إزاحة حكومة عمران خان: ظاهرة قديمة تكرس تحولات جديدة
2022-4-18

د. محمد فايز فرحات
* مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

قبل أقل من عام ونصف على إكمال حكومة عمران خان مدتها الدستوية والتي كان من المقرر أن تنتهي في أغسطس 2023، نجحت المعارضة السياسية الباكستانية بقيادة حزب "الرابطة الإسلامية- جناح نواز شريف" في إزاحة حكومة خان وتنصيب رئيس الحزب شهباز شريف رئيساً للحكومة. هذا الانهيار المفاجئ لحكومة خان يكرس استقرار واحدة من الظواهر السياسية التاريخية في باكستان منذ تأسيس الدولة في عام 1947، وهي عدم الاستقرار الحكومي، وعدم قدرة أي حكومة باكستانية على إكمال مدتها الدستورية، باستثناء الحكومات المؤقتة. لكن، كما مثّل هذا التطور مناسبة للتأكيد على هذه الظاهرة التاريخية، فقد مثّل في الوقت نفسه فرصة لاختبار مدى صلابة عدد من التحولات المهمة بشأن عملية التحول السياسي في باكستان.

لماذا انهارت حكومة عمران خان؟

بدأت الأزمة السياسية الأخيرة في باكستان مع تصدع الائتلاف الحاكم بقيادة حركة الإنصاف، وفقد حكومة خان الأغلبية البرلمانية، ثم تقدم المعارضة في 8 مارس 2022 بمشروع قرار سحب الثقة من حكومة خان. ورغم محاولات خان الإفلات من هذا التصويت، لكن المعارضة نجحت في النهاية في تمرير هذا القرار في ٩ أبريل.

وقد طُرحت في هذا السياق روايتان لتفسير هذه التطورات.

الرواية الأولى، طرحها عمران خان نفسه وحزبه السياسي "حركة الإنصاف"، وقامت على وجود مؤامرة خارجية، نسجتها الولايات المتحدة بسبب ما وصفه خان بالتوجهات الاستقلالية لحكومته، ورفض حكومة خان إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية على الأراضي الباكستانية. واستند خان في دعم روايته تلك إلى برقية دبلوماسية من السفير الباكستاني السابق لدى الولايات المتحدة أسد مجيد خان (قبل أن يترك هذا المنصب في 25 مارس ليتولى منصباً آخر في بروكسيل)، عقب لقاء غير رسمي له مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون جنوب ووسط آسيا دونالد لو، عبر خلاله لو عن عدم رضاء الولايات المتحدة عن سياسات خان. وقد كشف خان عن مضمون هذه البرقية في 27 مارس الماضي (أي عقب طرح المعارضة مشروع حجب الثقة عن حكومة خان)، دونما إشارة صريحة إلى الولايات المتحدة. وقد تم إرسال هذه البرقية إلى خان في 7 مارس، أي قبل يوم من تقديم المعارضة الباكستانية مقترح سحب الثقة داخل البرلمان.

الترتيب الزمني للأحداث قدم سنداً لربط حكومة خان بين اللقاء الذي تم بين أسد مجيد خان ودونالد لو، وطرح المعارضة مشروع حجب الثقة في اليوم التالي مباشرة. وقد رفضت الولايات المتحدة رسمياً هذه الرواية.

في حالة دقة هذا التفسير، فإن هذا الموقف الأمريكي من حكومة خان يعود أيضاً إلى تنامي النفوذ الصيني داخل باكستان، على خلفية الأهمية الكبيرة التي توليها الصين لباكستان على مسار المكون البري من مبادرة الحزام والطريق من خلال الممر الاقتصادي "الصين- باكستان"، واتجاه حكومة خان إلى إفساح المجال أمام النفاذ الصيني إلى قطاعات باكستانية مهمة مثل السكك الحديدية، والطاقة، والموانئ البحرية. بشكل عام -وحسب هذا السيناريو- فإن إزاحة حكومة خان تمثل جزءاً من توجهات أمريكية لتقليص النفوذ الصيني، وإعادة ضبط التوجهات الخارجية لباكستان ودفعها إلى أخذ مسافة واضحة بعيداً عن كل من الصين وروسيا، من خلال حكومة جديدة تتوافق مع المصالح الأمريكية بهذا الشأن. ويتأكد هذا التوجه الأمريكي -حسب هذا التحليل- مع زيارة عمران خان لروسيا في 24 فبراير الماضي، وهو اليوم الذي بدأت فيه العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا، بالإضافة إلى امتناع باكستان عن التصويت على مشروع قرار "العدوان على أوكرانيا" داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس.

الرواية الثانية، تبنتها المعارضة السياسية، وتعزو الأزمة السياسية برمتها إلى عوامل داخلية، تتعلق بالأداء الاقتصادي والسياسي لحكومة خان، وفشلها في مواجهة المشكلات الاقتصادية العديدة التي يعاني منها الاقتصاد الباكستاني منذ سنوات، خاصة البطالة والتضخم وأزمة الطاقة، وذلك رغم التفاؤل الكبير الذي ارتبط بانتخاب عمران خان وحزبه السياسي في عام 2018.

على المستوى السياسي، تشير هذه الرواية أيضاً إلى تدهور العلاقة بين عمران خان والمؤسسة العسكرية الباكستانية، وذلك رغم التوافق الكبير الذي نشأ بين الجانبين في 2018. ويعود هذا التدهور -حسب هذه الرواية- إلى تهديد عمران خان المصالح الباكستانية مع الولايات المتحدة؛ إذ رغم التوترات التي شابت العلاقات بين الجانبين في مناسبات عديدة، خاصة فيما يتعلق بملفي أفغانستان والتنظيمات الإرهابية في جنوب آسيا، لكن ظلت هناك مصالح لا يمكن التضحية بها، خاصة التسليح والتدريب.

ورغم إعلان المؤسسة العسكرية الباكستانية رسمياً أنه لا علاقة لها بهذه الأزمة، والتزامها بعدم التدخل في الشئون السياسية، لكن هذا لا ينفي حدوث فجوة بين الجانبين خلال الفترة الأخيرة كان لها تأثيرها على قدرة حكومة خان على البقاء؛ فبالإضافة إلى الخلاف القائم بين الجانبين حول العلاقة مع الولايات المتحدة، وعلى العكس من التوتر الذي شهدته العلاقات الباكستانية- الهندية خلال مرحلة عمران خان، فإن المؤسسة العسكرية لازالت تفضل مزيداً من تعميق الروابط الاقتصادية بين باكستان ومحيطها الإقليمي، بما في ذلك الهند، وعدم تدهور البيئة الأمنية الإقليمية، كشرط مهم لتعزيز فرص نمو الاقتصاد الباكستاني. ووفق بعض التحليلات، فقد تطور خلاف مكتوم بين المؤسسة العسكرية وخان في نوفمبر 2021 حول تعيين رئيس الاستخبارات المحلية ISI؛ فقد قاوم خان تعيين الجنرال نديم أحمد أنجوم محل الجنرال فايز حميد، بسبب تفضيل خان الإبقاء على الجنرال فايز حميد لبعض الوقت، لحين الانتهاء من الانتخابات المقررة في 2023. كما سرت شائعات بأن خان كان يخطط لتعيين حميد قائداً للجيش عندما يحين موعد التجديد للجنرال قمر جاويد باجوا في نوفمبر 2022. في النهاية تم اعتماد تعيين مرشح الجنرال باجوا، لكن حدثت فجوة بين الجانبين.[1]

مع أهمية رواية خان حول وجود مؤامرة خارجية، لكن لا يمكن إغفال دور العوامل الداخلية؛ فحتى مع وجود إشارات خارجية حول عدم رضا الولايات المتحدة عن توجهات حكومة خان؛ لا يمكن إنكار دور العوامل الداخلية في الأزمة، خاصة الفجوة التي نشأت بين المؤسسة العسكرية وعمران خان. وليس بالضرورة أن هذه الإزاحة جاءت بطلب أو بإيعاز مباشر من جانب المؤسسة العسكرية، لكن يكفي أن القوى السياسية قرأت هذا المشهد جيداً باعتباره فرصة لتوجيه ضربة لعمران خان وحزبه السياسي. أضف إلى ذلك، فإن هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها في باكستان، فقد عرفت البلاد أنماطاً عدة من الأزمات السياسية، لعوامل تتعلق بطبيعة النخب السياسية، وطبيعة الأحزاب السياسية، والتركيب العرقي والديني، بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية. وليست هذه هي المرة الأولى أيضاً التي لم تُكْمِل فيها حكومة باكستانية مدتها الدستورية المقررة، إذ جاءت خبرة حكومة خان لتعيد التأكيد على هذه الظاهرة التاريخية.

ظاهرة تاريخية وأدوات جديدة

كما سبق القول، لا تمثل إزاحة حكومة عمران خان من السلطة استثناءً في الحياة السياسية الباكستانية، بل إنها جاءت متسقة مع إحدى الظواهر السياسية المستقرة، وهي عدم قدرة أي حكومة على إكمال مدتها الدستورية، باستثناء الحكومات المؤقتة. وتعددت أسباب سقوط هذه الحكومات بين الاغتيال، والإقالة، والاستقالة، والانقلاب، وإعلان حالة الطوارئ، والإقالة بحكم قضائي. ولم تتجاوز مدة عمل الحكومة أياماً معدودة في بعض الحالات.

لكن الأزمة الأخيرة جاءت لتدشن آلية جديدة لإزاحة الحكومة وهي حجب الثقة؛ فطوال سبعة عقود ونصف لم تعرف باكستان إٍزاحة الحكومة عبر تلك الآلية، وذلك رغم حالة الصراع السياسي التاريخية بين الأحزاب السياسية. وقد عرفت باكستان في تاريخها محاولتين فقط لحجب الثقة عن الحكومة، الأولى كانت في عام 1989 في عهد حكومة بنظير بوتو الأولى (ديسمبر 1988- أغسطس 1990). وكانت الثانية في عام 2006 في عهد حكومة شوكت عزيز (أغسطس 2004- نوفمبر 2007). وفي الحالتين لم تستطع المعارضة تأمين الأغلبية اللازمة لتمرير مشروع قرار حجب الثقة. وبينما نجح عمران خان في الإفلات من التصويت بحجب الثقة الذي كان من المقرر إجراؤه في 3 أبريل 2022، من خلال استغلال سيطرة حزبه على رئاسة الجمعية الوطنية لتعطيل عقد جلسة التصويت، وتقديم توصية للرئيس الباكستاني بحل الجمعية والحكومة. لكن المعارضة نجحت في إعادة الكرة إلى ملعبها مرة أخرى عبر الطعن في دستورية هذه القرارات أمام المحكمة العليا، التي أصدرت بالفعل قراراً في 7 أبريل بعدم الدستورية، وإلزام الجمعية الوطنية بعقد جلسة التصويت[2]، حيث تمكنت المعارضة من تمرير مشروع حجب الثقة في 9 أبريل، لتقرر بذلك أول سابقة في هذا المجال.

وهكذا، في الوقت الذي يمثل فيه انهيار حكومة خان امتداداً لظاهرة تاريخية في باكستان، وهي عدم قدرة أي حكومة على إكمال مدتها الدستورية، فإن ذلك تم هذه المرة بأداة جديدة وهي "حجب الثقة" من داخل البرلمان. ويوضح الجدول رقم (1) تاريخ الحكومات الباكستانية منذ تأسيس الدولة في عام 1974 وحتى سقوط حكومة عمران خان في 9 أبريل 2022، وطريقة انتهاء مهامها.

جدول رقم (1): الحكومات الباكستانية منذ تأسيس الدولة في عام 1947 وحتى أبريل 2022

م

الحكومة

الفترة الزمنية

الحزب السياسي

سبب الانتهاء

1

علي خان

Liquat Ali Khan

15/8/1947- 16/10/1951

(4 سنوات وشهرين ويومين)

الرابطة الإسلامية

الاغتيال

2

خواجة ناظم الدين

17/10/1951- 17/4/1953

سنة واحدة وستة أشهر

الرابطة الإسلامية

حل الحكومة بواسطة الحاكم العام لباكستان.

3

محمد علي بوغرا

Mohammed Ali Bogra

17/4/1953- 11/8/1955

عامان وثلاثة شهور و26 يوماً

الرابطة الإسلامية

حل الحكومة بواسطة الحاكم العام لباكستان.

4

تشودري محمد علي

12/8/1955- 12/9/1956

سنة واحدة وشهر واحد

الرابطة الإسلامية

الاستقالة

5

حسين شهيد سهروردي

12/9/1956- 18/10/1957

سنة واحدة وشهر واحد وستة أيام

رابطة عوامي

الاستقالة

6

إبراهيم إسماعيل جندريكار

18/10/1957- ١٦/12/1957

(شهر واحد و 28 يوماً)

الرابطة الإسلامية

الاستقالة

7

فيروز خان نون

16/12/1957- 7/10/1958

(9 شهور و 21 يوماً)

الحزب الجمهوري

إعلان حالة الطوارئ بواسطة رئيس البلاد إسكندر ميرزا

تم حجب المنصب خلال الفترة (20 ديسمبر 1971 - 14 أغسطس 1973) والتي تولى فيها الرئيس أيوب خان رئاسة البلاد

8

نور الأمين

7/12/1971- 20/12/1971

(13 يوماً فقط)

الرابطة الإسلامية

الاستقالة

تم حجب المنصب خلال الفترة (20  ديسمبر 1971 - 14 أغسطس 1973) وهي مرحلة الرئيس ذو الفقار علي بوتو قبل أن يتم إجراء تعديل دستوري يسمح بعودة منصب رئيس الحكومة

9

ذو الفقار علي بوتو

14/8/1973- 5/7/1977

(3 سنوات وعشرة شهور و21 يوماً)

حزب الشعب

انقلاب بقيادة الجنرال محمد ضياء الحق

10

محمد خان جونيجو

23/3/1985- 29/5/1988

(٣ سنوات، وشهرين و6 أيام)

الرابطة الإسلامية

الإقالة بواسطة الرئيس ضياء الحق

تم حجب المنصب خلال الفترة (29 مايو 1988 - 2 ديسمبر 1988)

11

بنظير بوتو

3/12/1988- 6/8/1990

(عام واحد و 8 شهور و4 أيام)

حزب الشعب

إقالة بواسطة الرئيس غلام اسحق خان

12

غلام مصطفى جاتوي

6/8/1990- 6/11/1990

ثلاثة شهور

 

تكليف مؤقت

13

نواز شريف

6/11/1990- 18/4/1993

(عامان و5 شهور و12 يوم)

الرابطة الإسلامية

إقالة بواسطة الرئيس غلام اسحق خان

14

بلخ شير مزاري

18/4/1993- 26/5/1993

(38 يوم فقط)

 

تكليف مؤقت

15

نواز شريف

26/5/1993- 18/7/1993

(شهر واحد و22 يوم)

الرابطة الإسلامية

استقالة

16

معين الدين أحمد قرشي

18/7/1993- 19/10/1993

(ثلاثة شهور)

 

تكليف مؤقت

17

بنظير بوتو

19/10/1993- 5/11/1996

(3 سنوات و17 يوم)

حزب الشعب

إقالة بواسطة الرئيس فاروق ليجاري

18

مالك ميراج خالد

5/11/1996- 17/2/1997

(3 شهور+ 12 يوماً)

 

تكليف مؤقت

19

نواز شريف

17/2/1997- 12/10/1999

(عامان و7 شهور و25 يوماً)

الرابطة الإسلامية

انقلاب بواسطة الجنرال برفيز مشرف

إلغاء المنصب خلال الفترة (12 أكتوبر 1999 - 21 نوفمبر 2002)

20

مير ظفر الله جمالي

21/11/2002- 26/6/2004

(سنة و7 شهور و3 أيام)

الجماعة الإسلامية الباكستانية

استقالة

21

تشودري شجاعت حسين

30/6/2004- 26/8/2004

(شهر واحد + 27 يوماً)

الجماعة الإسلامية الباكستانية

استقالة

22

شوكت عزيز

28/8/2004- 15/11/2007

(3 سنوات وشهران و18 يوماً)

الجماعة الإسلامية الباكستانية

استكمال مدة

23

محمد ميان سومورو

16/11/2007- 25/3/2008

(4 شهور+ 9 أيام)

الجماعة الإسلامية الباكستانية

تكليف مؤقت

24

يوسف رضا جيلاني

25/3/2008- 19/6/2012

(4 سنوات وشهر واحد+ 25 يوماً)

حزب الشعب

إقالة بحكم من المحكمة العيا

25

راجا برفيز أشرف

22/6/2012- 24/3/2013

(9 شهور+ يومان)

الجماعة الإسلامية الباكستانية

استكمال مدة الحكومة السابقة

26

مير هزار خان خوسو

24/3/2013- 4/6/2013

(3 شهور+ 20 يوماً)

مستقل

تكليف مؤقت

27

نواز شريف

5/6/2013- 28/7/2017

(4 سنوات وشهر واحد+ 23 يوماً)

الرابطة الإسلامية

إقالة بحكم من المحكمة العليا

28

شهيد خاقان عباسي

1/8/2017- 31/5/2018

(10 شهور)

الرابطة الإسلامية

استكمال المدة البرلمانية للحكومة السابقة

29

عمران خان

18/8/2018- ٩/٤/٢٠٢٢

(٣ سنوات+ ٧ شهور+ ٢١ يوم)

حركة الإنصاف

حجب ثقة من داخل البرلمان بعد حكم محكمة العليا بعدم دستورية قرار حل البرلمان والحكومة، على إثر أزمة سياسية بين الحكومة والمعارضة.

Source: Humza Jilani, “No One Has Ever Completed a Term as Pakistan’s PM… A checkered democratic history, from 1947 to the present day”, Foreign Policy, July 25, 2018. Available at:  https://foreignpolicy.com/2018/07/25/no-one-has-ever-completed-a-term-as-pakistans-pm/

 

الأزمة تكرس ظواهر إيجابية

كرست أزمة حكومة خان تحولين مهمين داخل النظام السياسي الباكستاني: الأول، هو استقرار دور المحكمة العليا كفاعل مهم داخل النظام، والثاني، هو استقرار تمسك الجيش بعدم التدخل المباشر في الحكم.

1- استمرار دور المحكمة العليا كفاعل مهم داخل باكستان: تُعد المحكمة العليا في باكستان أحد الفاعلين الرئيسيين الذين يلعبون دوراً كبيراً في الحياة السياسية وفي فرص الاستقرار الحكومي. فكما يتضح من بيانات الجدول السابق، سقطت حكومتان على إثر صدور حكم من المحكمة العليا بعدم أهلية رئيس الحكومة الاستمرار في منصبة. الأولى، هي حكومة حزب الشعب برئاسة يوسف رضا جيلاني، التي بدأت عملها في 25 مارس 2008، لكن المحكمة العليا أدانته في 26 أبريل 2012 بتهمة ازدراء المحكمة بسبب رفضه فتح تحقيق بحق الرئيس آصف علي زرداري بتهمة الفساد، ما أدى إلى إقالة جيلاني من منصبه في 19 يونيو 2012. والثانية، هي حكومة نواز شريف التي بدأت عملها في 5 يونيو 2013، والذي اضطر للاستقالة في 28 يوليو 2017، على أثر إدانته من جانب المحكمة بتهم فساد تعلقت بتسريبات "أوراق بنما"، والتهرب الضريبي، ومن ثم الحكم بعدم أهليته للبقاء في منصبه.

وقد تأكد هذا الدور المهم للمحكمة العليا في الأزمة الأخيرة، مع حكمها الصادر في 7 أبريل بعدم دستورية قرار الرئيس الباكستاني حل الجمعية الوطنية والحكومة. فقد نشأ استقطاب بين اتجاه مثّله رئيس الجمعية الوطنية ورئيس الحكومة، وآخر مثّلته المعارضة الباكستانية؛ حيث ذهب الاتجاه الأول، إلى عدم دستورية التصويت على حجب الثقة بدعوى وجود مؤامرة خارجية. واستند هؤلاء إلى نص المادتين الخامسة والسادسة من الدستور الباكستاني.[3]  بينما استند الاتجاه الثاني إلى عدم دستورية قرار حل الجمعية الوطنية والحكومة، وذلك استناداً إلى نص المادة 58 من الدستور التي تحظر حل الجمعية الوطنية في حالة وجود مشروع تصويت على حجب الثقة في رئيس الحكومة على أجندة الجمعية.[4]

واقع الأمر، لقد اتسم موقف التيار الأول بالضعف بالمقارنة بموقف التيار الثاني، إذ من الصعب القول بانسحاب المادتين الخامسة والسادسة من الدستور على موقف المعارضة اللتان تتحدثان عن حالة الخيانة العظمى، بسبب عدم وجود أدلة قاطعة بوجود مثل هذه المؤامرة، الأمر الذي يفسر انتصار المحكمة لوجهة نظر المعارضة استناداً إلى المادة 58 من الدستور.

المهم في هذا السياق، أن الأزمة مثّلت مناسبة جديدة لتأكيد دور المحكمة العليا كفاعل مهم في إدارة وحسم الصراعات السياسية داخل باكستان. ومن المتوقع أن يستمر هذا الدور لأسباب تتعلق باستمرار الصراع بين القوى السياسية والحزبية، وتمسك المؤسسة العسكرية بعدم التدخل المباشر في الحكم، الأمر الذي يجعل المحكمة العليا وجهة أساسية للمعارضة لحسم صراعاتها السياسية. هذا التوجه سيعطي المحكمة ثقلاً أكبر داخل النظام السياسي الباكستاني. كما أن تكريس احتكام القوى السياسية إلى هذه الآلية سيضمن فرصة أكبر لتسوية الصراعات الحزبية، خاصة في ضوء ما كشفت عنه الأزمة الأخيرة من التزام حزب عمران خان وتياره بحكم المحكمة، وقرار حجب الثقة، وهي كلها ظواهر إيجابية في إطار عملية التحول السياسي في باكستان.

2- استقرار تمسك الجيش بعدم التدخل المباشر: لا يوجد نص في الدستور الباكستاني يعطي الجيش دوراً مباشراً في الحكم، لكنه مع ذلك ظل أحد الفاعلين الرئيسيين في الحياة السياسية في باكستان؛ فمن إجمالي حوالي 75 عاماً، هي عمر الدولة الباكستانية، سيطرت الأنظمة/ الحكومات العسكرية على السلطة بشكل مباشر لمدة 30 عاما تقريباً. لكن منذ استقالة الرئيس الباكستاني الأسبق برفيز مشرف في أغسطس عام 2008، والذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب على حكومة نواز شريف في عام 1999، لم يعد الجيش إلى حكم باكستان مرة أخرى.

وقد مثّلت الأزمة الأخيرة اختباراً مهماً لمدى استقرار هذا التحول المهم في باكستان؛ فقد حرصت المؤسسة العسكرية على تأكيد عدم تدخلها في الأزمة. وقد حاول عمران خان جر الجيش إلى الأزمة من خلال بعض التكتيكات؛ فوفق تقرير لصحيفة الجارديان البريطانية في 10 أبريل 2022 [5]، هددت حكومة خان بفرض الأحكام العرفية، وتوصيل رسالة إلى المعارضة بأن عليها الاختيار بين بديلي الانتخابات المبكرة أو فرض الأحكام العرفية، وهو ما اتضح في تصريح وزير الإعلام، فؤاد شودري، يوم السبت 2 أبريل الذي قال فيه: "إذا تم فرض الأحكام العرفية على البلاد فإن أحزاب المعارضة ستكون مسئولة عن ذلك لأنها شاركت في بيع وشراء الأصوات". وفي مرحلة تالية -وفق التقرير نفسه نقلاً عن مسئولين أمنيين باكستانيين- حاول خان في يوم التصويت على سحب الثقة (9 أبريل)، الذي أرجأه حزب خان 14 ساعة، إقالة قائد الجيش. ربما لم ينوي خان عملياً القيام بهذه الخطوة، لكنه كان يحاول في الأغلب استفزاز المؤسسة العسكرية ودفعها إلى التدخل المباشر في الأزمة. لكن كل هذه المحاولات لم تنجح في إخراج المؤسسة العسكرية عن ثوابت مرحلة ما بعد عام 2008. وحسب التقرير نفسه، اضطر القائد العام للجيش إلى مقابلة خان وإقناعه بقبول نتيجة التصويت.

لكن هذا لا يعني خروج المؤسسة العسكرية الباكستانية بشكل كامل من المعادلة السياسية؛ إذ سيظل للمؤسسة دورين رئيسيين:

أولهما، محاولة فرض حالة من التوازن في السياسة الخارجية الباكستانية من خلال توصيل رسائل محددة بهذا الشأن، وهو ما قامت به بالفعل خلال الأزمة الأخيرة، عندما أعلن قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا، في "مؤتمر الحوار الأمني" في إسلام آباد في 2 أبريل (2022) أنّ بلاده تسعى لتوسيع علاقاتها مع واشنطن، قائلاً: "نشترك في تاريخ طويل من العلاقات الممتازة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة التي تظل أكبر سوق تصدير لنا". وأشار في الوقت نفسه إلى العلاقات الدبلوماسية والتجارية الوثيقة مع الصين باعتبارها "الحليف القديم لباكستان"، مؤكداً: "نسعى لتوسيع علاقاتنا مع كلا البلدين دون التأثير على علاقتنا مع الآخر". وفي الاتجاه ذاته، أكد أنّ بلاده "تتمتع أيضاً بعلاقات طويلة الأمد مع روسيا، لكن "على الرغم من المخاوف المشروعة لدى روسيا، لا يمكن قبول عمليتها العسكرية"، التي وصفها بأنها "مأساة كبرى".

وثانيهما، أن العلاقة القوية/ الإيجابية بين الحكومة والمؤسسة العسكرية تمثل أحد شروط استقرار الحكومة. وبالتطبيق على الأزمة الأخيرة، لا شك أن تدهور علاقة عمران خان مع المؤسسة العسكرية، لأسباب عديدة، كان عاملاً محفزاً للانشقاقات التي حدثت داخل ائتلافه الحاكم، وصولاً إلى نجاح المعارضة في تمرير مشروع قرار حجب الثقة. وعلى العكس، إذا افترضنا استمرار العلاقة القوية بين خان والمؤسسة العسكرية، ربما كانت عملية إزاحة حكومة خان أصعب بكثير.

هل انتهت الأزمة السياسية في باكستان؟

رغم نجاح المعارضة في إزاحة حكومة خان لكن هذا لا يعني انتهاء الأزمة بشكل كامل، فقد دشن ذلك -في الأغلب- لفصل آخر من الصراع السياسي، وهو ما عكسه قرار حزب "حركة الإنصاف" الاستقالة الجماعية من الجمعية الوطنية، الأمر الذي يشير إلى عدم استعداد حزب عمران خان للتعاون السياسي والبرلماني مع الائتلاف الحاكم الجديد بقيادة شهباز شريف. كما يشير من ناحية أخرى إلى محاولة وضع هذا الائتلاف أمام مأزق العمل المنفرد داخل البرلمان، ودفع الأمور في اتجاه إجراء انتخابات مبكرة قبل أغسطس 2023، وهي الخطوة التي كان يخطط لها خان في بداية الأزمة، ولم يعارضها حزب الرابطة الإسلامية من حيث المبدأ، لكنه أراد ذهاب عمران خان إلى هذه الانتخابات وهو في وضع المهزوم.

من ناحية أخرى، فإن كتلة المعارضة الجديدة بقيادة شهباز شريف لا تتسم بالتماسك، إذ تضم تيارات غير متجانسة، يغلب على علاقاتها التاريخية التنافس والصراع، خاصة الحزبين التقليديين: "الرابطة الإسلامية-جناح نواز"، و"الشعب" بقيادة بيلاوال بوتو زرداري. ولا تمثل لحظة التوافق الراهنة سوى لحظة مؤقتة، اجتمعت فيها هذه القوى على هدف محدد هو إسقاط حكومة خان. وبالتأكيد فإن المكونين الرئيسيين في المعارضة؛ حزب الرابطة الإسلامية وحزب الشعب، يطمح كل منهما في العودة إلى حكم باكستان بأغلبية منفردة أو بالتعاون مع بعض الأحزاب الصغيرة. بمعنى آخر، فإن كلاهما يطمح في إعادة باكستان إلى مرحلة الحزبين الرئيسيين التقليديين، والتي تناوب فيها الحزبان على حكم باكستان لفترة طويلة، منذ الاستقلال وحتى ظهور حزب عمران خان في عام 1996، ونجاحه في تشكيل الحكومة في عام 2018. ومن الإشارات المهمة ذات الدلالة هنا تصريح بيلاوال زرداري عقب إزاحة عمران خان "أهلاً بباكستان القديمة"، في إشارة ضمنية إلى مرحلة ما قبل ظهور عمران خان وتصاعد حزبه "حركة الإنصاف"، وفشل خان في تحويل شعاره "بناء باكستان جديدة" إلى أمر واقع.[6]

وليس من المتوقع أيضاً أن تنجح حكومة شهباز، خلال الفترة القصيرة من الآن وحتى إجراء الانتخابات القادمة، سواء في أغسطس ٢٠٢٣ أو قبل ذلك، في تحقيق نجاحات ملحوظة على صعيد المشكلات الاقتصادية العديدة الموروثة عن حكومة خان. فإذا كان تواضع الأداء الاقتصادي لحكومة خان، هو الدافع الرئيسي وراء تحرك المعارضة ضدها وإزاحتها من خلال حجب الثقة عنها، فإن الائتلاف الحاكم الجديد سيواجه التحدي نفسه في الانتخابات القادمة، وستعتمد حكومة شهباز على السياسات الاقتصادية نفسها التي طبقتها حكومة خان، الأمر الذي سيضعف من فرص التمييز بين خطابي الحكومة والمعارضة بهذا الشأن.

ختاماً، يمكن القول إنه رغم أن الأزمة السياسية الأخيرة في باكستان، والتي انتهت بنجاح المعارضة السياسية بإزاحة حكومة خان المنتخبة في أغسطس ٢٠١٨، تمثل جزءاً من ظاهرة تاريخية في باكستان، وهي عدم قدرة أي حكومة باكستانية على إكمال مدتها الدستورية، لكنها في الوقت نفسه كرست ظاهرتين مهمتين، هما تمسك الجيش الباكستاني ببقائه خارج الحكم المباشر، دون أن ينفي ذلك دوره المهم داخل المشهد السياسي، واستقرار دور المحكمة العليا كساحة لإدارة وحسم الصراعات السياسية، وهو دور من المرشح أن يستقر ويتزايد للأسباب السابق الإشارة إليها.

وفي جميع الحالات، فإن الانتخابات القادمة ستشهد صراعاً كبيراً قد يمهد لعودة الأحزاب السياسية التقليدية مرة أخرى إلى حكم باكستان. وقد يحدث توافق مرحلي فيما بينها، وهو توافق سيكون مدفوعاً بالسعي إلى إزاحة حزب حركة الإنصاف من المشهد السياسي، بعد أن بات يمثل تهديداً للأحزاب التقليدية. وسيظل التوافق مع المؤسسة العسكرية محدداً رئيسياً للتوازنات السياسية، وفرص الاستقرار الحكومي.


[1] Shuja Nawaz, “Back to the future in Pakistan?”, Atlantic Council, April 14, 2022. Available at: Top of FormBottom of Form https://www.atlanticcouncil.org/blogs/southasiasource/back-to-the-future-in-pakistan/

[2] انظر نص حكم المحكمة العليا في باكستان:

“Pakistan Supreme Court order”, 7 April, 2022. Available at:

https://www.scribd.com/document/568488818/Pakistan-Supreme-Court-order-7-April-2022#from_embed

[3] تقول المادة الخامسة من الدستور:

"5- الولاء للدولة وطاعة الدستور والقانون.

1- الولاء للدولة واجب أساسي على كل مواطن.

2- طاعة الدستور والقانون التزام مصون على كل مواطن أينما كان، وعلى كل شخص آخر طيلة وجوده في باكستان.

وتقول المادة السادسة:

"6- الخيانة العظمى

1- أي شخص يُلغي هذا الدستور أو ينقلب عليه أو يعطِّله أو يوقف العمل به، أو يشرع في ذلك أو يتآمر من أجله، باستخدام القوة أو بالتهديد بها، أو بأي وسيلة غير دستورية أخرى، يُدان بتهمة الخيانة العظمى.

2- أي شخص يساعد في القيام بالأعمال المذكورة في البند (1)، أو يحرِّض عليها أو يتعاون في تحقيقها يُدان كذلك بتهمة الخيانة العظمى.

2أ- لا يجوز لأي محكمة، بما في ذلك المحاكم الإقليمية العليا والمحكمة العليا الاتحادية، أن تُضفي الشرعية على أي من أعمال الخيانة العظمى المنصوص عليها في البند (١) أو البند (2).

3- يقرر مجلس الشورى (البرلمان)، بموجب قانون، عقوبة المدانين بتهمة الخيانة العظمى.

للاطلاع على الدستور الباكستاني، انظر الرابط التالي:

https://www.constituteproject.org/constitution/Pakistan_2015?lang=ar

[4] تقول المادة 58 من الدستور الباكستاني:

"58- حل المجلس الوطني:

1- يصدر رئيس الجمهورية قراره بحل المجلس الوطني إذا أشار عليه رئيس الوزراء بذلك؛ ويُعد المجلس الوطني منحلاً من تلقاء نفسه بعد مرور ثمانية وأربعين ساعة على تقدُّم رئيس الوزراء بتلك المشورة، إن لم يصدر القرار بحله قبل ذلك.

توضيح: لا يُفسَّر تعبير رئيس الوزراء في هذه المادة على أنَّه يشمل: أي رئيس وزراء قُدِّم مقترح بالتصويت بسحب الثقة منه في المجلس الوطني، ولم يكن المجلس قد صوَّت عليه بعد أو كان قد صوَّت بسحب الثقة، وكذلك أي رئيس وزراء يقوم بأعمال منصبه بعد استقالته أو بعد حل المجلس الوطني.

2- بصرف النظر عن أحكام البند (2) من المادة 48، لرئيس الجمهورية كذلك أن يُقرر حل المجلس الوطني بسلطته التقديرية، إذا وافقت أغلبية أعضاء المجلس على التصويت بسحب الثقة من رئيس الوزراء، ولم يحصل أي عضو آخر على ثقة أغلبية أعضاء المجلس لتشكيل حكومة جديدة، وفقًا لأحكام الدستور، بعد التأكد من ذلك في جلسة يعقدها المجلس الوطني لهذا الغرض".

المرجع السابق.

[5] “Imran Khan threatened to impose martial law, documents suggest”, The Guardian, April 10, 2022. Available at: https://www.theguardian.com/world/2022/apr/10/imran-khan-threatened-to-impose-martial-law-documents-suggests-pakistan-elections-army

[6] “Welcome to ‘Old Pakistan’: Bilawal”, Daily Times, 10 April 2022. Available at: https://dailytimes.com.pk/916705/welcome-to-old-pakistan-bilawal/



رابط دائم: