كثيرًا ما كانت التحالفات والشراكات أحد الأبعاد والأدوات الجوهرية للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية شبكة واسعة من الأطر والتحالفات والشراكات الثنائية ومتعددة الأطراف، على رأسها حلف الناتو، وصيغة «حليف رئيسي من خارج الناتو»، وميثاق ريو، والقوة البحرية المشتركة، وقيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية، ومجلس الدفاع للبلدان الأمريكية، وقانون الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ومعاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا، ومعاهدة التعاون والأمن المتبادلين بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وتحالف العيون الخمس، وبرنامج الجيوش الأمريكية والبريطانية والكندية والأسترالية والنيوزيلندية، والاتفاقية الأمنية بين أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة. فيما أحيت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الحوار الأمني الرباعي «كواد»، ووقعت اتفاقية الشراكة الأمنية الثلاثية مع المملكة المتحدة واستراليا «أوكوس».
وترتبط التحالفات الأمريكية الجديدة ارتباطًا وثيقًا بالتغير في الرؤية الأمريكية لمصادر التهديد. فعلى الصعيد الجغرافي، وبعد سنوات من الانخراط الأمريكي الكبير في شئون الشرق الأوسط، فإن الرئيس الأمريكي يكرّس لتحول أمريكي باتجاه آسيا، وهو التحول الذي يمكن التأريخ لبدايته من حقبة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، وتُركّز أنظار الإدارة الأمريكية بشكلٍ كبير على منطقة «الإندو-باسيفيك». وبعد سنوات من وضع التهديدات الإرهابية على رأس التهديدات الأمنية للولايات المتحدة، على وقع صدمة 11 سبتمبر، فإن إدارة الرئيس الأمريكي تعتبر الصين الفاعل الرئيسي القادر على تهديد الولايات المتحدة والنظام الدولي المهيمنة عليه، في ظل صعود واضح للقناعات بنظرية «التهديد الصيني» على الأصعدة الشعبية والحزبية والحكومية في الولايات المتحدة، وذلك بالتوازي مع حدوث تحول في القضايا محل الاهتمام الأمريكي، حيث يبرز عدد من القضايا المتشابكة مع التحدي الصيني التي تهتم بها إدارة «بايدن»، وتحتل مكانة متقدمة في أولوياتها.
وفيما يتعلق بالهدف الرئيسي من التحالفات الأمريكية الجديدة وهو ردع الصين، فإن ثمة أهدافًا مناطقية وقطاعية تتفرع من هذا الهدف الرئيسي. فعلى المستوى الجغرافي المتعلق بمنطقة «الإندو-باسيفيك»، تهدف الولايات المتحدة إلى تعزيز قيادتها العالمية عبر بوابة «الإندو-باسيفيك»، ومواجهة الهيمنة الصينية في منطقة المحيطين الهادى والهندي، ومنع توسع الصين في المناطق المتنازع عليها، وحماية منطقة «الإندو-باسيفيك» ومواجهة التهديدات الأمنية فيها، مع التأكيد على الالتزام الأمريكي تجاه الحلفاء الآسيويين، وتعميق الروابط والتحالفات مع دول المنطقة، وتعزيز الانخراط الأمريكي في شئون ومشكلات المنطقة، وكذلك الاستفادة من الفرص الاقتصادية ومواجهة بكين. ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى مواجهة الصين بشكل عالمي ومتعدد الجوانب والقطاعات، حيث تسعى في هذا السياق إلى الحفاظ على المكانة الأمريكية في النظام الدولي وهيكله، والضغط من أجل استمرار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنافسة النمو والتوغل الاقتصادي الصيني، وموازنة التفوق التكنولوجي الصيني، ومواجهة القدرات العسكرية الصينية.
وفيما تعتمد الولايات المتحدة على التحالفات والأطر الجماعية كأداة رئيسية لاحتواء «التهديد الصيني»، مثل الاتفاق الأمني الثلاثي «أوكوس»، والحوار الأمنى الرباعي (كواد)، و«قمة من أجل الديمقراطية»، وخطة «إعادة بناء عالم أفضل»، فإن واشنطن تعمل عبر تلك الأطر الجماعية وغيرها على مواجهة الصين بتوظيف عدد من الأدوات السياسية والعسكرية والتكنولوجية والاقتصادية.
ويبرز، نتيجة التحالفات الأمريكية الجديدة، وعلى رأسها تحالف «أوكوس»، عدد من التداعيات، على رأسها: تعمُّق أزمة الثقة مع الحلفاء التقليديين، من جرّاء توتر العلاقات الأمريكية-الفرنسية، واعتراض دول أخرى على الاستبعاد، وإنعاش مساعي الاستقلال الأمني الأوروبي، فضلًا عن ردود فعل الصين تجاه التحالفات الجديدة، الذي يشتمل على رفض الصين للتحالفات الجديدة، وزيادة التهديد الصيني لحلفاء واشنطن، بالإضافة إلى تغيُّر خريطة التحالفات العالمية بإعادة التقسيم الأمريكي للعالم، وتعمُّق الشكوك بشأن التحالفات القديمة، وتعزيز توجه الصين نحو تحالفات مضادة، وتخوُف روسيا من توسيع تحالف «أوكوس».
وأخيرًا، فإن هناك تحديات تواجه التحالفات الأمريكية الجديدة من جهة، وسياسات أمريكية موجودة أو محتملة، أو يجري طرحها للتعامل مع تلك التحديات من جهة أخرى. ففيما يتعلق بضغوط التشابكات والتكلفة الاقتصادية على الولايات المتحدة، فإن التشابكات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، ومصالح الشركات الأمريكية الاقتصادية والتجارية المرتبطة بالصين تطرح تحديًا كبيرًا للإدارة الأمريكية، يضاف إلى تحدي تزايد تكلفة التحالفات، الذي تحاول واشنطن مواجهته عبر صيغة «تقاسم التكلفة» التي تستدعي الحديث عن «تقاسم القرار». وفيما يتعلق بإدارة العلاقات عبر الأطلسية، فإن ترميم العلاقات مع حلف الناتو يعد من أهم التحديات التي تواجه الإدارة الأمريكية، يتبعه ما يتعلق بإشراك «الناتو» والحلفاء الأوروبيين في مواجهة الصين، وإصلاح العلاقات مع فرنسا. وهناك أيضًا تحديات تتعلق بموقف حلفاء الولايات المتحدة من الصين، في ظل تعقيد العلاقات الأوروبية - الصينية، وتضارب التوجهات الآسيوية إزاء بكين، واختلاف المصالح الاقتصادية، والتشكك في الالتزام الأوروبي بالأمن الآسيوي، ما يدعو واشنطن نحو استبعاد الخيارات الصفرية مع الحلفاء، وتفهُّم المصالح الأوروبية في «الإندو-باسيفيك»، وذلك بالإضافة إلى تحديات أخرى تتعلق بشكوك الحلفاء الآسيويين تجاه الولايات المتحدة، وارتباط الحلفاء بخصوم الولايات المتحدة، والحشد على أرضية القيم الديمقراطية، الذي رغم بروزه كحل لتحدي غياب التصور الموحد عن التهديد الصيني، فإنه يطرح أيضًا تساؤلات حول جدواه، ومدى الحاجة إلى توسيعه ومرونته. كما تبرز أيضًا مقترحات ربط التحالفات الأمريكية والحلفاء ببعضهم بعضا، وبناء نماذج تشغيلية، فضلًا عن الحاجة إلى مقاربة أمريكية تراعي الحاجة العالمية إلى الدور الصيني في بعض الملفات.
ووسط ذلك كله، برزت الحرب الروسية - الأوكرانية، لتضيف متغيرات جديدة تتعلق بالتركيز الأوروبي على مواجهة التهديد الروسي، واختبار الالتزام الأمريكي بدعم الأمن الأوروبي، فضلًا عن محورية الموقف الصيني من العملية العسكرية الروسية في رسم ملامح خريطة التحالفات، وحدود الموقف الأوروبي تجاه بكين، وكذلك مدى تصاعد الموقف الأمريكي ذاته على خلفية موقف بكين تجاه الحرب، وانعكاساتها على قضية تايوان.
رابط دائم: