قراءة في نتائج الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية
2022-4-11

د. توفيق أكليمندوس
* مدير وحدة الدراسات الأوروبية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

 

وُفِّقت معاهد ومراكز قياس الرأى في تحديد من سيتصدر الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسي، التي أجريت في 10 أبريل الجاري (2022)، ولكنها لم توفق في تحديد نسبة التصويت لصالحهم. وبمعنى أدق، لعبت تنبؤاتها دوراً هاماً في اختيارات الناخبين، وهو دور أضر بفرص ونتائج المرشحين الذين احتلوا المراكز التي تلت أول ثلاثة.

تصدر الرئيس ايمانويل ماكرون (حوالي 27٪) الجول، وجاءت مارين لوبن (يمين متطرف) في المركز الثاني مسجلة أكثر من 23٪، وتأهلا للجولة الثانية الحاسمة٬ وجاء مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون في المركز الثالث وحصل تقريباً على 22٪ من الأصوات. وتشترك نتائج هذا الثلاثي في كونها أعلى بوضوح مما كان متوقعاً.

هذا الفارق تفسيره واحد في كل الأحوال٬ فقد اطلع الفرنسيون على استطلاعات الرأى، والكثيرون غيروا حساباتهم بعد ما قرأوها، فمن كان ينوي انتخاب مرشح غير ثلاثي المقدمة في الجولة الأولى ثم ينتخب أحدهم في الجولة الثانية فضل انتخاب المرشح الأوفر حظاً منذ الجولة الأولى ليضمن وصوله إلى الجولة الثانية. والكثيرون ممن كانوا ينوون انتخاب فاليري بيكريس جمهوريون غيروا رأيهم وانتخبوا ماكرون بعد أن قرأوا استطلاعات تفيد صعود لوبن وميلانشون. والكثيرون ممن كانوا ينوون انتخاب الخضر والشيوعيين انتخبوا ميلانشون٬ محاولة منهم لضمان وجود يساري في الجولة الثانية، فيما خاف ناخبون فكروا في انتخاب ايريك زيمور من صعود ميلانشون فانتخبوا لوبن. ومما يؤكد صحة تحليلنا عدد الناخبين الذين يقولون أنهم حسموا قرارهم آخر يوم. وعلى أى حال، هذا المسلك الجماعي أدى إلى ارتفاع نتائج الثلاثي وانهيار نسبة التصويت لباقي المرشحين.

ولهذا الانهيار تبعات مالية جسيمة٬ فالقانون الفرنسي ينص على تمويل الدولة لنفقات حملات المرشحين شريطة أن يحصلوا على نسبة من التصويت لا تقل عن 5٪، وهذا يعني أن الحزب الجمهوري (حزب ديجول وشيراك وساركوزي) والحزب الاشتراكي (حزب ميتران وهولاند) وحزب الخضر والحزب الشيوعي يواجهون مأزقاً حرجا، وقد استغاثت مرشحة الحزب الجمهوري بيكريس مطالبة أعضاء الحزب وفاعلي الخير بمساعدتها هى والحزب، فهى مدينة شخصياً بمبلغ خمسة ملايين يورو.

وقد جاء زيمور مرشح اليمين المتطرف في المركز الرابع وحصل على أكثر من 7٪ بقليل. أما باقي المرشحين فكلهم فشلوا في الحصول على 5٪، وبعض هذا الفشل كان متوقعاً فيما البعض الآخر (الجمهوري والخضر) شكل مفاجأة مهولة.

بهذه النتيجة، واصل الحزبان اللذان حكما فرنسا طوال فترة الجمهورية الخامسة انهيارهما الذي بدأ في انتخابات سنة 2017. ففي انتخابات 2012، حصلا معاً على 56٪ من الأصوات في الجولة الأولى. وفي انتخابات 2017، حصلا معاً على 26٪ مع انهيار الحزب الاشتراكي الذي حصل على 6٪. وفي انتخابات 2022، حصلا معاً على 6.5%.

نتيجة الحزب الاشتراكي في هذه الانتخابات معناها أن مرشحي ثلاثة أحزاب يسارية -اثنان منها صغيرة- سبقوا المرشحة الاشتراكية في الانتخابات الرئاسية، وهم ميلانشون (فرنسا التي لا تخضع)، ويانيك جادو (الخضر)، وفابيان روسيل (الشيوعيون، ومما يفاقم من المشكلة أن نتيجة الحزب لم تتأثر بظاهرة تغيير الناخبين لقرارهم، حيث كانت المرشحة في القاع منذ بداية الحملة.

لا نستطيع أن نحدد إن كان هذا الانهيار حتمياً وسببه تطور المجتمع الفرنسي وتشرذمه، أم مؤقتاً وناتجاً عن أخطاء يمكن معالجتها، لكن ما يمكن قوله أن المتصدرين للمشهد الفرنسي– ماكرون ولوبن وميلانشون وبدرجة أقل زيمور وحصلوا معاً على 81٪ من أصوات الناخبين– هم شخصيات قوية قامت بتأسيس حزب يعتبر أداة طيعة في أيديهم، وأن هذا الوضع يتفق وروح دستور ينص على انتخاب رئيس دولة يتمتع بسلطات واسعة جداً بالاقتراع الشعبي المباشر، أى أن المشرع الدستوري –ديغول ورجاله– تصور انتخابات تكون لقاء وبناء ثقة بين الشعب وأفراد مرشحين (وليس بين الشعب وممثلي أحزاب). وفي الواقع الذي أسسه الدستور كانت وظيفة الأحزاب الرئيسية إفراز شخصيات قوية تمتلك مشروعاً وتستطيع أن ترشح نفسها أمام الشعب ولم تعد الأحزاب القديمة التقليدية قادرة على هذا، وهى الآن شبكات أعيان لهم حضور مناطقي قوي. وإحدى مفارقات المشهد الفرنسي أن الأحزاب التقليدية لها وجود مناطقي قوي، على عكس أحزاب الشخصيات التي تنافس بجدية على الرئاسة التي تجد صعوبة في التجذر في الأقاليم. ولهذا يحاول ماكرون استقطاب أعيان محسوبين على الحزبين الجمهوري والاشتراكي ليسد هذا النقص ويُحيِّد نهائياً هذه الأحزاب.

الفئات الخمس

أياً كان الأمر، فإن الخريطة الانتخابية الفرنسية مكونة من خمس فئات:

1- الممتنعون عن التصويت، وهم 26٪ من المسجلين على القوائم. وجاري تحديد "بروفايل" هؤلاء. وما يمكن قوله أن الشباب والفقراء هم الذين مالوا إلى الامتناع في الانتخابات السابقة، وأنهم عامة ينتخبون مارين لوبن وميلانشون، وأنهم لم يذهبوا إلى الصناديق يأساً من إمكانية التغيير.

2- ناخبو ماكرون، وهؤلاء 27 أو 28٪ من الذين أدلوا بأصواتهم٬ أى تقريباً 20٪ من المقيدين على الجداول، وهم بصفة عامة أبناء المدن المنفتحة على العالم والمستفيدة من العولمة، من ذوي الدخول المرتفعة والمؤهلات العليا المعترف بها دولياً والثقافة، وانضم إليهم عدد هام من المسنين (فوق 65 سنة) الخائفين على مدخراتهم، والملاحظ أن ما بين ثلثي وثلاثة أرباع هذه الكتلة ينتخبون ماكرون لأنه "أخف الأضرار" ولا يحبونه.

3- ناخبو لوبن، وهؤلاء 23٪ من الذين أدلوا بأصواتهم، و17٪ ونيف من المقيدين على الجداول، وهم أبناء مدن تضررت من العولمة أو الريف، ومؤهلاتهم متوسطة أو أقل، ونسبة العمال في هذه الكتلة مرتفعة، ودخلهم متواضع، وهناك مسنون فقراء أو متوسطو الحال مستاؤون من التغيرات التي طرأت على المجتمع الفرنسي.

4- ناخبو ميلانشون، وهم 22٪ من الذين أدلوا بأصواتهم، و16٪ من مجموع المقيدين، وهذه الكتلة أقل الكتل تجانساً، ففيها فئات تعيش في المدن الكبيرة الغنية من حملة المؤهلات الميسورين الذين لا يحبون ماكرون٬ ويحسبون أنفسهم على اليسار٬ وفيهم فقراء من حاملي المؤهلات٬ وعدد كبير من المسلمين، إلخ. و40٪ منهم قرر ينتخب ميلانشون قبل 24 ساعة أو أقل من الاقتراع.

 5- ناخبو المرشحين الآخرين، وهم ليسوا كتلة بمعنى الكلمة، فمشاربهم وتوجهاتهم ووضعهم الاجتماعي مختلف.

يلاحظ أن مرشحي يمين اليمين أو اليمين المتطرف (لوبن، زيمور، دوبون إينيان) حصلوا معاً على ثلث أصوات الناخبين، وأن مرشحي يسار اليسار (ميلانشون، روسيل، بوتو، أرتو) حصلوا على 25٪ / 26٪ من الأصوات، وباختصار حصل المرشحون المعادون للعقد الاجتماعي والسياسي الحالي على أكثر من 57٪ من أصوات الناخبين.

في حين أن المرشحين القابلين له صراحة أو ضمناً (ماكرون، جادو، بيكريس، لاسال، هيدالجو) حصلوا على أقل من 43٪، ويفسر هذا عدم استقرار الحياة السياسية الفرنسية، فأنصار العقد الاجتماعي يحكمون لأن مذاهب ومشارب الرافضين له مختلفة ومتناقضة.

ويرى الزميل الباحث الفرنسي دومينيك رينيه إنه يمكن اعتبار الممتنعين عن التصويت من أعداء العقد السياسي والاجتماعي الحالي، ومعهم ترتفع نسبة الرافضين له لتتجاوز ثلثى المقيدين على الجداول.

وأياً كان الأمر، فإن الجولة الثانية ستشهد صداماً بين مرشحين تتناقض تصوراتهما ومشروعاتهما ورؤيتهما لفرنسا وجمهورهما تناقضاً يكاد يكون كاملاً. فماكرون جمهوره الفئات الرابحة من العولمة والتي تكيفت معها، وهو ليبرالي يؤمن بالمشروع الأوروبي وبفرنسا حديثة توفر لنفسها ما يسمح بالانخراط في العولمة، ويركز على زيادة الثروات وتعظيم دور الفرد وتشجيع مجتمع الأعمال، ويتصور أن مشروعه ضروري لفرنسا ويجب تمريره رغم اعتراض قطاعات كبيرة جداً، أى مشروع يفترض ويقتضي سلطوية لا تعترف بكونها كذلك. في حين أن مارين لوبن جمهورها من تضرر من العولمة ومتوجس منها ويراها تهدد وظيفته ونمط حياته، وهى متمسكة بسيادة الدولة واستقلالها الاقتصادي تمسكاً يقتضي التوجس من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتخشى على القرار الفرنسي من تأثير الكيانات إياها، وعلى الثقافة الفرنسية من تأثير المهاجرين لا سيما المسلمين منهم، وتعادي العولمة الاقتصادية ونخبها، وكانت شديدة الإعجاب بالرئيس الروسي فيلاديمير بوتين.

لم يكن لهذا التناقض أثر كبير على مجريات الأمور أثناء الحملة التي سبقت الجولة الأولى، ذلك لأن قِصر مدة الحملة وتأخر دخول الرئيس الحلبة ونوعية المنافسين والأحداث العالمية، لا سيما حرب أوكرانيا، منعت سجالاً حول عدد من الموضوعات وفرضت غيرها. وتفصيل هذا أن زيمور أعلن عن ترشيحه في سبتمبر وكان مشروعه هوياتي معادي للإسلام والأجانب والاتحاد الأوروبي والناتو، ويركز على ضرورة استرداد قوة وهيبة الدولة والدفاع عن الثقافة الفرنسية الأصيلة، وراهن أساساً على اقتناع ناخبي مارين لوبن وغيرهم بعدم كفاءتها بعد مناظرتها مع ماكرون سنة 2017. واختارت لوبن عدم المزايدة عليه في العنصرية والتعصب الديني، وتركت له هذا الخطاب٬ وركزت حملتها على ضرورة حماية القوة الشرائية للفقراء ومتوسطي الدخل، وفجأة خدمها الحظ وأصبحت تلك القضية الأهم بعد غزو أوكرانيا، وكانت هى الوحيدة التي ركزت عليها منذ سبتمبر ولها برنامج للتصدي لها. وأصبحت القضية أهم قضية تشغل بال الفقراء وأبناء الطبقات المتوسطة الفقيرة والميسورة يليها الأمن والهجرة. كما حرصت على بناء صورة لها تناقض صورة ماكرون، متواضعة تزور الناس هادئة مبتسمة لا تسحق الغير بكم من الأرقام والبيانات والمعارف، تعرف مشاكل الفرنسيين وتعاني معهم وليست في برج عاجي.

مرحلة جديدة

علينا أن ندرك أن المرحلة التي بدأت مساء الأحد مع إعلان نتائج الجولة الأولى هى مرحلة جديدة تماما٬ً مستقلة عما سبق، فهى صراع بين اثنين لا ثالث لهما. لوبن ستسعى إلى إقناع الناس بمصداقيتها، وستركز على كراهية أغلب الجمهور لشخص ماكرون وعجرفته وحدة تصريحاته وبعده الاستعلائي عن الجماهير. والأخير مُخيَّر بين استراتيجية تركز على كشفها كيمينية متطرفة لم تخفف من تطرف أفكارها بل أخفتها في ثنايا برنامجها، فمثلاً تقول الآن أنها ستبقى في الاتحاد الأوروبي، ولكن الإجراءات والتدابير التي أعلنت عنها ستؤدي إلى صدام مع باقي دول الاتحاد صداماً قد يؤدي إلى خروج فرنسا، وبين استراتيجية تركز على عدم واقعية برنامجها الاقتصادي والاجتماعي وكلفته.

الاستطلاعات الأوّلية تشير إلى تقدم طفيف للرئيس ماكرون وهو تقدم زاد قليلاً بين مساء الأحد ومساء الإثنين، والمشكلة الرئيسية هى طبعاً أين تذهب أصوات من أعطوا صوتهم لمن لم يصل إلى الجولة الثانية. نظرياً قال ميلانشون وجادو وبيكريس وروسيل وهيدالجو إنه يجب الامتناع عن التصويت للوبن، وبعضهم أضاف: "ويجب التصويت لماكرون" في حين لم يفعلها البعض الثاني وعلى رأسهم ميلانشون، أى نظرياً خيَّروا ناخبيهم بين الامتناع والتصويت لماكرون. وهناك من دعا ناخبيه إلى دعم لوبن، على غرار زيمور ودوبون إينيان.

وعلى أى حال، لا يوجد ما يدل على التزام الناخبين بتوصيات/أوامر القادة، فناخبو ميلانشون مثلا، 36٪ منهم سيمتنع و34٪ منهم سينتخب ماكرون و30٪ سينتخب لوبن. ويمكن تفسير موقف الفئة الأخيرة بالرغبة العارمة في قلب المائدة مهما كان الثمن. وعلى العموم، فإن مفتاح الجولة الثانية في يد ناخبي ميلانشون والممتنعين وقراراتهم. وسيتوقف الكثير على المناظرة التي تنظم تقليدياً بين المرشحين، ففي سنة 2017، اكتسح ماكرون لوبن، ومعنى هذا أن أى نتيجة مختلفة –بما فيها تفوق ماكرون دون اكتساح– ستكون انتصاراً للوبن.

أخيراً وليس آخراً٬ لن تكون الجولة الثانية من الانتخابات نهاية المشوار، فبعدها وبعد انتخاب الرئيس ستجري انتخابات تشريعية، والفرنسيون عامة يميلون إلى إعطاء الرئيس أغلبية تؤيده، فهم سئموا ضعف الدولة والانقسامات المعطلة، ولكن هذه الحالة قد تكون مختلفة، فالمرشحان مكروهان من قطاعات واسعة، ويمثل كل منهما تصوراً للهوية والدور الفرنسيين مناقضاً لتصور الآخر، والخلافات بينهما وجودية حول مصير فرنسا ومصير العقد السياسي والاجتماعي الحالي، وبالتالي سيحاول الطرف الذي خسر معركة الرئاسة منع الطرف الفائز من دعم فوزه بأغلبية في مجلس الأمة.

وحتى في حالة فوز ماكرون بالرئاسة وبأغلبية مريحة في البرلمان، ستكون البلاد غير مستقرة ومرشحة لاضطرابات عنيفة، خاصة أن الاستحقاقات كثيرة –تمويل الدفاع والأمن والتحول إلى الاقتصاد البيئي وخدمة الديون وفواتير الطاقة والسلع الغذائية وسياسات الصحة وإعادة التصنيع– والرئيس، أياً كان، سيكون مكروهاً منذ أول يوم من نصف فرنسا على الأقل كراهية تراكمت على مر السنين.

 


رابط دائم: