كتلة دولية تنتصر لقواعد النظام العالمى
2022-4-13

د. محمد فايز فرحات
* مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تمثل دراسة اتجاهات التصويت داخل المؤسسات الدولية مدخلا مهما لفهم حالة التوافق داخل النظام العالمى فى لحظة محددة بشأن قضية ما. كما تشكل متابعة هذه الاتجاهات على مدى زمنى كاف مدخلا لفهم طبيعة التوجهات والانحيازات الخارجية للفاعلين الدوليين. وتزداد أهمية دراسة تلك الاتجاهات فى حالة القضايا الخلافية داخل النظام العالمى، وفى مراحل انتقال هذا النظام.

الأسابيع الأخيرة شهدت مناسبتين مهمتين للوصول إلى بعض الاستنتاجات ذات الدلالة، استنادا إلى اتجاهات التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، التى تمثل الساحة الدولية الأهم للتعبير عن المواقف الدولية استنادا إلى مبدأى السيادة والمساواة. المناسبة الأولى، هى التصويت على مشروع قرار إدانة العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا (العدوان على أوكرانيا كما جاء فى مشروع القرار)، والذى انتهى بتمرير القرارفى الثانى من شهر مارس الماضى، بأغلبية 141دولة، مقابل رفض خمس دول (روسيا، بيلاروس، سوريا، إريتريا، كوريا الشمالية)، وامتناع 35 دولة. المناسبة الثانية، هى التصويت على مشروع قرار تجميد عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فى السابع من شهر أبريل الحالى. ورغم تمرير القرار بأغلبية 93 دولة، لكن، الملاحظ هو ارتفاع عدد الدول غير المؤيدة لمشروع القرار، سواء فى شكل رفض مشروع القرار (24 دولة)، أو الامتناع عن التصويت (58دولة)، ما يعكس وجود حالة من شبه الانقسام داخل المجتمع الدولى بشأنه (93، مقابل 82).

التصويت فى الحالتين يشير بشكل واضح إلى وجود كتلة دولية حرصت على إرسال رسائل محددة فى هذه اللحظة المهمة فى تطور النظام العالمى. فى التصويت الأول،كانت الرسالة هى الانحياز الواضح لاحترام مبدأى السيادة، وعدم استخدام القوة فى تسوية النزاعات الدولية، وغيرها من المبادئ المنصوص عليها فى ميثاق الأمم المتحدة. وفى التصويت الثانى كانت الرسالة هى خطورة عدم التمييز بين نقد سلوكيات الفاعلين الدوليين (استنادا إلى القواعد الدولية المُنَظِمة لهذه السلوكيات والمُؤَسِسة لمشروعيتها من عدمه)من ناحية، وهدم المؤسسية الدولية القائمة، من ناحية أخرى. المؤسسات الدولية، بجانب الأعراف والقواعد القانونية الدولية المستقرة، تمثل المحكومية governance القائمة فى النظام العالمى.

هذه الرسائل المهمة جاءت من فئتين داخل المجتمع الدولي؛ الأولى تشمل الدول التى لا تمتلك علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة لأسباب مختلفة؛ مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية وسوريا وإيران، والدول الأطراف المباشرة فى الأزمة الروسية - الأوكرانية (روسيا، وبيلاروس)، بالإضافة إلى دول آسيا الوسطى (كازاخستان، قيرغيزستان، طاجكستان، أوزبكستان) والتى حكم مواقفها اعتبارات تتعلق - ربما - بعلاقاتها مع كل من روسيا والصين. هذه الفئة رفضت مشروع قرار تجميد عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان، بينما تراوحت مواقفها من مشروع إدانة العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا بين الرفض أوالامتناع عن التصويت.

الفئة الثانية، هى مجموعة الدول التى صوتت بالامتناع عن التصويت على مشروع قرار تجميد عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان. والملاحظة المهمة التى يجب الانتباه إليها هنا أن نسبة مهمة من هذه الدول تنتمى إلى ما يُعرف بالقوى الوسطى داخل النظام العالمى، وأبرزها مصر، والهند، والبرازيل، وإندونيسيا، وماليزيا، والمكسيك، وسنغافورة، وجنوب أفريقيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وتايلاند. وقد صوتت هذه الفئة لمصلحة مشروع قرار إدانة العملية العسكرية الروسية، باستثناء الهند وجنوب أفريقيا اللتين امتنعتا عن التصويت.موقف هذه الفئة الدولية ربما يكون هو الأهم داخل النظام العالمى فى هذه اللحظة المهمة؛فهى الفئة التى لا تميل إلى اتخاذ مواقف حدية بشأن القضايا الدولية الخلافية، وذلك لاعتبارات تتعلق بموقع هذه الدول داخل النظام العالمي؛ إذ تتسم علاقاتها بالتنوع الشديد مع مختلف القوى الدولية الرئيسية، وتسعى دائما إلىالوصول إلى حالة من توازن المصالح. بمعنى آخر، فإن الامتناع عن التصويت فى حالة مشروع قرار تجميد عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان لا يعنى عدم قدرة هذه الدول على اتخاذ مواقف صريحة، بقدر ما يعبر عن موقع هذه الفئة الدولية داخل النظام العالمى، ونمط علاقاتها بالقوى الكبرى، وحرصها على حماية القواعد المعيارية rules &norms داخل النظام العالمى.

أهمية أنماط التصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى هاتين المناسبتين المهمتين، أنها كشفت عن تبلور تيار دولى عبر بشكل صريح عن الانتصار للمبادئ والقواعد الدولية التقليدية الحاكمة للنظام الدولى منذ تأسيس هذا النظام عقب الحرب العالمية الثانية. ويأتى فى هذا السياق أهمية التفسيرات والشروحات التى قدمتها هذه الدول لمواقفها التصويتية. من ذلك -على سبيل المثال- الشرح المهم الذى قدمته مصرلامتناعهاعن التصويت على مشروع قرار تجميد عضوية روسيا فى مجلس حقوق الإنسان، والذى جاء ليعبر بمثالية عن هذا التيار الدولى المهم، وعن الانحياز الواضح لقواعد المحكومية الدولية، وذلك رغم المواقف السلبية العديدة وغير الموضوعية التى اتخذها المجلس نفسه ضد مصر وغيرها من الدول. لكن هذه المواقف السلبية لم تمنع مصر من الانتصار لمبدأ مهم فى النظام العالمى وهو ضرورة حماية المؤسسية الدولية وعدم تسييسها. الأمر ذاته، ينسحب على موقف دولة مثل الصين التى تربطها علاقات سلبية مع المنظومة الغربية بشكل عام، بما فيها تعريف حقوق الإنسان والسياسات الغربية فى هذا المجال، لكن ذلك لم يحل أيضا دون انتصارها للمبدأ ذاته.

الحفاظ على هذا التيار الدولى المهم يحتاج إلى أطر تضمن له مزيدا من التماسك و”مأسسة” مواقفه. الأزمة الراهنة كشفت فقط عن وجود هذا التيار، لكنها لن تكون الأخيرة، ما سيفرض تحديات متتالية على هذا التيار، وربما تكون أكثر تعقيدا.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 13 أبريل 2022.

 


رابط دائم: