وقع الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أيام، في وقت تتصاعد فيه متاعب الاقتصاد العالمي مع اقتراب مرحلة ما بعد كوفيد-19، وإعادة فتح الاقتصادات حول العالم. ويهدد هذا النزاع المسلح، الذي يشمل أحد أكبر مصدري عدد من السلع الأساسية الهامة، بمفاقمة الاضطرابات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في مسار تعافيه من أزمة كوفيد-19، وبتعقيد الأوضاع الداخلية في روسيا وأوروبا، بالإضافة إلى عدد كبير من الاقتصادات الهشة حول العالم، البعيدة تماماً عن هذا الصراع وحساباته.
وعلاوة على ذلك، فمن المُتوقع أيضاً أن تمتد تداعيات هذا النزاع، من خلال قنوات إضافية، كالعقوبات والإجراءات المضادة لها، والتحالفات، لتضيف تعقيدات طويلة الأجل إلى منظومة التكامل الاقتصادي العالمي، تدفع نحو المزيد من التفكك الحاصل منذ الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من عقدٍ، مروراً بالنزاع التجاري قبل أعوام، وأخيراً بأزمة كوفيد-19 ومآلاتها.
المزيد من التضخم وتبعاته
أدت إعادة فتح الاقتصادات العالمية خلال عام 2021، ونهاية عام 2020، بالتزامن مع حزم التحفيز والمساعدة الحكومية الهائلة غير المسبوقة، إلى تنامي الطلب العالمي بصورة سريعة، مع عجز المعروض عن مجاراته، بسبب استمرار معاناة عدد من القطاعات والقدرات الإنتاجية حول العالم من الإغلاق المتكرر، جراء الموجات المتتابعة والتحورات الجديدة لفيروس كوفيد-19، بالإضافة إلى الهامش الزمني المتأخر لاستجابة العرض، في صورة الفترة اللازمة لزيادة الاستثمارات والقدرات الإنتاجية، وكذلك بسبب نقص العمالة، في الاقتصادات الغنية على الأخص، على خلفية حزم المساعدات الحكومية السخية للمواطنين، والتي جعلت من العمل في الوظائف منخفضة الأجر غير مجدٍ لهم في الوقت الحالي من الناحية المادية.
نتج عن ذلك موجة تضخم عالمي هي الأكبر منذ سنوات طويلة، وفي حالة بعض البلدان الغنية، الأكبر منذ عقود. وانعكس ذلك بصورة رئيسية على أسعار السلع الأساسية، والتي ارتفعت في المجمل خلال عام 2021، بـ 38% عن عام 2019 قبل تفشي وباء كوفيد-19، من خلال زيادة في أسعار السلع الغذائية بـ 30%، والطاقة بـ 41%، والمواد الخام الصناعية، بـ 42.7%[1]
ويهدد الغزو الروسي لأوكرانيا بتحفيز المزيد من التضخم العالمي خلال العام الحالي، من خلال زيادة أسعار السلع الأساسية بصورة إضافية، بسبب المخاوف من اضطراب الصادرات من البلدين، تأثراً بالاقتتال الدائر بصورة مباشرة من ناحية، أو بالعقوبات على روسيا من أخرى. ويأتي ذلك بسبب ثقل البلدين، وبالأخص روسيا، في سوق تصدير عدد من السلع الأساسية الأهم، وفي مقدمتها مصادر الطاقة. وتتبادل روسيا بشكل متكرر مع المملكة العربية السعودية، ترتيب أكبر مُصدر للنفط حول العالم من عام لآخر، وكانت قد حلت في المرتبة الثانية في عام 2019، قبل أزمة كوفيد-19، بصادرات بلغت 8.4 مليون برميل يومياً، بما يتخطى 10% من الصادرات النفطية العالمية، مقابل 8.5 مليون برميل يومياً من السعودية. وعلاوة على ذلك، فإن روسيا هي أيضاً أكبر مُصدري الغاز الطبيعي عالمياً، وبفارق كبير عن بقية العالم، بصادرات وصلت إلى 260 مليار متر مكعب في عام 2019، أي أكثر من ربع الصادرات العالمية من الغاز الطبيعي. وكذلك، تعد روسيا أيضاً ثالث أكبر مُصدر للفحم حول العالم، بعد استراليا واندونيسيا.[2]
وعلى صعيد السلع الغذائية، فإن روسيا وأوكرانيا هما أكبر، وخامس أكبر، مُصدري القمح عالمياً على التوالي، وذلك بكميات وصلت في عام 2019، إلى 32 مليون طناً تقريباً من الصادرات الروسية، و14 مليون طناً من أوكرانيا. كما يعد البلدان أيضاً ضمن أكبر خمسة مصدرين للحبوب في المجمل عالمياً، بصادارت مجتمعة بلغت 82 مليون طناً من الحبوب في عام 2019.[3] وكذلك، فإن روسيا هي أكبر مُصدري الأسمدة عالمياً، بـ 7 ملايين طناً سنوياً تقريباً،[4] ومن كبار مصدري معادن هامة أيضاً، في مقدمتها الألومنيوم والنيكل.
وفي حين ستؤدي المعارك بصورة مباشرة إلى اضطراب الصادرات الأوكرانية، وبالأخص من الحبوب، فإن التأثير على الصادرات الروسية، بمختلف أنواعها، سيتم من بوابة العقوبات. وخلال الأيام الماضية وبصورة فورية، فقد أدت المخاوف من هذه الاضطرابات المختلفة، إلى ارتفاع أسعار النفط، وتخطيها حاجز الـ 100 دولاراً للبرميل، لأول مرة منذ عام 2014. وكذلك، فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي، قياساً على مؤشر (US Henry Hub) المعياري، وتخطت مجدداً حاجز 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.[5] ومن المتوقع أيضاً أن تُترجم هذه الاضطرابات والمخاوف سريعاً إلى زيادات في أسعار الحبوب والسلع الزراعية.
وبدورها، ستعزز هذه الضغوط التضخمية الإضافية، من تداعيات موجة التضخم المستمرة منذ النصف الثاني من العام الماضي. وتشمل هذه التداعيات إبطاء الطلب العالمي، وبالتالي النمو والتشغيل، وكذلك تهديد الأمن الغذائي للبلدان الفقيرة على وجه الخصوص، والتي لم تتخط التداعيات المباشرة لأزمة كوفيد-19 حتى الآن. كما يشمل ذلك أيضاً الرفع المرتقب لأسعار الفائدة في الاقتصادات الغنية، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، بغرض كبح التضخم، وهو ما سيؤدي إلى خروج رؤوس الأموال الأجنبية من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية،[6] نحو السوق الأمريكي بالأساس، بما قد يهدد باندلاع أزمات ديون سيادية في عدد من الاقتصادات الفقيرة والنامية.
تعقيدات العقوبات على روسيا
بخلاف التضخم العالمي، فإن التداعيات الاقتصادية للغزو الروسي، قد تكون أكثر حدة وخطورة على الاقتصادين الروسي والأوروبي، من بوابة العقوبات التي بدأت بالفعل تتوالى على الاقتصاد الروسي، والأخرى التي يتم التلويح بها، وكذلك من رد الفعل الروسي إزائها. فقد أقرت الولايات المتحدة، والمفوضية الأوروبية، والمملكة المتحدة، وكندا، حزمة عقوبات على روسيا تضمنت بطبيعة الحال العقوبات التقليدية من تجميد أصول أفراد ومؤسسات روسية. ولكن علاوة على ذلك فقد شملت العقوبات، حتى يوم 26 فبراير، تصعيداً قوياً من خلال إجرائين يستهدفان عزل جزءٍ من النظام المالي الروسي عن الاقتصاد العالمي. فقد تم إخراج بنوك روسية مختارة من منظومةSWIFT البنكية الدولية، وهو ما يعني حجبها عن تلقي معلومات وتعقب المعاملات البنكية الدولية، وهو من شأنه أن يُبطئ التبادل التجاري المارة مدفوعاته عبر هذه البنوك. وكذلك، فقد تم تجميد جزء كبير من الاحتياطيات الخارجية للبنك المركزي الروسي، التي تناهز الـ 650 مليار دولاراً.
تستهدف العقوبات على البنوك الروسية تعطيل التبادل التجاري الروسي مع العالم، الذي تجري معاملاته من خلال هذه البنوك، مع العلم أن العقوبات قد استثنت المعاملات والبنوك المتعلقة بصادرات روسيا من الطاقة، نظراً لاعتماد أوروبا بشكل أساسي عليها. ويستورد الاتحاد الأوروبي 27% من احتياجاته النفطية، و41% من الغاز، و46% من الفحم، من روسيا.[7] وفي ظل أزمة نقص الطاقة العالمية التي ظهرت للسطح خلال النصف الثاني من العام الماضي، على خلفية تعافي الطلب، ونقص المعروض، خاصة بسبب سياسات التحول الأخضر، فسيكون من شبه المستحيل تعويض إمدادات الطاقة الروسية لأوروبا بشكل فوري، أو حتى على الأجل المتوسط. وبذلك، فإن تعطيل صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا سيكون له آثار مدمرة للاقتصاد الأوروبي، والحياة اليومية لمواطنيه، تفوق خسارة روسيا لإيراداتها، وقد تكون هذه الأزمة قد أسهمت في اختيار الإدارة الروسية توقيت غزو أوكرانيا.
ويفسر ذلك أيضاً، خطوة تجميد جزء كبير من الاحتياطيات الخارجية الروسية، في خطوة غير مسبوقة لاقتصاد بهذا الحجم، وهي الاحتياطيات التي ربما كانت تنوي روسيا الاعتماد عليها لتخفيف آثار تراجع أو توقف إيرادات صادراتها، وبالأخص الطاقة، حال تفاقم العقوبات. وعلاوة على ذلك، فإن تجميد الاحتياطيات من شأنه أن يؤدي كذلك إلى تراجع قيمة العملة الروسية بشكل حاد، بما يرفع من معدل التضخم داخل روسيا، ويؤدي إلى تراجع مستويات المعيشة، وهو ما قد يخدم تعزيز الضغوط الشعبية الداخلية على الإدارة الروسية.
وبمقدور الولايات المتحدة أيضاً إذا تطلب الأمر، فرض عقوبات إضافية بمنع بنوك أو مؤسسات روسية معينة من التعامل بالدولار، بما يعني إخراجها فعلياً من المنظومة المالية العالمية، وبالتالي من التجارة الدولية، التي تعتمد على الدولار كعملة التبادل. وبإمكان الولايات المتحدة الإقدام على ذلك نظراً لأن تسوية المعاملات الدولية البنكية التي تتم بعملة الدولار، تمر بالولايات المتحدة في نهاية المطاف، من خلال منظومة تسوية المدفوعات CHIPS، والتي تضطلع بتسوية ما يناهز 1.8 تريليون دولاراً أمريكياً يومياً.[8] ويعد البديل باللجوء إلى عملات أخرى غير واقعي حالياً، نظراً لأن التبادل من خلالها سيكون أبطأ وأقل حجماً وكفاءة، ويشبه منظومة المقايضة إلى حد كبير. فإذا قررت روسيا التصدير إلى الصين على سبيل المثال، مقابل العملة الصينية اليوان بدلاً من الدولار، فإن هذه الإيرادات ستستخدمها روسيا في الاستيراد من الصين فقط مجدداً، لأن البلدان الأخرى لن تقبل العملة الصينية مقابل التصدير إلى روسيا.
أما من ناحيتها، فمن المُستبعد أن تتقبل روسيا هذه العقوبات طويلاً، والتي تستثني الطاقة، بدون ردة فعل، لأنها بذلك ستستمر في تصدير الطاقة إلى أوروبا مقابل إيرادات من النقد الأجنبي مجمدة أو شبه مجمدة، يصعب استخدامها في شراء احتياجاتها الخارجية من السلع والخدمات الأخرى. وقد يأتي بذلك رد الفعل الروسي في صورة وقف صادرات الطاقة إلى أوروبا، وهو ما سيشكل صدمة فورية عنيفة للنشاط الاقتصادي والحياة اليومية في أوروبا.
التداعيات طويلة الأجل والتكامل العالمي
أدى التوسع في استخدام العقوبات الاقتصادية خلال العقود القليلة الماضية، كأحد أهم أدوات السياسة الخارجية عالمياً، وتطبيقها بكثافة ولسنوات طويلة في عدد من الحالات، في مقدمتها إيران على سبيل المثال، إلى تطوير آليات مضادة للتعايش مع هذه العقوبات، والالتفات عليها، بما في ذلك إخفاء أصول المؤسسات والأفراد المستهدفين، وخلق قنوات ومؤسسات بديلة للمعاملات المالية الخارجية، وأسواق سوداء لتجارة السلع المحظورة من أو إلى البلدان المستهدفة. وبدوره أدى ذلك التراجع في أضرار العقوبات المُركزة، إلى اللجوء إلى عقوبات أشد وأكثر ضرراً وشمولاً، تنتفي عنها صفة الاستهداف للنظام الحاكم أو مؤسسات أو أفراد فاعلين بعينهم، وتتوسع أضرارها لتشمل الاقتصاد برمته، ومن ثم المواطنين وأمانهم المعيشي، ربما رغبة في زيادة الضغوط الشعبية الداخلية على الأنظمة المستهدفة، وهو ما يمكن ملاحظته في العقوبات الأخيرة على روسيا.
وبسبب التكامل الاقتصادي، والاعتماد المتبادل، فإن العقوبات الاقتصادية على روسيا، من خلال حصار قطاعها المالي وتجارتها، ورد الفعل الروسي المحتمل، قد تضر في الوقت ذاته، بأوروبا بسبب اعتمادها على الطاقة الروسية، كما أضرت القيود الأمريكية على الصين أثناء النزاع التجاري، وستضر أكثر إذا تم التوسع في فرضها، بالاقتصاد الأمريكي بسبب اعتماده على المكونات والسلع المُصنعة في الصين. وفي حين يتضرر الاقتصاد الروسي (والصيني) بطبيعة الحال بالعقوبات والقيود الاقتصادية واسعة النطاق هذه، فإن الرهان هنا قد يكون على قدرة هذه الأنظمة على تخطي تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين وضغوطهم، نظراً لأنها تصنف كأنظمة غير ديمقراطية لا تخضع للمساءلة الشعبية وفقاً لبعض التصنيفات الأكاديمية[9]. أما على الجانب الآخر، فإن تدهور الأوضاع المعيشية في البلدان الديمقراطية، في أوروبا أو الولايات المتحدة، جراء العقوبات على روسيا (أو الصين)، من خلال قنوات كالتضخم ونقص السلع وتوقف إمدادات الطاقة وغيرها، يهدد بتغيير الأنظمة الحاكمة و/أو السياسات في هذه البلدان عبر الانتخابات، تحت ضغط المعاناة الاقتصادية لمواطنيها. وكانت الصين قد راهنت على ذلك خلال نزاعها التجاري مع الولايات المتحدة، أثناء حكم ترامب، عبر الرهان على الوقت، وخسارة ترامب للانتخابات بسبب التداعيات الاقتصادية على الولايات المتحدة جراء النزاع التجاري من ناحية، ثم أزمة كوفيد-19 بعد ذلك، وهو ما تحقق بالفعل، وتراجع تصعيد النزاع بعد فوز بايدن، حتى وإن لم يتم التراجع عن أغلب القيود التي فرضها سابقه.
إن الدخول في نزاع اقتصادي قائم على فرض القيود والعقوبات، بين بلدان ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية، متكاملة اقتصادياً، مع تداعيات سلبية متشابكة على الجانبين، قد يمثل مخاطرة أكبر على الأنظمة في الأولى، التي تصبح أكثر هشاشة وعرضة للتغيير بمرور الوقت تحت الضغط الشعبي. وبالتالي فإن امتداد النزاع والعقوبات في هذه الحالة لا يكون في مصلحتها، وهو ما باتت تدركه الأنظمة في الثانية، وتستغل بذلك نقطة الضعف البنيوية هذه في نزاعاتها، أملاً في تغيير الأنظمة أو السياسات في البلدان الديمقراطية، إلى أخرى أقل عدائية تجاهها.
وعلى الجانب الآخر، فقد باتت البلدان الديمقراطية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا، أكثر إدراكاً لهذه الإشكالية، والهشاشة الداخلية الطبيعية لأنظمتها في النزاعات الاقتصادية مع القوى غير الديمقراطية. وبدأت بالتالي في إدراك أن الحل هو في تفكيك التكامل الاقتصادي مع هذه القوى، وتقليص الاعتماد عليها، لتجنب التداعيات السلبية الداخلية من فرض العقوبات والقيود، التي بات استخدامها أكثر شيوعاً. وقد عبرت إدارة بايدن صراحة عن ذلك في برنامجها الساعي إلى إعادة سلاسل التوريد الصناعية إلى داخل الولايات المتحدة، وتقليص اعتمادها على الصين لأغراض استراتيجية، وتعكسه أيضاً رغبة أوروبا في تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية، عبر تنويع المصادر، والتحول إلى الطاقة الخضراء بالأساس. يعني ذلك بالتالي، أن هنالك توجهاً غربياً واضحاً يصب نحو المزيد من تقليص التكامل الاقتصادي العالمي، ربما لصالح تعزيز التكامل الإقليمي والتكتلات المتقاربة سياسياً، ولكن الوقت هو ما سيثبت مدى واقعية تحقيق هذا التوجه، بالتزامن مع الحفاظ على نمو قوي وتحسن في مستويات معيشة المواطنين للجانبين، سواء بدون مصادر الطاقة والعمالة والسلع والمكونات منخفضة التكلفة التي توفرها القوى النامية غير الديمقراطية، أو الأسواق الواسعة والتقنيات والاستثمارات التي توفرها الديمقراطيات الغربية
[2] British Petroleum (2022), “Statistical Review of World Energy 2021, 70th Edition”.
[3] Food and Agriculture Organization (2022), “FAOSTAT Database”.
[4] World Bank (2022), “World Bank Integrated Trade Statistics Database”.
[6] International Monetary Fund (2021), “World Economic Outlook: Recovery During a Pandemic, Health Concerns, Supply Disruptions, and Price Pressures”, Washington, DC, October.