تسليح الطاقة الروسية والتصدير مقابل الروبل
2022-3-29

حسين سليمان
* باحث اقتصادي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في جولة جديدة من التصعيد المتبادل والمستمر بين روسيا والغرب، بفرض العقوبات الاقتصادية والإجراءات المضادة، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل شهر تقريباً، أعلن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين قبل أيام، عن نية بلاده تصدير الغاز الطبيعي، إلى البلدان "غير الصديقة" على حد تعبيره –المُتضَمنة في قائمة رسمية من 48 بلداً[1]– نظير العملة الروسية الروبل، وعدم قبول العملات الغربية، الدولار الأمريكي واليورو، في هذه المعاملات، مع إشارة بتطبيق هذا الاشتراط الجديد خلال أيام قليلة.

أثار هذا الإعلان اضطرابات في سوق الطاقة العالمية، ولدى البلدان الأوروبية التي يستهدفها القرار بالأساس، والمعتمدة بدرجة كبيرة على الورادات من الطاقة الروسية، وهي البلدان التي تجنبت إلى حد كبير، حتى هذه المرحلة، إدراج قطاع الطاقة الروسي ضمن القطاعات المستهدفة بالعقوبات الاقتصادية على روسيا، حتى لا تتأثر اقتصاداتها في المقام الأول، وهو ما ردت عليه روسيا في المقابل خلال الأسابيع المنصرمة، بتجنب تسليح صادراتها من الطاقة، أي استخدامها كسلاح في الرد على العقوبات الأوروبية. وكانت الولايات المتحدة على النقيض قد استهدفت قطاع الطاقة الروسي بعقوبات، من خلال إعلان مقاطعتها صادرات الطاقة الروسية، وذلك بالأساس بسبب الثقل المحدود للطاقة الروسية في هيكل واردات الطاقة الأمريكية من ناحية، ومجمل استهلاكها المحلي من الطاقة من أخرى، لذا فقد مثل هذا القرار خطوة رمزية، لم تؤثر على الاقتصادين الأمريكي أو الروسي بصورة حقيقية.

دوافع القرار الروسي

يمثل القرار الروسي بتصدير الطاقة إلى أوروبا نظير العملة الروسية الروبل، تصعيداً هو الأخطر من جانب روسيا منذ بدء الحرب، وبداية حقيقية لاستخدام صادراتها من الطاقة إلى أوروبا كأداة للرد على العقوبات الاقتصادية الغربية، وهو ما أعلنت روسيا مراراً خلال الأسابيع الماضية نيتها عدم اللجوء إليه. وفي حين قد تعد هذه خطوة مفاجئة، إلا أن متابعة العقوبات الغربية عن كثب، والتي تعمدت إلحاق أقصى ضرر ممكن بالاقتصاد الروسي من اليوم الأول، كانت تشي بحتمية لجوء روسيا في نهاية المطاف إلى استخدام سلاحها الاقتصادي الأهم، صادرات الطاقة، للرد على العقوبات الغربية من ناحية، ولتخفيف الضرر عن الاقتصاد الروسي من ناحية أخرى.

فمن خلال جهود عزل الاقتصاد الروسي عن العالم وتحجيم تجارته الخارجية عبر تعطيل المعاملات المالية، واستبعاد أغلب البنوك الروسية من منظومة سويفت، علاوة على تجميد جزء كبير من الاحتياطيات الأجنبية الروسية في الخارج، باتت تدفقات الإيرادات الروسية من النقد الأجنبي، اليورو والدولار الأمريكي، نظير صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، مجمدة أو شبه مجمدة، وبالتالي لم يكن منطقياً أن تستمر روسيا في تصدير الطاقة إلى أوروبا، مقابل إيرادات أجنبية مُعطلة وذات فائدة محدودة في أغراض التجارة الخارجية، ومُعرضة باستمرار للمزيد من العقوبات الغربية، كما أشارت تحليلات سابقة في وقت مبكر من العقوبات،[2] وهو ما مهد إلى رد روسي بوقف إمدادات الطاقة، أو اشتراط تحصيل إيراداتها بعملات أخرى، كما تم الإعلان مؤخراً.

وبالتالي، فإن الرد الروسي الأخير من منظور الخيارات الروسية المتاحة، وحِدة العقوبات الغربية، يعد بدوره استخداماً مخففاً لصادرات الطاقة في التصعيد المتبادل، كخطوة بديلة، أو تحذيرية، تشي بقرب اللجوء إلى تقليص أو وقف صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا، وهو ما من شأنه أن يدفع بالاقتصاد الأوروبي إلى أزمة ركود تضخمي حادة، بسبب نقص البدائل في سوق الطاقة العالمية.

وعلاوة على دور القرار كأداة في التصعيد الاقتصادي المتبادل بين روسيا والغرب، يهدف القرار أيضاً إلى تخفيف أضرار العقوبات الاقتصادية الغربية على الاقتصاد الروسي، من خلال زيادة قيمة الروبل الروسي في مقابل العملات الأجنبية، عبر زيادة الطلب عليه، للتخفيف من التراجع الذي حل به منذ تطبيق العقوبات الغربية. وكان سعر الروبل قد تراجع بأكثر من 40% مقابل الدولار منذ بدء الحرب، وحتى أدنى مستوياته قبل أيام من صدور القرار الروسي الأخير، قبل أن يتحسن سعره تدريجياً بعد القرار، ويصل تراجعه إلى أقل من 10% مقارنة بما قبل الحرب، حتى كتابة هذه السطور. وتأمل الإدارة الروسية من خلال تخفيف التراجع في سعر الروبل، في تقليص معدل التضخم الذي شهد صعوداً قياسياً منذ بدء الحرب والعقوبات، وهو ما أدى إلى تدهور الدخل الحقيقي ومستويات المعيشة في الداخل الروسي، بالتزامن كذلك مع نقص السلع والخدمات نتيجة القيود على التجارة الخارجية.

ماذا تعني الخطوة للقوى المستهدَفة؟

من زاوية أخرى، فإن الامتثال للقرار الروسي، سيعني إقدام البلدان الأوروبية، وشركاتها ومؤسساتها المستورِدة للغاز الروسي مباشرة، بالالتفاف بنفسها على العقوبات على روسيا، وهو ما يمثل دافعاً إضافياً للإدارة الروسية لتبني هذه الخطوة. فالإشكالية الرئيسية في امتثال أوروبا لهذا القرار هي في الحصول على الروبل اللازم لاستيراد الغاز الروسي في المقام الأول، وهو ما يمكن أن يتم من خلال استئناف البلدان الأوروبية تصديرها للسلع والخدمات إلى روسيا، ولكن مقابل الروبل، لإعادة استخدامه في استيراد الغاز الروسي، وهو ما سيعني بدوره إنهاء العزلة التجارية المفروضة على روسيا ضمن العقوبات، بالإضافة إلى تحول التبادل التجاري الأوروبي الروسي إلى الاعتماد على الروبل وليس اليورو، وهما نتيجتان غير مقبولتين للقوى الغربية. أما الخيار الآخر فسيكون من خلال إقدام مؤسسات مصرفية في أوروبا، على شراء الروبل مباشرة من نظيراتها الروسية، لاستخدامه في استيراد الطاقة من روسيا، وهو ما سيعني أيضاً تقويض العقوبات الغربية على القطاع المصرفي الروسي، التي استهدفت عزله وشل معاملاته المالية مع العالم الخارجي، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد.

تسببت هذه النتائج المُحتملة لامتثال أوروبا للقرار الروسي، في ارتفاع فوري لمؤشر أسعار الغاز الأوروبي بأكثر من 30% بعد القرار، وذلك لأن الأسواق العالمية توقعت أن تعارض أوروبا تنفيذه، وأن يؤدي ذلك بدوره إلى اضطراب إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا. وبالفعل، فقد أعلنت مؤخراً مجموعة الدول السبع عن توافقها على رفض القرار الروسي باستيراد الغاز نظير الروبل، وفقاً لوزير الطاقة الألماني،[3] وفي الوقت ذاته، فقد أشارت مصادر روسية، قبل وبعد رد مجموعة الدول السبع، إلى أن رفض القرار سيؤدي إلى توقف إمدادات الطاقة الروسية.[4]

ويأتي هذا الرد الغربي على خلفية إعلان عدد من الأطراف، في مقدمتها ألمانيا، والولايات المتحدة، والمفوضية الأوروبية، عن جهود وخطط لتقليص الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية خلال العام الحالي، بما يوحي بجاهزية أوروبا لتراجع إمدادات الطاقة الروسية بشكل فوري. وفي مقدمة هذه المخططات، وضعت المفوضية خلال شهر مارس مخططاً يؤطر للتخلي عن الطاقة الروسية قبل عام 2030، ولتقليص الواردات من الغاز الروسي خلال العام الحالي، بمقدار الثلثين. ووفقاً للمخطط، فإن واردات أوروبا من الغاز الروسي التي وصلت في عام 2021 إلى 155 مليار متر مكعب، من الممكن أن تتقلص خلال العام الحالي بمقدار 101.5 مليار متر مكعب، من خلال تعويضها باستيراد 63.5 مليار متر مكعب من الغاز من مصادر غير روسية، وتخفيض الطلب الداخلي الأوروبي بـ 38 مليار متر مكعب من الغاز.[5]

ولكن في حقيقة الأمر، فإن هذا المخطط يرتكز على افتراضات طموحة ومركبة بخصوص الإنتاج والطلب العالميين، بالإضافة إلى حالة الطقس خلال العام، وتوازنات جيوسياسية، وغيرها من العوامل التي تجعل من هذا الهدف غير مرجح إلى حد بعيد،[6] خاصة بالمقارنة بتقديرات وكالة الطاقة الدولية، التي تشير إلى قدرة أوروبا على التخلص فقط من ثلث وارداتها من الغاز الروسي خلال العام، وهو بدوره هدف صعب المنال.[7] وعلاوة على ذلك، فإن هذه المستهدفات سيكون من الأصعب كذلك تحقيقها في الأعوام القليلة المقبلة، بسبب التراجع المستمر في إنتاج الغاز داخل أوروبا، والنمو المتوقع للطلب العالمي على الغاز الطبيعي، خاصة في آسيا، بما يعني أن أزمة الطاقة الأوروبية قد تتفاقم في السنوات المقبلة أيضاً. وبالإضافة لذلك، فحتى إذا نجحت أوروبا بشكل ما في تخفيض واراداتها من الغاز الروسي بمقدار الثلثين خلال العام الحالي، أو الأعوام القليلة المقبلة، في ضوء التصعيد المتبادل، فما الذي سيجبر روسيا على إمدادها بالثلث المتبقي؟

مرحلة جديدة

دخل التصعيد بين روسيا والقوى الغربية، في العقوبات الاقتصادية والعقوبات المضادة، مرحلة جديدة بدأ فيها استخدام امدادات الطاقة كسلاح اقتصادي، وهي مرحلة كانت مُتوقَعة من مسار العقوبات الغربية منذ بدء الحرب، وسيخرج منها الطرفان خاسرين. فمع القرار الروسي الأخير، ورد مجموعة الدول السبع، بات وقف إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا أقرب من أي وقت مضى. وفي حين تتصاعد اللهجة الغربية المؤكدة على وجود بدائل شبه فورية للغاز الروسي لأوروبا، فإن واقع سوق الطاقة العالمي والأوروبي يشي بعكس ذلك، فمثل هذه البدائل هي غير متوفرة خلال العام الحالي، وفي الأغلب لن تكون متوفرة خلال الأعوام القليلة المقبلة كذلك، وهو ما يعني أن أوروبا قد تواجه صدمة طاقة غير مسبوقة، تدفعها إلى الركود التضخمي الحاد، وتؤثر بطبيعة الحال على الاقتصاد العالمي، بسبب ثقل الاتحاد الأوروبي كأكبر سوق عالمي.

أما روسيا، فإن توقف صادراتها من الطاقة إلى أوروبا هو من شأنه كذلك أن يدفع باقتصادها نحو مصير مماثل لذلك الأوروبي بسبب اعتماد اقتصادها على صادرات الطاقة. وستتوقف حدة ذلك التأثير على أفق التكامل الاقتصادي الروسي مع القوى المجاورة في آسيا، ومدى قدرة روسيا على تحويل صادراتها من الطاقة من أوروبا إلى بلدان آسيوية، في مقدمتها الصين والهند، وهو أمر معقد بدوره، ويعتمد على البنية التحتية القائمة لخطوط الأنابيب، وقد يستغرق تحقيقه سنوات.


[2]  حسين سليمان (2022)، "التعقيدات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا"، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

https://acpss.ahram.org.eg/News/17419.aspx

[3] DW (2022), “G7 Rejects Russia’s Demand for Gas Payment in Rubles”.

https://www.dw.com/en/g7-rejects-russias-demand-for-gas-payment-in-rubles/a-61282564

[4] Financial Post (2022), “Russian Lawmaker Says G7 Refusing to Pay Rubles Will Mean Gas Supply Halt”.

https://financialpost.com/pmn/business-pmn/russian-lawmaker-says-g7-refusing-to-pay-roubles-will-mean-gas-supply-halt-ria

[5] The Oxford Institute for Energy Studies (2022), “The EU Plan to Reduce Russian Gas Imports by Two-Thirds by the End of 2022: Practical Realities and Implications”.

https://www.oxfordenergy.org/wpcms/wp-content/uploads/2022/03/Insight-110-The-EU-plan-to-reduce-Russian-gas-imports-by-two-thirds-by-the-end-of-2022.pdf

[6] Ibid.

[7] International Agency Organization (2022), “A 10 Point Plan to Reduce the European Union’s Reliance on Russian Natural Gas”.

https://iea.blob.core.windows.net/assets/1af70a5f-9059-47b4-a2dd-1b479918f3cb/A10-PointPlantoReducetheEuropeanUnionsRelianceonRussianNaturalGas.pdf

 


رابط دائم: