افتتاحية التقرير الاستراتيجى العربى 2021 - "2021: تعاظم التحديات وتفويت الفرص وعدم اليقين"
2022-3-27

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

انتهى عام 2021 والعالمُ في وضعٍ أسوأ مما كان في بدايته. تعاظمت التحدياتُ، وضعفت الاستجابةُ لها بخلافِ ما كان ممكنًا. وتتحمل القوى الدولية الكبرى كلها المسئولية، وإن بدرجاتٍ متفاوتة وأشكالٍ مُتباينة، عن عدم استثمار فُرصٍ لاحت للحد من أخطار تحدياتٍ ضخمة في قضايا المناخ والصحة والصراعات الاستراتيجية.

كان المشهد في الأيام الأخيرة في عام 2021 دالًا على المدى الذي بلغته تلك الأخطار. فقد بلغت أعداد المصابين بفيروس «كوفيد-19» معدلاتٍ لا سابقةَ لها حتى في ذروة موجة انتشاره الأولى في ربيع 2019، حين كانت المعلوماتُ عنه شحيحةً، والخبراتُ في مواجهتِه معدومة، ولم تكن هناك بالطبع اللقاحات التي توسع إنتاجها والتطعيم بها في عام 2021. وقلب مُتحور «أوميكرون» الذي أُعلن كشفه في نوفمبر توقعاتٍ متفائلة بقرب انتهاء الجائحة في العالم كله، وليس فقط السيطرة عليها في الدول التي بلغت معدلات التطعيم ضد الفيروس فيها أعلى مبلغ.

فقد ظلت السياسات القصيرة النظر، التي أدت إلى غياب العدالة في توزيع الجرعات المُنتجة من اللقاحات، والتفاوت الشديد في نصيب الدول منها، مستمرةً حتى نهاية العام. وانعكست الحالة الجائحية على الاقتصاد العالمى، فظل ارتفاع معدلات التضخم، وضعف سلاسل الإمداد مُهدِدًا لتعافى نسبى حدث خلال العام مقارنةً بسابقه. وبرغم أن البورصات لا تُعبرُ بدقة عن حالة الاقتصاد، فقد كانت خسائرُها في نهاية العام تشير إلى شعورٍ قوىٍ بعدم اليقين بشأن النمو الاقتصادي في عام 2022.

وإذا كان الارتباكُ الذي أحدثه مُتحور «أوميكرون»، في أسابيع العام الأخيرة، مؤشرًا جزئيًا إلى حالة العالم في عام 2021، فهو ينطوي على دلالة أوسع فيما يتعلق بالخلل في طريقة معالجة التحديات الكبرى في مجملها، وأثره المحتمل في عام 2022، سواء على صعيد الكوارث المناخية، أو الصراعات الاستراتيجية، وليس فقط على مستوى الأوضاع الصحية التي نبدأ بها بوصفها أكثر ما أثار اهتمام العالم كله بلا استثناء.

فقد أثرت الجائحة في الاقتصاد العالمي، أيًا كان مدى هذا الأثر والاختلاف على تقديره، إن في المدى القصير أو المتوسط. فقد أضعف هذا الأثر القدرة على توفير موارد أكبر لمواجهة التغير المناخي وكوارثه التي تعاظمت في عام 2021، وعلى تحمل الأعباء اللازمة للتحول إلى الطاقة النظيفة. وبرغم أن الصراعات الإقليمية والدولية، بقيت بمنأى عن أثر الجائحة، ولم يتغير سلوك من يُشعلونها ويشاركون فيها، فقد صار الإنفاق المتزايد عليها تسليحًا وتدريبًا وتحريكًا للقوات طول العام، خاصةً في نهايته، مع تفاقم الأزمة الأوكرانية، عائقًا أمام تخصيص موارد أكبر لمواجهة التغير المناخي، والارتقاء بالسياسات الصحية في العالم أكثر من أي وقت مضى.

أولاً: ثورةُ اللقاحات لا تُعَّوِضُ فقرَ السياسات

عندما غربت شمس عام 2021، كان عدد المصابين بفيروس «كوفيد-19» في العالم قد ناهز الثلاثمائة مليون تقريبًا، وفق تقدير جامعة «جون هوبكينز» الموثوق به إلى حد كبير، بينما تجاوز عدد الوفيات خمسة ملايين. وحدث ذلك برغم التوسع السريع في حملات التلقيح، التي غطت أغلبيةً كبيرةً من المواطنين والمُقيمين في الدول الغربية، ودول أخرى ثرية، ونسبةً معقولةً في البلدان متوسطة الدخل.
غير أن هذا التوسع جاء على حساب دولٍ فقيرةٍ في مناطق عدة، خاصةً في أفريقيا التي لم تزد معدلات التلقيح في بعضها عما يتراوح بين 10 و20 ٪ حتى نهاية العام. والمفارقة، أن عدد الجرعات المُوزعة في عام 2021 كان يكفي لتلقيح سكان العالم جميعهم بجَرعة واحدة، ويزيد. بلغ عدد هذه الجَرعات نحو 8 مليارات جَرعة، فيما كان إجمالي السكان مطلع 2021 هو 7.8 مليار، وفق تقدير وكالة «بلومبرج» في آخر ديسمبر. وكان توزيع هذه الجرعات بطريقة أكثر عدالة إحدى أهم الفرص التي فوَّتتها الدول المُنتجة للقاحات لقطع خطوة أساسية باتجاه الخلاص من الجائحة. والنتيجة أن ظهور مُتحور جديد في أي بلدٍ بات يُهدد الجميع، بما في ذلك البلدان التي بلغت حملات التلقيح فيها أعلى مستوى، نتيجة فقرٍ في القدرة على تبنى سياسات متوازنة، وضعف الاستعداد لإدراك أن الخروج من الجائحة ليس ممكنًا في جزء من العالم دون غيره، وأن الدول التي تُحقق أعلى معدلات في التلقيح لا تستطيع بناء أسوار تحميها. ولهذا ستظل هذه الدول مُعرضةً للخطر مثل غيرها، إذا بقيت معدلات التطعيم المُتدنية مستمرةً في بعض المناطق عام 2022، وهو ما يعنى إطالة أمد الجائحة، وفق ما نبهت إليه منظمة الصحة العالمية مراتٍ خلال العام. ووفق تقديرها، يتعذر وصول نسبة المُلقحين في أفريقيا إلى 70 ٪ قبل عام 2024 إذا استمرت حملات التلقيح في معظم أنحاء القارة بوتيرتها في عام 2021، بخلاف ما يأمل به المتفائلون بأن يشهد عام 2022 نهاية الجائحة بشكلٍ كامل.

وفضلًا عن هذا الفقر في الرؤية المُوجِهة لسياسات مواجَهة الجائحة، استمر الاتجاه إلى تسييسها، ومن ثم الصراع بشأن بعض جوانبها. وإلى جانب تواصل الخلاف والجدل حول مصدر فيروس «كوفيد-19»، وتبادل الاتهامات بشأنه، وإن بوتيرة أقل من عام 2020، اقترن إنتاج اللقاحات المضادة له بميلٍ إلى تسييسها بدورها. وكان هذا النوع من التسييس، الذي أُطلق عليه «قومية اللقاح»، المظهر الرئيسى لفقر سياسات مواجهة الجائحة، واستئثار الدول المُنتجة بالحصة الأعظم من الجَرعات. كما استمرت الصراعات السياسية في داخل عدد متزايد من الدول الغربية، بصفة خاصة، على كيفية التعامل مع بعض جوانب الجائحة، وتوسع نطاقها من الخلاف على إلزامية ارتداء أقنعة الوجه الواقية في عام 2020، إلى الإجبار على التلقيح في عام 2021، إلى جانب اشتعال خلافات على أداء بعض الحكومات، أو سلوك رؤسائها أو تصريحاتهم.

لكن فيما ظل تسييس اللقاحات مستمرًا، ظهر مؤشر إيجابى، في نهاية العام، بشأن التعامل مع أدوية مضادة للفيروس بُدىء في إنتاجها، عبر إعلان الشركتين المُنتجتين لأول عقارين التخلى عن حقوق التوزيع في الدول التي لديها قدرات تصنيعية لكي يُتاح إنتاجُها بكمياتٍ أكبر وأسعارٍ أقل.

ومع نهاية عام 2021، كان هناك سيناريوهان مختلفان للجائحة في عام 2022. يتلخص السيناريو الأول في أن ظهور مُتحور «أوميكرون» ينطوى على دلالة إيجابية، لأن أعراضه السريرية الأقل خطرًا من مُتحورات سابقة تعنى أن الفيروس بدأ يضعف، وأن انتشار هذا المتحور يحمل بالتالى بُشرى قرب نهاية الجائحة، قياسًا على خبرة الأنفلونزا المُسماة إسبانية التي استشرت عامي 1918 و1919. وفى هذه الحالة، يصبح «كوفيد-19» مثل الأنفلونزا الموسمية، التي تُقَاوَم بواسطة لقاحات وأدوية. غير أن هذا السيناريو مشروط بأن يكون «أوميكرون» هو المُتحور الأخير. وهذا شرط كان مستحيلًا التحقق منه حتى نهاية العام. ولهذا، انطلق السيناريو الثاني من أن قدرة الفيروس على التحور المُستمر قد تؤدى إلى ظهور مُتحورات جديدة في عام 2022، وربما يكون بعضها أكثر خطرًا من «أوميكرون» وغيره مما ظهر في عام 2021، وبالتالي استمرار الجائحة لفترةً  يصعب تقديرها، خاصةً في حالة استمرار عدم العدالة في توزيع جرعات اللقاحات، والتفاوت في معدلات التطعيم، ومن ثم تواصل حالة التذبذب في الاقتصاد العالمي، الذي يتجه إلى التعافي كلما عبر العالم موجةً جائحيةً، ثم يتراجع مع حلول الموجة التالية، مما يُمثل عائقًا إضافيًا أمام التحرك بجدية في مواجهة التغير المناخي وكوارثه المتزايدة، نظرًا لضخامة الموارد اللازمة لتحقيق هدف أو حلم «صفر انبعاثات» في عام 2050.

ثانيًا: تفاقم الكوارث البيئية وتباطؤ جهود مواجهتها

انتهى عام 2021 وبدأ عام 2022، فيما الحرائق تجتاح ولاية كولورادو الأمريكية التي تعاني في السنوات الأخيرة جفافًا واحترارًا غير مسبوقين مثل مناطق عدة في العالم. وكانت هذه الكارثة هي الأخيرة في سلسلة كوارث ضربت مناطق عدة في العالم خلال عام 2021، وتنوعت بين عواصف ورياح عاتية، وأعاصير مُدمرة، وفيضانات مُغرقة، وحرائق جارفة، وغيرها.
وامتدت الكوارث الطبيعية في أنحاء الكوكب من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مرورًا بمناطق عدة، وأحدثت، فضلًا عن ضحاياها من البشر، خسائر اقتصادية ضخمة، في دلالة على أن التباطؤ في مواجهة التغير المناخي سيؤدى إلى ازدياد تكلفته بما قد يفوق، في وقت ما في المستقبل، النفقات اللازمة لمواجهته.

وحسب التقديرات الأولى في هذا المجال، بلغ إجمالي الخسائر الاقتصادية الناتجة عن كوارث تعود إلى التغير المناخي في عام 2021 بين 170 مليار، وفق تقدير مؤسسة ""Christian Aid الإنجليزية، وفق دراسة أجرتها على عشرة أحداث مناخية فقط اعتبرتها الأكثر تدميرًا، و250 مليار دولار، وفق تقدير مبدئى نشرته شركة ""Swiss Re Group، اعتمادًا على متابعة مختلف الكوارث المناخية حتى منتصف ديسمبر 2021.

والمُستفاد من التقديرين، كما من بيانات صارت مُوثقةً، أن الدول المسئولة عن معظم الانبعاثات المُسبِبة للتغير المناخى تحملت القسم الأكبر من هذه الخسائر. فقد جاءت الولايات المتحدة في المقدمة، حيث كلفتها واحدةُ فقط من الكوارث التي حدثت بها نحو 65 مليار دولار، وهي إعصار «إيدا» الذي اجتاح أربع من ولاياتها في آخر أغسطس وأول سبتمبر بخلاف ما سببته الكوارث الأخرى.
وفى الدولة الثانية من حيث المساهمة في الانبعاثات المُسببة للاحتباس الحراري، أفاد تقرير لوزارة إدارة الطوارئ الصينية، نُشر في 11 أكتوبر، بأن الكوارث الطبيعية تسببت في خسائر اقتصادية مباشرة قيمتها 286.4 مليار يوان (نحو 44 مليار دولار أمريكي) في الأرباع الثلاثة الأولى من العام. وشملت هذه الكوارث فيضانات وعواصف ثلجيةً وأعاصير، وجفافًا وحرائق غابات. أما أوروبا، فقد كلفتها كوارثُ مناخيةُ، أخذت صورة فيضانات عارمة في معظمها، نحو 43 مليار دولار.

ولم تخل منطقة في العالم من الكوارث المناخية. ولكن خسائرها الأكبر، في مناطق توجد بها دول منخفضة ومتوسطة الدخل تُقاس بالبشر أكثر من الاقتصاد، مثل أفريقيا التي شهدت فيضانات كبيرة في جنوب السودان، وجفافًا أثر على نحو عشرة من بلدانها في شرقها ووسطها. وهكذا، عبرت الطبيعةُ بأصواتٍ جهوريةٍ عن المدى الذي بلغته أخطار التغير المناخى، وكأنها تقرع جرس إنذار جديد بشأن ما ينتظر العالم نتيجة التباطؤ في مواجهة هذا التغير.

ومع ذلك، فُوتت فرصة جديدة لإجراء مراجعة جادة للسياسات المتبعة في هذا المجال منذ مؤتمر باريس للمناخ عام 2015، إلى جانب تفويت فرصة تصحيح سياسات مواجهة جائحة «كوفيد-19» على نحو ما سبق تبيانه. فقد عُقد مؤتمر الأمم المتحدة «كوب 26» في جلاسجو في النصف الأول من نوفمبر، أي بعد أن أظهرت الطبيعةُ منذ بداية العام غَضَبها بسبب «اللعب الخطأ» معها. وبخلاف ما كان مأمولًا، لم يُستثمر هذا المؤتمر بالقدر الذي ينسجم مع المدى الذي بلغه تحدى التغير المناخى، والأخطار الناتجة عنه، إذ أسفر عن نتائج متواضعة، ومُخيبة لكثير ممن عقدوا آمالًا أكبر عليه.

فقد خلت هذه النتائج من أهم ما يدل على أن الدول الكبرى، ومعها العالم، وضعت أقدامها على الطريق المؤدية إلى تجنب مزيد من احترار الأرض، وهو اتخاذ قرارات مُلزِمة ومُدَعَمة بالموازنات التفصيلية اللازمة لتنفيذها، سواء فيما يتعلق بالسياسات والإجراءات التي تلتزم بها الدول الأكثر إسهامًا في الانبعاثات الضارة (الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، وروسيا)، أو الأموال التي تحتاجُ إليها الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل للتحول إلى الطاقة النظيفة، والتى التزمت بها الدول الصناعية من قبل (نحو 100 مليار دولار سنويًا)، وهل تُقدم في صورة منح لا تُرد، أم مزيج منها ومن القروض المُيسرة، أم استثمارات مباشرة.

ومثلما حدث في التعامل الدولي مع جائحة «كوفيد-19»، ظهرت بوادر ما قد يُعد تسييسًا لقضية التغير المناخى بُعيد «كوب 26»، من خلال نقلها إلى مجلس الأمن الدولي، والمحكمة الجنائية الدولية. وفى مجلس الأمن، تصدت روسيا بسلاح «الفيتو» لمشروع قرار قدمته أيرلندا والنيجر ينص على أن التغير المناخى (خطر أساسى على السلم والأمن والاستقرار العالمى)، وانضمت إليها الهند، فيما امتنعت الصين عن التصويت. ورأى رافضو المشروع أنه محاولة بـ«الوكالة» عن بعض الدول الغربية لمعالجة قضية التغير المناخى على حساب مصالحهم.

كما قدمت بنجلاديش، وساموا، وفانوانو المُهددة بالغرق نتيجة التغير المناخى طلبًا إلى الاجتماع السنوى للمحكمة الجنائية الدولية لتعديل اتفاقيتها (ميثاق روما) لإضافة جريمة خامسة تُسَمى (جريمة إبادة بيئية). لكن طلبها لم يستوف الإجراءات الإدارية والبروتوكولية المطلوبة.

غير أن هذا النوع من التسييس قد يكون أقل خطرًا مما يمكن أن يحدث في حالة استمرار التباطؤ في مواجهة تحديات التغير المناخي المُتعاظمة، وتفويت الفرصة تلو الأخرى. فالمتوقع في هذه الحالة أن يؤدى أحد آثار التغير المناخي، وهو ذوبان الجليد في منطقة القطب الشمالي، إلى تنافسٍ بدأ في الظهور قبل سنوات على استغلال بعض جزرها، وإلى صراع قابل للتصاعد بين الولايات المتحدة والصين الأكثر اهتمامًا بها حتى الآن.

خذ مثلًا، وضع جزيرة جرين لاند الواقعة بين منطقة القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، والتابعة حاليًا للدنمارك، في ظل استمرار ذوبان الطبقة الجليدية فيها بمعدلات أعلى، إذ فقدت نحو 166 مليار طن خلال 12 شهرًا انتهت في آخر أغسطس عام 2021، وفق بيانات صادرة عن خدمة المراقبة القطبية الشمالية الدنماركية (بولار  بورتال)، التي تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة. وبخلاف الأخطار الكبرى المترتبة على ذوبان هذه الطبقة الجليدية، مثل رفع مستوى مياه المحيط تدريجيًا، وصولًا إلى ازدياد الفيضانات وإغراق بعض المدن الساحلية، دخلت الجزيرة ضمن الخطط الاستراتيجية للصين والولايات المتحدة. فمن شأن استمرار ذوبان الجليد بفعل الاحترار أن يُسهَّل الوصول إلى المعادن النادرة التي يُعتقد أنها موجودة بها، والتى تُستخدم في صناعة أجهزة إلكترونية، ومنتجات تكنولوجية أخرى، وأسلحة. وقد صارت هذه المعادن سلاحًا في الصراع الذي تصاعد بين أمريكا والصين في عام 2021.

كما أن ذوبان الجليد يمكن أن يفتح طريقًا بحريةً جديدةً يستطيع من يتحكم فيها أن يضيف رصيدًا مهمًا إلى مصالحه الاستراتيجية، لأنها تصلح لتطوير ممرات شحن بحري يمكن أن تُغير بعض مسارات التجارة العالمية بين أمريكا وأوروبا وآسيا.
ولذا، بدأت شركات صينية في التغلغل وترسيخ الحضور في هذه الجزيرة، وتحركت شركات أمريكية في الاتجاه نفسه بعد أن رفضت حكومة الدنمارك طلبًا غير رسمى قدمته إدارة «دونالد ترامب» عام 2019 لشرائها. كما شرعت واشنطن في تطوير محطة الرادار التي تملكها في ثول شمال الجزيرة، وتتضمن نظام إنذار مُبكر لكشف الصواريخ الباليستية. وهكذا، يمكن أن يؤدى استمرار التغير المناخى إلى تحولات تتجاوز قضايا البيئة والتحديات المرتبطة بها، وتدخل في نطاق الصراعات الاستراتيجية التي اشتدت حدة بعضها في عام 2021.

ثالثًا: الصراعاتُ الاستراتيجيةُ وبؤرُ التوترِ الرئيسيةِ بين عامى 2021 و2022

عندما نتأمل خريطة الصراعات الاستراتيجية، لابد أن نقف أمام ثلاث بؤر هي الأكثر توترًا في عام 2021، سواء المُشتعلة منها في أوكرانيا وحولها، حيث اقترب الصراع من حافة الهاوية في نهايته، أو التي ظلت ساكنة نسبيًا سكُون البركان الذي تتراكم حِمَمُه مع الوقت في تايوان، أو التي كانت مُهددِة بانفجارِ في أية لحظة حال فشل مفاوضات بلغت جولتها الثامنة في ديسمبر 2021 لحل أزمة البرنامج النووى الإيرانى.

ولهذا، يبدو عام 2021 أكثرَ سخونةٍ من الأعوام السابقة، سواء على صعيد الطبيعة التي عبرت عن غضبها الناتج من احترار الأرض بدرجة أكبر من ذى قبل، أو على مستوى الصراعات الاستراتيجية، حيث ازدادت سخونة بؤر التوتر الثلاث، بدرجات متفاوتة بلغت أعلاها في أوكرانيا، وكانت أدناها في تايوان.

وفرضت طبيعة التفاعلات بين الأطراف المعنية بكل من بؤر التوتر الثلاث، في عام 2021، إثارة سؤال عن إمكان اشتعال حرب في شرق أوروبا، أو الشرق الأوسط، وربما شرق آسيا أيضًا، ولكن ليس في المدى القصير.

وبدا السؤال عن احتمال حرب في أوكرانيا، أو انطلاقًا منها، أكثر إلحاحًا في نهاية العام برغم إعلان الولايات المتحدة أنها لن تشارك فيها بشكل مباشر، وإنما ستفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة في قسوتها ضد روسيا حال إقدامها على عملية عسكرية.

ومع ذلك، فقد بدا مُرجحًا في نهاية العام أن تكون هذه الحرب، إذا اندلعت، أشد عنفًا وأوسع نطاقًا من معركة 2014 التي أسفرت عن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وضمها رسميًا، وأن تؤدى إلى اضطراب في أوروبا لم تعرف مثله منذ الحرب العالمية الثانية، وأن تكون ارتداداتها الدولية أقوى من أي حرب إقليمية شهدها العالم في العقود الأخيرة.

وقُل مثل ذلك، بدرجة أو بأخرى، عن حربٍ كان محتملًا أن تنشب في حالة وصول مفاوضات فيينا حول القضايا المتعلقة ببرنامج إيران النووى إلى طريق مسدودة. ولن يكون الخطر الناتج من حرب بين الصين وتايوان أقل، ولكن احتمال نشوبها يبدو أضعف نسبيًا في عام 2022، لأن مقدماتها ظلت، في عام 2021، عند مستوى أقل مقارنةً بالأزمتين الأوكرانية والإيرانية.

ولا يعنى هذا أن الحربَ نتيجةُ حتميةُ أو ضروريةُ لكل من هاتين الأزمتين اللتين كان السعي لتجنبهما يُسابق الزمن في نهاية العام. فالمقارنةُ، هنا، تتعلق بترتيب احتمالات، وليس بتوقع ضرورات. فبمقدار ما توجد دوافع للحرب في كل منهما، هناك كوابح لها في كل منهما، سواء فيما يتعلق بحسابات، أو بخصوص الآثار التي يمكن أن تترتب على اشتعال أي منهما. والحال، أنه إذا أُشعلت نيران حرب انطلاقُا من إحدى الأزمتين، ربما نكون إزاء أكبر محاولة لإعادة رسم خطوط السياسة العالمية، وليس فقط الحدود الجغرافية في إحداهما، والتوازنات العسكرية - السياسية في الثانية، منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضى عندما تفكك الاتحاد السوفيتى السابق ومعسكره.

ولذا، تعددت في نهاية العام سيناريوهات ما يمكن أن تبلغه الأزمة في هاتين البؤرتين، كما في ثالثتهما التايوانية أيضًا. وفى كل أزمةٍ كان هناك سيناريو أفضل وثان أسوأ ثالث في منزلة بين المنزلتين.

السيناريو الأفضل بطبيعة الحال هو التوصل إلى حل سلمى كامل يُنهى الأزمة، أو على الأقل يُعالج مواطن الخطر فيها، والتى تُشبهُ المواد البركانية المُنصهرة التي توجد في أعماق القشرة الأرضية. وقد يصل أطراف بعض الأزمات إلى حل مؤقت، وليس دائمًا، أو جزئي، وليس كاملًا، ولكنه يظل أفضل بالطبع من السيناريو الأسوأ، وكان هذا مطروحًا بشكل ما في نهاية العام بالنسبة إلى الأزمة النووية الإيرانية.

وفى حالة الأزمة الأوكرانية، صار السيناريو الأفضل هو الأضعف، وفق أنماط التفاعلات بشأنها في أواخر عام 2021. فقد بدا أنه ليس يسيرًا أن تقدم الولايات المتحدة و«الناتو» لروسيا الضمانات الأمنية التي تطلبها. وليس سهلًا، في المقابل، أن تُلبى روسيا مطالبهما.

ويأتي في مقدمة الضمانات التي تطلبها روسيا وقف توسع «الناتو» شرقًا، ومن ثم إلغاء قراره الصادر عام  2008 بفتح الباب لكل من أوكرانيا وجورجيا للانضمام إليه، وحظر نشر أنظمة صواريخ استراتيجية فيهما، وخفض هذه الأسلحة في الدول المجاورة لها، الأعضاء في الحلف، وعدم إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في أي من الدول التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتى السابق. أما مطالب أمريكا و«الناتو» من روسيا، فتشمل سحب قواتها من المناطق الحدودية مع أوكرانيا وجورجيا، والتعهد بعدم التدخل في شئونهما، كما في شئون جيرانها الأوروبيين، سواء سياسيًا أو عسكريًا، وإجراء محادثات لمناقشة ما يُعد في الغرب انتهاكات من جانب موسكو في مجال الصواريخ الاستراتيجية.

غير أنه كان ممكنًا في حالة وجود تفكير رشيد لدى كل من طرفى الأزمة قبول بعض ما يطلبه الطرف الثاني، في صورة اتفاق جزئي مؤقت، يمكن أن يتيح فرصةً لإدارة أفضل للأزمة في أجواء أقل حدة من أجل تجنب السيناريو الأسوأ الذي ازداد الاتجاه إليه في نهاية العام. ولكن احتمال تحققه في عام 2022 بدا متوقفًا بالأساس على مدى استعداد روسيا لتحمل عواقب شن عملية عسكرية تتراوح بين ضربة محدودة وغزو أوسع. وبرغم أن خبرة العقوبات الأمريكية على أطراف عدة تُفيد أن فشلها أكثر من نجاحها، فالجديد في أزمة أوكرانيا أن إدارة بايدن حددت تفصيلًا نوع هذه العقوبات لإظهار مدى شدتها، اعتقادًا في أن هذا يمكن أن يجعلها رادعةً. ولكن الإفصاح مسبقًا عن العقوبات يمكن، في المقابل، أن يُقلل فاعليتها عند فرضها إذا تمكنت روسيا من إيجاد سُبُل للتعامل معها قبل أن يُصدر الكرملين قرار الحرب بافتراض أنه وارد. ولعل أكثر ما كانت روسيا في حاجةٍ إلى بحثه جيدًا في هذه العقوبات هو ما سيترتب على تعليق استخدام مصارفها نظام تسوية المدفوعات الدولى (سويفت)، وهل توجد فرصة لابتكار بديل عنه ليس موجودًا الآن.

ويمكن تصور أنه كان على مائدة صانعي القرار في موسكو، في الأيام الأخيرة من العام، التفكير بعمق في جدوى حرب تؤدى إلى اقتراب «الناتو» أكثر من حدودها بدلًا من إبعاده عنها. فالمتوقع في حال شن عملية عسكرية روسية إرسال تعزيزات كبيرة من «الناتو» إلى دول الحلف المُتاخمة لروسيا، فضلًا عن إمكان تجهيز ميليشيات محلية في المناطق التي ستُسيطر عليها روسيا وتسليحها وتدريبها، في محاولة لاستنساخ تجربة «المقاومة الأفغانية» للاحتلال السوفيتى، ولكن في صورة مختلفة.

ومن الطبيعى أن يشمل التحرك الروسي في هذه الحالة، فضلًا عن محاولة تقليل آثار العقوبات الأمريكية، الاقتراب من الصين بدرجة أعلى من أي وقت مضى، والبناء على التقدم الذي حدث في العلاقات بين الدولتين في العامين الأخيرين. ولكن كان صعبًا في نهاية عام 2021 تحديد المدى الذي يمكن أن تبلغه العلاقات الروسية - الصينية في حالة وصول الأزمة الأوكرانية إلى السيناريو الأسوأ. فبناء تحالفات تقليدية ليس في جدول أعمال الصين التي تلتزم بسياسة عدم مُجاراة الغرب في هذا المجال. كما أن القواسم المشتركة بين الصين وروسيا محصورة في السياسات التي تهدف إلى مواجهة ما تعده كل منهما تهديدًا غربيًا، إلى جانب مصالح اقتصادية وتجارية، مع ملاحظة أن لكل منهما مصالح موازية مع أوروبا، ولكن لا يجمعهما أهم ما تقوم عليه التحالفات الكاملة، وهو وجود نموذج

واحد في السياسة، والمجتمع، والاقتصاد، والثقافة، والقيم، وأنماط الحياة، على النحو الذي نراه في التحالف الغربي الآن، كما في التحالف «الشرقي» السوفيتي السابق.

أما على صعيد أزمة البرنامج النووي الإيراني، فقد بقي احتمالا السيناريو الأفضل والأسوأ متساويين تقريبًا في نهاية عام 2021، وكذلك سيناريو الحل المؤقت، في ظل تضارب التصريحات والبيانات، وما يقترن بها من توقعات. وبدا أن مصلحة الطرفين الرئيسيين، الإيراني والأمريكي، في التوصل إلى حل يُجنبهما عواقب الاقتراب من حافة الهاوية يُقابلها مستوى بالغ الارتفاع من الشكوك المتبادلة في ظل أزمة عدم ثقة عميقة تراكمت عبر الزمن. وتجلت هذه الأزمة في فائض الاهتمام بضمانات يُريدها كل منهما لالتزام الثانى بأى اتفاق يمكن الوصول إليه، مُضافًا إليها من الجانب الإيرانى ما يضمن عدم انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق مرة أخرى. كما ساهم دور من يُعدون الغائبين الحاضرين، خاصةً إسرائيل، في زيادة صعوبة المفاوضات، لأنه وضع المفاوض الأمريكى تحت ضغط أكبر.

ومثلما لم يكن متوقعًا أن يُغلق أي اتفاق يمكن الوصول إليه ملف هذه الأزمة بشكل كامل حتى إذا كان دائمًا، وفق خبرة اتفاق 2015، وآخذًا في الحُسبان انعكاسات الصراع الإيراني - الإسرائيلي المستقل عنها والمُتداخل فيها، كان صعبًا كذلك التيقن من نمط الحرب التي قد يُشعلها فشل مفاوضات فيينا، إذ يبدو احتمال حرب سيبرانية قائمًا، وإن بدرجة أقل من حرب عسكرية. وكان الخطاب الصادر من إسرائيل، التي تمنت فشل المفاوضات، يُفيد إعداد العُدة لشن عملية عسكرية كبيرة ضد المنشآت النووية الإيرانية. وكان مؤدى الخطاب الإيرانى الإعداد لردٍ بالغ القوة قد لا يقتصر على إسرائيل.

في المقابل، كان سيناريو الحرب السيبرانية الواسعة النطاق مطروحًا في نهاية العام، لكنه بدا أضعف، لأنه يرتبط بتقديرات يتعذر التأكد منها بشأن وجود صعوبات أمام التحديد الدقيق لمواقع كل المنشآت النووية الإيرانية الراهنة، واحتمال أن يكون بعضها بعيدًا عن الأنظار، وعن رقابة الوكالة الدولية للطاقة النووية، الأمر الذي قد يجعل العائد من شن غارات على هذه المواقع أقل من التكلفة التي قد تقع على المُغير.

ومقارنةً بهاتين الأزمتين، كانت أزمة وضع تايوان بالنسبة إلى الصين الأقل خطرًا في نهاية العام، والأقل احتمالًا للتحول إلى نزاع مسلح في عام 2022. وبرغم تصاعد الخطاب العدائى المتبادل، وقوة اللهجة الصينية ضد تايوان، فقد بدا حتى نهاية العام أن بكين لن تغير سياستها الراهنة إلا في حالة إعلان رسمي عن استقلال تايوان، وأن رهانها على التوحيد السلمي يحظى بالأولوية كما حدث في حالة هونج كونج. كما بدا أن واشنطن ليست راغبة في تغيير سياستها الراهنة التي تعترف بأن تايوان كانت جزءًا من الصين، وأن استقلالها الفعلى فرضه الواقع ليس إلا، ما لم تُغير بكين سياستها وتتجه صوب العمل العسكرى.

ولكن واشنطن حرصت، في الوقت نفسه، على إظهار دعمها لتايوان، وإن في إطار أوسع يتعلق بالصراع الأمريكي - الصيني الذي تصاعد منذ 2018. وبرغم أن معظم التحركات الأمريكية في منطقة المحيطين الهادي والهندي ارتبطت بهذا الصراع في مجمله، كان ممكنًا تمييز بعض ما يتعلق بالمسألة التايوانية في هذه التحركات، ومنها -على سبيل المثال- التدريب العسكري المشترك مع اليابان، الذي بدأ في ديسمبر 2021، وظل مستمرًا حتى مطلع 2022. فقد بدا أن هذا التدريب مُصمم في شكل مُحاكاةٍ لصد غزو صينى مُحتمل لتايوان يمتد إلى جزر تسيطر عليها اليابان في بحر الصين الشرقي.

غير أنه في كل الأحوال، بقيت أزمة تايوان هى الأقل خطرًا بين البؤر الأكثر توترًا في العالم، والأرجح أن تظل كذلك في عام 2022، ما لم يحدث تغير في سياسة الصين أو الولايات المتحدة. وربما يكون احتمال هذا التغير مرتبطًا بمآلات الأزمة الأوكرانية. من الطبيعى أن تُراقب بكين السياسة الأمريكية تجاه أزمة أوكرانيا، لتستمد منها مؤشرات فيما يتعلق بطموحاتها في تايوان. فإذا لم تقدم الولايات المتحدة مساندةً كافيةً لأوكرانيا في حالة إقدام روسيا على عمل عسكرى، أو إذا تمكنت موسكو من تحمل العقوبات التي ستُفرض عليها في هذه الحالة، وتخفيف الأضرار المترتبة عليها، ربما يكون هذا مُشَّجعًا للصين على تغيير سياستها تجاه تايوان في وقت ما في المستقبل.

وهذا الارتباط غير المباشر، لكنه المُهم، بين اثنتين من بؤر التوتر الاستراتيجى يدل مرة أخرى على أهمية النظرة الكلية غير المُجزأة للتفاعلات العالمية في زمننا، برغم أن معظم أطراف هذه التفاعلات مازالوا يتعاملون، فيما يبدو، مع مشكلاته بطريقة زمن سبقه في القرن الماضى، وربما قبله أيضًا، ويبحثون عن حلول لأزمات راهنة، اعتمادًا على مُقاربات وأدوات تشكلت في القرنين الماضيين.


رابط دائم: