كيف تنعكس الحرب الروسية- الأوكرانية على القضية الفلسطينية؟
2022-3-16

شيماء منير
* خبيرة متخصصة فى الصراع العربى الإسرائيلى ومدير تحرير دورية الملف المصرى - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على الرغم من أن انعكاسات الحرب الروسية- الأوكرانية على القضية الفلسطينية لا تزال غير واضحة، خاصة وأن الصراع يبدو أنه يتجه صوب سيناريوهات مفتوحة، وأنها لم تعد حرباً خاطفة ومحدودة، إلا أنه من الممكن قياس حدود التأثر استنادًا لما يمكن أن تحدثه الحرب من تغييرات آنية أو مستقبلية على طرفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال التطرق لأبرز التحديات، وكيفية توظيف كل طرف ما لديه من قدرات للحد من آثارها السلبية. وذلك يستدعي طرح تساؤل مهم وهو: هل ستنجح إسرائيل في مساعيها في إطار سياسة خلط الأوراق بالانتقال من حالة "رفض" تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والاكتفاء بمقاربة "تقليص الصراع" التي تتبناها حكومة (بينيت – لابيد) من خلال الاكتفاء بالحلول الاقتصادية، إلى البحث عن دور الوسيط أو ناقل للرسائل بين أطراف الصراع الروسي- الغربي؛ وذلك في مسعاها لإعادة تموضعها دوليًا على النحو الذي يمكنها أن تخرج بأقل الخسائر وتحويل التحديات إلى فرص، خاصة مع علاقتها الوطيدة ومصالحها المتشابكة مع كل من موسكو وكييف؟.

وقد برزت ملامح ذلك الحراك مع زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى إسرائيل في 2 مارس 2022، والتى تلاها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى روسيا في 5 مارس، واتصاله برئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي قبل توجهه إلى ألمانيا لإطلاع المستشار الألماني على نتائج مباحثاته مع بوتين.

 وعلى الصعيد الفلسطيني، ثمة سؤال مهم يطرح نفسه ومفاده: هل ستدرك الأطراف الفلسطينية لحظة "نضج الأزمة" من أجل توظيف تلك الأحداث لإنهاء الانقسام والتوافق على برنامج وطني للتحرر، والعمل من أجل منع تراجع القضية عالميًا، وتصويب البوصلة نحو القدس والحقوق الفلسطينية من خلال خلق رأي عام دولي مساند للقضية خاصة في ضوء ما كشفته حرب أوكرانيا والعقوبات الدولية المشددة على روسيا من الازدواجية في تطبيق القانون الدولي واستثناء إسرائيل من العقوبات، رغم كونها تشكل تهديدًا وجوديًا للشعب الفلسطيني، وإمعانها في انتهاك القانون الدولي؟.

الوساطة الإسرائيلية وإعادة التموضع دوليًا

حرصت الحكومة الإسرائيلية (بينت – لابيد) على التحرك سياسيًا من أجل احتواء الغضب الروسي جراء موقف إسرائيل الذي دعم وحدة أوكرانيا وسيادتها الكاملة على أراضيها، والإدانة التي جاءت على لسان وزير الخارجية يائير لابيد للهجوم الروسيّ، والذي اعتبره "انتهاكاً للنظام الدولي"، معتبراً أنّ الحرب ليست وسيلة لحلّ الخلافات، وتأييدها لمشروع القرار الذي تقدم به الأوروبيون للجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ومطالبة موسكو بالانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية.

كما جاءت توصيات بتوخى الحذر فى التعامل مع أطراف الصراع وعدم تبنى مواقف تصعيدية ضد روسيا من جانب قيادة الجيش الاسرائيلى من أجل مواصلة التنسيق المتعلق بالتهديدات الإيرانية في سوريا، وفقًا "لآلية منع التصادم"، خاصة مع الرسائل التصعيدية التي بعثتها روسيا لإسرائيل من خلال النشاط المتزايد للطيران الروسي والسوري المشترك على حدود الجولان دون إخطار تل أبيب بذلك، بالإضافة إلى التصريحات الروسية الغاضبة التي أعادت التأكيد على أن هضبة الجولان جزء لا يتجزأ من الأراضي السورية، والتحذير من مخاطر تنامي الاستيطان في الهضبة، الأمر الذي يتعارض مع أحكام اتفاقيّة جنيف لعام 1949[1].

بالإضافة لهدف التنسيق مع روسيا في سوريا، فإن إسرائيل تسعى من خلال التعامل بحذر مع أطراف الصراع الروسى- الأوكرانى، أن تتمكن من القيام بدور الوسيط في تسوية الصراع، بحكم علاقاتها القوية بالدولتين؛ لتسليط الأضواء على تسوية هذا الصراع في مقابل تجاهل القضية الفلسطينية وإرجاء تسويتها إلى أجل غير مسمى، من أجل "التشويش" عليها، وإسكات الأصوات الحقوقية الداعمة للقضية الفلسطينية، والتي باتت تعقد مقارنات بين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والغزو الروسي لأوكرانيا، وتطالب بإنفاذ القانون الدولي على إسرائيل مثلما يحدث مع روسيا. وبما يمثل تكتيكًا إسرائيليًا لردع التحركات الفلسطينية "المحتملة" ضدها.

وتعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس في 2 مارس إلى إسرائيل -  والتي تعد الأولى له  خارج ألمانيا منذ انتخابه مستشارًا في ديسمبر (2021) - بمثابة بداية إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل من أجل القيام بدور الوسيط بين أطراف الصراع، حينما تحدث المستشار الألماني عن أهمية دور الوساطة قائلاً: "من مسئوليتنا نقل الأحداث بأسرع وقت من ساحة المعركة إلى غرف المفاوضات"[2].

وتأتي أهمية تلك الزيارة في ضوء مساعي إسرائيل لإعادة التموضع دوليًا، وفي ظل الرغبة في اتساع دائرة تحالفاتها، وتوثيقها، استنادًا لمبدأ الاعتماد على الذات في الدفاع عن أمنها ومصالحها. وفي هذا الشأن نشر المحلل العسكري بصحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية يوآف ليمور مقالاً حول الدروس المستفادة من حرب أوكرانيا؛ حيث أشار إلى أن "هناك درسًا يجب أن تتعلمه إسرائيل من الحرب في أوكرانيا، وهو أن على إسرائيل الاعتماد على نفسها وقوتها العسكرية للدفاع عن نفسها، ولذلك يجب أن تحافظ على ضمان بقاء الجيش في أيد أمينة في المستقبل"[3]. واتساقًا مع رأي يوآف ليمور السابق، فإن إسرائيل يبدو أنها أدركت ذلك الدرس من قبل مع الخروج الأمريكي من أفغانستان، خاصة وأن زيارة المستشار الألماني جاءت بعد شهر من توقيع وزارة الدفاع الإسرائيلية مع شركة "تسنكروف" لإنتاج ثلاثة غواصات متطورة لسلاح البحرية الإسرائيلية بتكلفة بلغت ثلاثة مليارات يورو وبتمويل جزئي من الحكومة الألمانية[4].

كما أسفر اللقاء عن تدشين تعاون استراتيجي جديد بين إسرائيل وألمانيا، حيث سيدار هذا التعاون عبر لقاءين يتم عقدهما سنويًا لمناقشة الشئون الأمنية والسياسية التى تهم البلدين. وبالتالي، فإن تلك الزيارة تمثل فرصة لتوثيق علاقات إسرائيل مع الدول الأوروبية وتعزيز حضورها هناك، خاصة من الناحية العسكرية من خلال تنشيط صادراتها في المجال العسكري والمخابراتي والأمني.

وعلى صعيد آخر، تطرق اللقاء إلى إشكالية النووي الإيراني؛ حيث أكد المستشار الألماني على تفهم بلاده لمخاطر هذا السلاح على السلام بما يشير إلى أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لن تؤدي إلى التغاضى عن التوصل لاتفاق أكثر تشدداً مع إيران في مفاوضات فيينا، خاصة مع خشية إسرائيل من أن يؤدي تراجع إيران في قائمة الأولويّات الأمريكيّة الراهنة، إلى تخفيف الضغوط الغربية المُمارسة عليها في مفاوضاتِ فيينا النووية واستغلال إيران الحرب من أجل القيام بخطوات متقدمة في برنامجها النووي.

أما على صعيد القضية الفلسطينية، فإن تلك الزيارة تشير إلى دلالات مهمة حول رؤية الغرب الآنية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، في ظل تصاعد الصراع مع روسيا، فمن ناحية ألغى المستشار الألماني زيارته المقررة إلى رام الله وعمان، واللقاءات مع ملك الأردن عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعدد آخر من المسئولين. ومن ناحية أخرى، عندما تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت الحديث عن القضية، فإن المستشار الألماني تطرق إليها، من زاويتين؛ "الحلول الاقتصادية"، و"إرجاء تسويتها للمستقبل"، قائلاً: "نلاحظ أن إسرائيل تتخذ خطوات في الشهور الأخيرة لتحسين معيشة الفلسطينيين، وأنا أبارك ذلك. ولكن، لكي نمنع التصعيد يجب التقدم في مفاوضات عينية حول السلام. حل الدولتين يجب أن يتم بالمفاوضات". ثم أضاف: "لكن هذا موضوع للمستقبل"[5].

ثم جاءت زيارة بينيت إلى العاصمة الروسية موسكو يوم السبت الموافق 5 مارس الجاري ولقاءه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل بحث مستجدات الأزمة في أوكرانيا، والشروع في مهمة الوساطة أو "ناقل للرسائل"، والتي أعقبها اتصال من بينيت إلى رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي؛ وذلك قبل توجهه إلى ألمانيا[6]، لتجسد تلك الجولات الخارجية دوائر الحركة الإسرائيلية من أجل لعب دور الوسيط، والانخراط في مساعي تسوية الصراع، بما يحقق المصالح الإسرائيلية أو تقليل الخسائر المتوقعة (على قدر المستطاع)، ومحاولة تحويل التحديات إلى فرص، خاصة وأن المصالح الإسرائيلية كانت في قائمة الملفات محل التباحث؛ حيث قالت مراسلة قناة "كان" الإسرائيلية إنّ "اللقاء لم يبحث فقط جهود وقف إطلاق النار في أوكرانيا، إنما أيضًا مواضيع إضافية تقلق إسرائيل جدًا، من بينها وضع الجاليات اليهودية الموجودة في أوكرانيا وروسيا". وتابعت: "وأيضًا تم بحث موضوع يقلق رئيس الحكومة جدًا، ألا وهو التقدم في المحادثات النووية في فيينا والمعارضة الإسرائيلية للاتفاق النووي مع إيران"، وأشارت كما ذكر الإعلام الإسرائيلي إلى أنّ "بينيت وبوتين تحدثا عن الواقع الأمني في سوريا"[7].

وقد أثبتت تلك الزيارة صحة التقديرات الإسرائيلية بأن موسكو لن تقدم على محاسبة إسرائيل بسبب تصريحاتها التي أدانت الغزو الروسي لأوكرانيا، على النحو الذي يضر بشبكة مصالحهما المشتركة، خاصة في ظل انشغال روسيا في الحرب، وعدم الرغبة في اتساع دائرة أعداءها. كما أن تصريحات موسكو والتي أعادت فيها التأكيد على عدم اعترافها بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الأراضي السورية، تعد مجرد أوراق ضاغطة على إسرائيل، حتى لا تنساق "كلية" لصالح الدول الغربية وواشنطن، وهذا ما سبق وأكدته موسكو إزاء مستقبل تنسيقها الأمني مع إسرائيل حول سوريا، حينما أعلنت السفارة الروسية في تل أبيب، في 26 فبراير الفائت، أن روسيا تتوقع استمرار تنسيقها العسكري مع إسرائيل بشأن سوريا، وذلك بعد أن أبدت موسكو استياءها من التصريحات الإسرائيلية بشأن الأزمة الأوكرانية[8]. وأثبتته عمليًا إسرائيل من خلال قصفها للجنوب السوري فجر يوم (الاثنين) الموافق 7 مارس الجاري؛ وذلك بعد زيارة بينيت لروسيا، لتؤكد أن التفاهمات والتنسيق الخاص بسوريا، والتي سبق وأكد بينيت على ضرورة الحفاظ عليها - خلال زيارته الأولى لموسكو في 22 أكتوبر 2021 بعد توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية خلفًا لبنيامين نتنياهو - مازالت قائمة، ولم تتأثر بالحرب الأوكرانية.

وتأتي تحركات إسرائيل والرغبة في القيام بالوساطه في الصراع، مقرونًا بدعم وقبول أوروبي وأمريكي؛ حيث ترى واشنطن والدول الأوروبية بأن إسرائيل تعد مؤهلة للقيام بدور الوساطة، فمن ناحية تتمتَّع بعلاقات قوية مع جميع أطراف الصراع؛ الولايات المتحدة، وحلف الناتو، وأوكرانيا من جهة، وروسيا من جهة أخرى. ومن ناحية أخرى يعيش في إسرائيل ما يقارب من المليون روسي/يهودي. كما توجد مشاريع تجارية بين إسرائيل وروسيا تتراوح قيمتها ما بين مليارين و3 مليارات دولار في السنة، بالإضافة إلى وجود حوالي 45 ألف إسرائيلي يعيشون في روسيا. وعلى الجانب الآخر، فإن أوكرانيا تعد حليفًا قويًا لإسرائيل وداعمًا له، واعترفت عام 2020 بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفتحت مكتباً للسّفارة فيها[9]. كما سبق وتمكنت إسرائيل من جلب مئات الآلاف من المهاجرين اليهود من أوكرانيا، من أجل تثبيت أركان مشاريعها الاستيطانية في فلسطين. بالإضافة إلى وجود نحو 15 ألف إسرائيلي في أوكرانيا، ووجود 1.5 مليون مواطن إسرائيلي من أصول روسية و300 ألف من أصول أوكرانية.

ومن ثم فإن الوجود والتأييد الكبير لطرفي الصراع داخل إسرائيل يحتم على الأخيرة التزام الحياد تجاه الصراع؛ حفاظًا على التماسك المجتمعي"الهش"، وهذا ما تعكسه استطلاعات الرأي بشأن الحرب الأوكرانية والتي تشير إلى تعقيدات الداخل الإسرائيلي واصطفافه ما بين روسيا وأوكرانيا. وفي هذا الأمر أشار استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة "مكور ريشون" اليمينية، إلى أن 76% من المواطنين اليهود يؤيدون الغرب مقابل 10% فقط يؤيدون روسيا، وهناك 14% محتارون بين الطرفين. كما أظهر أن أحزاب اليمين والعرب تؤيد روسيا أكثر. ففي صفوف اليمين، تنخفض نسبة تأييد حكومة أوكرانيا إلى 70%، فيما ترتفع في صفوف اليسار والوسط الليبرالي إلى 86%. وفي صفوف المواطنين العرب بإسرائيل (فلسطينيي 48)، تنخفض نسبة تأييد أوكرانيا إلى 41%، فيما ترتفع نسبة تأييد روسيا إلى 35%[10].

تعزيز الردع متعدد الجبهات

وعلى صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فقد أثير تزامنًا مع تطورات الصراع الروسي- الغربي، خاصة مع الغزو الروسي لأوكرانيا جدل حول ماذا لو اضطرت إسرائيل للدخول في حرب إقليمية على نحو متزامن من عدة جبهات؛ ذلك التساؤل الذي سبق ودارت حوله نقاشات عديدة بعد انتهاء معركة سيف القدس (حارس الأسوار) في مايو 2021، حينما حدث تغيير لقواعد الاشتباك، وتوحدت جبهة غزة مع القدس مع فلسطينيي 48، في الوقت نفسه الذي تم إطلاق صواريخ وطائرة مسيّرة من الجبهة الشمالية، ونُظمت مسيرات جماهيرية من الأردن ولبنان تجاه الحدود مع فلسطين. إذ تترقب إسرائيل في حال امتدت شظايا الحرب الأوكرانية إقليمًيا، أن يصبح العمق الإسرائيلي، ساحة لتصفية الحسابات، في حال تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء، وتحالفت بشكل صريح ضد روسيا لصالح واشنطن والدول الأوروبية، لتقوم روسيا في المقابل بتوظيف الساحة السورية لصالحها، وإعطاء الضوء الأخضر لكل من الجيش السوري وإيران وحزب الله، بتوجيه ضربات متزامنة مع جبهة غزة ضد إسرائيل، هذا فضلا عن كون اليمن تمثل إحدى جبهات التهديد لإسرائيل بما يفقد الأخيرة القدرة على حماية عمقها الاستراتيجي.

يضاف إلى ذلك احتمال رفع روسيا مستوى مبيعاتها للأسلحة إلى حلفاءها في المنطقة، ومن ثم تعزيز قدراتهم الهجومية بالتوازي مع ضبابية المسار التفاوضي بشأن الملف النووي الإيراني في فيينا، في حال تقديم المزيد من التنازلات لمصلحة إيران، الأمر الذي سيدعم النفوذ والقوة الإيرانية، وبالتالي محور إيران الإقليمي في المنطقة، وسينعكس بدوره على دعم الفصائل في غزة، وستكون على درجة عالية من الجاهزية لتوحيد الاشتباك بين غزة والقدس، مثلما حدث في حرب مايو 2021.

واستنادًا لما سبق، وفي ضوء المخاوف السابقة، والتقديرات الإسرائيلية لها، فإن إسرائيل ستحرص على التهدئة خاصة في غزة، وفي الوقت نفسه ستقوم بتعزيز قدراتها على ردع أي هجوم متزامن من عدة جبهات، مع تأمين وتحصين جبهتها الداخلية، خاصة وأن إشعال حرب في غزة سيكون له مردود سلبي على صورة إسرائيل كوسيط لتسوية الصراع في أوكرانيا، حينما يتم الكشف عن وجهها الحقيقي واعتداءاتها في غزة والقدس. كما أن واشنطن ستعتبره حرب بالوكالة من جانب حلفاء روسيا، من أجل ترحيل آلة الإعلام الغربي المسلط على روسيا في أوكرانيا ليتجه صوب القدس وانتهاكات إسرائيل. 

وبالتالي، فقد أمر وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بزيادة عدد تصاريح العمال الذين يخرجون للعمل في إسرائيل من قطاع غزة، كجزء من سياسة إسرائيل لتحسين الحياة المدنية في القطاع، وتنفيس الاحتقان الداخلي وتحويل الضغط تجاه حركة حماس باعتبارها سلطة الأمر الواقع هناك. أما على صعيد القدس، فيبدو أن مهمة فرض التهدئة ستكون صعبة، خاصة مع عنف المستوطنين وجرائمهم برعاية الجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية. وعلى الرغم من أهمية قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية في الأول من مارس 2022، بشأن إلغاء أوامر الإخلاء بشكل كامل ضد العائلات الأربعة (جاعوني وكرد واسكافي وقاسم)[11]، والذي يمكن أن ينسحب على بقية عائلات الشيخ جراح، واعتباره رغبة إسرائيلية في احتواء التصعيد، إلا أن الجمعيات الاستيطانية لن تقبل بهذا القرار، ويمكن أن تشتعل المواجهة خاصة مع اقتراب شهر رمضان والأعياد اليهودية والإسلامية، وليس بالضرورة تكون شراراتها حي الشيخ جراح، بل يمكن أن يكون عنوانها الجديد حي "جبل المكبر" في القدس الشرقية[12].

القضية الفلسطينية .. تحديات وفرص ممكنة

تتمثل أبرز التحديات والفرص التي يمكن أن تفرضها الحرب الروسية- الأوكرانية على القضية الفلسطينية فيما يلي:

1- ازدواجية المعايير: أثارت الإجراءات والعقوبات الغربية المشددة ضد موسكو، ردود فعل فلسطينية غاضبة، نتيجة الازدواجية التي تنتهجها الدول الغربية حيال الملف الفلسطيني، ورفض فرض عقوبات مماثلة ضد إسرائيل بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية، والتطبيق الانتقائي للقانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وفي الوقت الذي تصف فيه المقاومة الفلسطينية بـ"الإرهاب" وتفرض الحصار عليها، يتم فتح باب التطوع "العلني" لدعم أوكرانيا.

وفي هذا الشأن قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ إن "الشرعية الدولية لا تتجزأ، ولا يجوز الكيل بمكيالين"، مطالباً المجتمع الدولي "بتطبيق القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية تجاه فلسطين، وإجبار الاحتلال الإسرائيلي على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة، وإنهاء احتلاله للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967". كما حذرت وزارة الخارجية الفلسطينية، في بيان لها من "استغلال الحكومة الإسرائيلية وأذرعها المختلفة بما فيها ميليشيات ومنظمات المستوطنين للانشغالات الدولية بما يجري في أوكرانيا؛ بهدف تصعيد عدوانها وانتهاكاتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني"، لافتة إلى "وجود مخاطر من استغلال إسرائيل  للأحداث الدولية في سرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتعميق الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة عامة وفي القدس الشرقية وأحيائها المختلفة، بما فيها حي الشيخ جراح بشكل خاص"، ومنددة بقرار الحكومة الإسرائيلية بتخصيص موازنة بقيمة 250 مليون شيكل (نحو 79 مليون دولار)، لتعزيز تهويد المدينة المقدسة[13]. في الوقت نفسه الذي أعلنت فيه الحكومة الإسرائيلية عن "خطة طوارئ" لاستقطاب المزيد من اليهود.

2- تراخى فلسطينى: لم يدرك الجانب الفلسطيني بعد لحظة نضج الأزمة، ولم يتخذ حتى الآن أي خطوات جادة لتوظيف الصراع الدائر لصالح القضية مثلما تفعل إسرائيل، خاصة مع التحديات العديدة التي يمكن أن تلحق بها، وفي مقدمتها توظيف إسرائيل للحرب من أجل تشجيع هجرة يهود أوكرانيا وروسيا لزيادة عدد سكانها من اليهود، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، خاصة مع إقناع كل من له "حق" المواطنة في إسرائيل طبقًا لقانون العودة، بالهجرة إليها وليس مجرد الخروج من منطقة الخطر والعودة إلى أوكرانيا بعد انتهاء الحرب، حيث أن قانون العودة، يمنح حق المواطنة لمن ليسوا يهودًا شرط أن يكون الوالد أو الجد أو الجدّة يهوديًا[14]. وقد دعا عضو الكنيست تسفي هاوزر إلى اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لاستيعاب الجالية اليهودية في أوكرانيا -والتي تقدر وفقًا لآخر الإحصاءات المعلنة بنحو 200 ألف[15]-  بأسرع وقت، واعتبر أن الأوضاع الحالية فرصة تاريخية أمام إسرائيل يجب إدارتها بحكمة، وتحقيق أهداف إسرائيل كدولة للشعب اليهودي.

2- تزايد الاستيطان: أعلن قسم الاستيطان الإسرائيلي في المنظمة الصهيونية العالمية عن بدء تحرك لإنشاء 1000 وحدة سكنية استيطانية جديدة لاستيعاب اليهود الفارين من أوكرانيا، حيث تتضمن الخطة مبانى سكنية يتم استخدامها كمجموعات لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد، وستقام المباني في مناطق قرب الحدود الشمالية في النقب، وادي عربة، وادي الينابيع بالقرب من بيسان، وفي وادي الأردن. كما وصفت وزيرة الداخلية الإسرائيلية إيليت شاكيد هذه الهجرة الجديدة قائلة وفقًا للقناة 7 العبرية: "أعتقد أنه عمل مهم وضروري لتعزيز النقب"[16]. ومن المهم التنويه إلى أن الهجرة ليست هي التهديد الوحيد الذي يواجه القضية الفلسطينية، حيث تستغل إسرائيل الحرب من أجل التسريع بتغيير الواقع على الأرض، خاصة في القدس، والمسجد الأقصى.

3- إنهاء الانقسام الفلسطينى: إن الأمر يقتضي من المستوى الرسمي الفلسطيني شن حملة دولية مطالبة بتنفيذ قواعد القانون الدولي دون تمييز على إسرائيل مثلما يحدث حيال روسيا. وعلى نحو متزامن الانخراط في خطوات عاجلة لإنهاء الانقسام، وتوحيد الصف الفلسطيني من أجل ضمان فعالية الحراك الفلسطيني في المحافل الدولية. ويمكن البناء على ما تم الإجماع عليه من قبل باختيار الانتخابات كمدخل لإنهاء الانقسام والمؤجلة منذ مايو الماضي (2021)، وتأتي أهميتها في هذا التوقيت بالذات، في ضوء انشغال إسرائيل خارجيًا بدور الوسيط في الأزمة الأوكرانية وعدم رغبتها في أن تظهر أمام العالم بأنها العائق أمام ممارسة الشعب الفلسطيني حقه الانتخابي وإدارة العملية الديمقراطية. وفي حالة الرفض أو الاعتراض خاصة في القدس، فمن الممكن الاشتباك معها من أجل فرض المسار الديمقراطي وتجديد شرعية النظام السياسي الفلسطيني. وتلك الخطوة تقتضي كذلك من السلطة الفلسطينية أن تبادر بتنفيذ قرارات المجلس المركزي بقطع التنسيق الأمني مع إسرائيل، وسحب الاعتراف بها، وعدم التقيد بأوسلو.

4- تحييد أطراف إقليمية: يمكن توظيف انشغال الأطراف الإقليمية التي كانت من بين العوامل المعرقلة للمصالحة - تركيا وإيران- من أجل الدفع قدمًا بخطى المصالحة والانتخابات. فبالنسبة لتركيا، سوف تكون مشغولة بترتيبات الحرب وتفاعلاتها، باعتبارها عضوًا في الناتو، وترى في الصراع والحرب في أوكرانيا تهديدًا مباشرًا لأمن البحر الأسود والبسفور، بل ولإمدادات الغاز الروسي، وبالتالي فهي منخرطة في مساعي تحويل التحدي إلى فرصة سياسية وجيوسياسية، تعزز من مكانتها في حلف الناتو وفي الاتحاد الأوراسي الروسي، الذي يمتد إلى وسط آسيا والجمهوريات المستقلة[17]. أما إيران، فإنها ترى في الأزمة فرصة يمكن استثمارها لتحقيق بعض المكاسب في مفاوضات فيينا النووية وفي أسواق النفط والغاز من أجل تعزيز دورها الإقليمي.

ختامًا، يمكن القول إن نجاح إسرائيل في خطى إعادة تموضعها دوليًا في إطار مساعيها لتوظيف الفرص الممكنة من الصراع الدائر في أوكرانيا من خلال محاولة لعب دور الوسيط، مازال يواجه تحديات، منها ما يخص تعقيدات الصراع ذاته، ومدى استعداد أطرافه للقبول بعقد صفقات من خلال تقديم بعض التنازلات المتبادلة في مقابل وقف الحرب، ويبدو أن الطرفين لم يصلا بعد إلى مرحلة "المأزق الضار المتبادل".

أما التحدي الآخر فيتمثل في مدى قبول واشنطن بعدم التزام إسرائيل بالانخراط في فرض عقوبات على روسيا أسوة بالولايات المتحدة وحلفائها بشكل كامل، والاكتفاء بالإدانة الدبلوماسية للغزو الروسي، خاصة وأن مشاركة إسرائيل بشكل فعال في فرض العقوبات على روسيا، سيضعها في مواجهة مباشرة معها، بما ينعكس على قدرتها على القيام بدور الوسيط "الناقل للرسائل" بين أطراف الصراع. وبالنسبة للجانب الفلسطيني، فهناك فرص وحلول عملية يمكن التعجيل بتوظيفها لصالح القضية، بدلًا من انتظار مآلات الحرب وتداعياتها على بنية النظام الدولي، أملًا في تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، من أجل التخلص من هيمنة الولايات المتحدة ودعمها المطلق لإسرائيل.


[1] - مادونا عماد، رسالة مُوجعة من روسيا إلى إسرائيل بعد دعمها أوكرانيا، المصري اليوم، 24-02-2022، متاح على الرابط التالي: https://www.almasryalyoum.com/news/details/2533858  

[2] - "قفزة نوعية".. اتفاق تعاون استراتيجي بين إسرائيل وألمانيا، العين الإخبارية، 2 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:   

https://cutt.us/potcl                                                                                                      

[3] - محلل "إسرائيلي": الشجاعة الوطنية الأوكرانية مثيرة للإعجاب لكن بها مبالغة كبيرة، موقع فلسطين اليوم، 7 مارس 2022، متاح على الرابط التالي: 

https://bit.ly/3J7dQew                                                                                                      

[4] -بينيت: إسرائيل تقف إلى جانب الشعب الأوكراني، سبوتنيك، 2/3/2022، متاح على الرابط التالي:  https://bit.ly/3sY8g8z                                                                                                    

[5] - قفزة نوعية في العلاقات الإسرائيلية ـ الألمانية، شولتس كشف عن خلافات حول الملف الفلسطيني، الشرق الأوسط، 3 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:  

https://bit.ly/3tNbquO

[6] - بينيت يطلق وساطة في النزاع الروسي الأوكراني..ما فرص نجاحها؟، دويتشه فيله، 6 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:https://bit.ly/3pPxTGI                                                                     

[7] - إعلام إسرائيلي: بينيت بحث مع بوتين في موسكو مواضيع تقلق "إسرئيل" جداً، الميادين، 5 مارس 2022، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3pTK3hv                                                     

[8] -رغم تباين حول أوكرانيا.. تنسيق روسيا وإسرائيل مستمر بسوريا، موقع العربية ، 26 فبراير 2022، متاح على الرابط التالي:https://bit.ly/3vWb7AQ                                                                 

[9] - وسام أبو شمالة، الموقف الإسرائيلي من الأزمة الروسية الأوكرانية، الميادين، 27 يناير 2022، متاح على الرابط  التالي:  https://bit.ly/3tNSyvM

[10]-  76% من الإسرائيليين يؤيدون الغرب ضد روسيا، الشرق الأوسط، 5 مارس 2022، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3KuKKpx             

[11]- راسم عبيدات، "ما تحقق في الشيخ جراح انتصار يبنى عليه"، موقع آمد للإعلام، 4 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:https://bit.ly/3HXC4GE                                                                   

[12]- مع بداية العام 2022، في القدس.. تطهير عرقي غير مسبوق لحسم الصراع الديمغرافي، وكالة الصحافة الفلسطينية صفا، 5 يناير 2022، متاح على الرابط التالي:         

https://safa.ps/p/319403

[13] - القضية الفلسطينية تسدد ثمن انشغال العالم بالأزمة الروسية – الأوكرانية، الشرق القطرية، 3 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:         

https://bit.ly/3MBqjJn

[14] - د. جمال زحالقة، "سبع ملاحظات حول إسرائيل والحرب في أوكرانيا"، وكالة معا الإخبارية، 3 مارس 2022، متاح على الرابط التالي:   

https://www.maannews.net/articles/2061966.html

[15] - القضية الفلسطينية تسدد ثمن انشغال العالم بالأزمة الروسية – الأوكرانية، مرجع سبق ذكره

[16] -شاكيد: سنستوعب آلاف المهاجرين اليهود من أوكرانيا وروسيا بالنقب، موقع عكا للشئون الإسرائيلية، 3 مارس 2022، ، متاح على الرابط التالي:    

https://bit.ly/3KOZfF1            

[17] - ما هي تداعيات الأزمة الأوكرانية على إسرائيل والمقاومة الفلسطينية؟، قدس برس، 13 فبراير 2022، متاح على الرابط التالي:      

https://www.qudspress.com/index.php?page=show&id=76066                              


رابط دائم: