ من التخطيط، وأن يشمل بناء قدرات ومهارات غالبية تلك المنظمات بحيث تتعمق أدواتها التنموية من ناحية ثالثة، وأن تتجلى بوضوح آليات مواجهة اختلالات التوظيف السياسى للمنظومة الحقوقية، والتوظيف الدينى للعمل الأهلى وعلاقتهما بالأمن القومى المصرى من ناحية رابعة.

المجتمع المدني ومتطلبات اللحظة

من المهم في إطار تفعيل وإعادة تنظيم المجتمع المدني تحقيق ما يلي:

1- إعادة صياغة كافة القوانين والتشريعات المرتبطة بمكونات المجتمع المدنى، بحيث تشكل منظومة متكاملة للأدوار والمسئوليات في تنفيذ السياسات العامة.

2- تفعيل العلاقة بين المجلس القومي لحقوق الإنسان بعد تشكيله الأخير، والمنظمات الحقوقية، بحيث يمثل جهة ومظلة للمنظمات الحقوقية في دعمها وتدريبها وتوفير بعض التمويل.

3- العمل على ربط الاحتياجات التنموية بمنظومة الحقوق حتى يمكن توسيع المنظور لتشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية ولا تقتصر على السياسي، ومن ثم يمكن دعم وجود منظمات تنموية كبيرة وقادرة على أن تكون داعمة وموجهة للكثير من المنظمات ومحددة للأولويات والاحتياجات، كما يمكن التوسع في منظمات حقوق المستهلك، والمنظمات الإغاثية لتتوافق مع الاحتياجات الجديدة للمجتمع.

4- تحفيز مفهوم التتنمية بالمشاركة كفلسفة حاكمة للعلاقة بين القطاعات الثلاثة (الأهلى والحكومى والخاص) وبالقدر الذى يساعد على زيادة المكون التنموى فى برامج وأنشطة التنظيمات الأهلية، ويساهم في اجتذاب الشباب وتفعيل المنهاج الحقوقى التنموى للفئات المهمشة ويرسخ مفهوم المواطنة الفعالة.

5- الدفع نحو مزيد من التوعية لمخاطر تهديد الأمن القومي المصري، مع تقديم النماذج والمعلومات الداعمة لذلك، عبر وسائل الإعلام وعبر المنظمات الأهلية نفسها، مع شرح مفهوم الأمن القومي ومحددات تهديده من منظوره الواسع وعلاقته بمتطلبات التنمية وبناء الوعى والمعرفة.


[1] Canadian International Development Agency (CIDA),Governance: Active Citizenship for Good Governance, Egypt Program SupportUnit (Egypt:CIDA,2011), P.P13-14.

[2] د. ايمن السيد عبدالوهاب، المشهد المصرى وتحولاته السياسية والمدنية ملامح أساسية لما قبل 25 يناير وما بعدها، ورقة غير منشورة، عام 2013.

##


رابط دائم: