مصالح متشابكة: مفاوضات فيينا واتجاهات الصراع في الشرق الأوسط
2022-2-27

لا تحظى أزمة البرنامج النووي الإيراني باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط نتيجة طابعها الفني، أو التكنولوجي، أو حتى البيئي فحسب، رغم أهمية كل ذلك بالطبع، بل بسبب ارتداداتها الإقليمية التي تؤثر فى اتجاهات التفاعلات التي تجري على ساحة منطقة الشرق الأوسط برمتها. فقد باتت كل الأزمات الإقليمية مرتبطة ببعضها بعضا لدرجة أن التطورات التي تؤثر في إحداها سرعان ما تنعكس مباشرة على الأزمات الأخرى، وهو ما يعود في المقام الأول إلى تشابك مصالح القوى الدولية والإقليمية المعنية بها والمنخرطة فيها.

من هنا، سعت دول عديدة في المنطقة إلى تبني الدعوة إلى ضرورة المشاركة في المفاوضات التي تجري حول تلك الأزمة، وتوسيع نطاقها، ليشمل التدخلات الإيرانية في المنطقة وبرنامج الصواريخ الباليستية، وتبنت أسانيد عديدة تضفي وجاهة خاصة على ذلك، إلا أن إيران رفضت هذا التوجه مستعيضة عن ذلك بالترويج إلى أنها حريصة على اطلاع دول المنطقة على تطورات تلك المفاوضات. كما أن القوى الدولية لم تصر على ذلك، لحرصها على منح الأولوية للوصول إلى صفقة توقف تسارع الأنشطة النووية الإيرانية.

ومن دون شك، فإن ثمة متغيرين يزيدان من اهتمام دول المنطقة بتداعيات أزمة البرنامج النووي الإيراني، والمسارات المحتملة للمفاوضات النووية: المتغير الأول، يتمثل في أن الأزمة النووية قد تتجدد مرة أخرى في مرحلة لاحقة بصرف النظر عن النتائج التي سوف تنتهي إليها المفاوضات في فيينا، خاصة أنه لا يوجد ما يضمن أن يلتزم كل الأطراف المشاركين في الاتفاق بما يتضمنه من تعهدات. بمعنى آخر، فإن المسار الذي اتجهت إليه الأزمة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد يتكرر مجددًا في حالة ما إذا لم ينجح الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، في تجديد ولايته الرئاسية في الانتخابات المقبلة، وجاء رئيس أمريكي جديد يتبنى نهجًا مختلفًا عن السياسة الحالية، أو نجح الرئيس السابق ترامب في العودة مجددًا إلى البيت الأبيض، رغم أن ذلك يخالف القاعدة السياسية المتعارف عليها في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في حالة ما إذا أصرت إيران على الالتفاف على التزاماتها في الاتفاق مرة أخرى. وقد وصل عدم الثقة الإيرانية في السياسة الأمريكية إلى حد أن إيران باتت مقتنعة بأن “تغيير الوجوه في البيت الأبيض لا يغير من الحقيقة في شىء”.

المتغير الثاني، ينصرف إلى أن إيران قد لا تستبعد خيار الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية أيًا كان المسار الذي سوف تتجه إليه أزمة البرنامج النووي. فهذه المرحلة تتطلب توافر شرطين: أولهما، امتلاك القدرات والإمكانيات التكنولوجية والمالية المطلوبة في هذا السياق. وثانيهما، هو اتخاذ قرار سياسي بإنتاج القنبلة النووية. وفي حالة إيران، فإنها تتجه بشكل منتظم إلى استيفاء الشرط الأول، وإن كان ذلك لا ينفي أنها ما زالت في حاجة إلى قدرات أخرى غير الوصول إلى مستوى 90 % في تخصيب اليورانيوم، لكنها، على ما يبدو، ووفقًا لتقديرات غربية، لم تتخذ القرار السياسي بعد، للانخراط في هذا المسار، أو اتخذته في مرحلة سابقة، ثم تراجعت عنه عندما لم تكن أنشطتها النووية على هذا المستوى الخطير الذي تبدو عليه حاليًا.
بعبارة أخرى، إن إيران قد لا تكون قد استقرت بعد على أىٍ من النموذجين النوويين يمكن أن تتجه. إلى النموذج الياباني، الذي يعتمد على امتلاك مختلف القدرات المطلوبة لإنتاج القنبلة النووية دون إنتاجها بالفعل، أى دون أن يكون هناك قرار سياسي في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه يحظى بتأييد دولي، أم إلى النموذج الكوري الشمالي، الذي يقضي باتخاذ هذا القرار بالفعل بعد امتلاك القدرات اللازمة لإنتاج القنبلة النووية، وفي الوقت نفسه يتعرض لعزلة دولية.

اللافت في هذا السياق، هو أن هذا المسار سوف يكون له تأثير مباشر فى التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية. إذ إنه قد يدفع بالمنطقة للدخول في مرحلة جديدة من سباق التسلح غير التقليدي بحسبان أن هناك قوى إقليمية عديدة لن تتسامح مع التعرض لانكشاف استراتيجي مزدوج نتيجة دخول دولة أخرى في الشرق الأوسط “النادي النووي” مع إسرائيل. وقد أشارت بعض دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار السعودية، إلى أنها قد تتجه إلى هذا المسار بالفعل.

وربما تدفع استراتيجية تقليص الانخراط في أزمات المنطقة التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الاتجاه. فبقدر ما كان التدخل الأمريكي في أزمات عديدة بالمنطقة سببًا في تفاقمها، على غرار ما حدث في العراق وأفغانستان على مدار الأعوام العشرين الأخيرة، بقدر ما سيكون للانسحاب الأمريكي منها عواقب سلبية عديدة عليها.
ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول تعويض أى فراغ محتمل يمكن أن ينتج عن تفعيل تلك الاستراتيجية، عبر التركيز على تعزيز الوجود العسكري “النوعي”، وليس “الكمي”، الذي تسعى عبره إلى توجيه رسائل “رادعة” إلى خصومها الإقليميين، فضلًا عن دعوة القوى الرئيسية في المنطقة إلى تقليص حدة الصراعات فيما بينها، والانخراط في شراكات متعددة قد تساعد في تسوية الأزمات المختلفة، فإن ذلك قد يواجه عقبات لا تبدو هينة.

فقد اختبرت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، هذه المقاربة في مرحلة ما بعد الوصول إلى الاتفاق النووي عام 2015، إلا أنها في النهاية أنتجت مفاعيل عكسية، فضلًا عن أن هذا الانسحاب بدأ يغري قوى دولية عديدة لتعزيز تدخلها في أزمات المنطقة، عبر مداخل مختلفة، سواء اقتصادية أو عسكرية، خاصة أن هذا التدخل قد يخدم مصالحها وحساباتها في أزمات أخرى دولية بعيدة عن نطاق الشرق الأوسط على غرار الأزمة في أوكرانيا وتايوان.

الأكثر خطورة من ذلك هو أن هذه التطورات تتوازى مع سعى التنظيمات الإرهابية إلى محاولة استعادة نفوذها من جديد، وربما الإقدام على تأسيس نسخ أكثر شراسة منها على غرار ما يسعى تنظيم “داعش” في الوقت الحالي. إذ إن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في تصفية زعيم تنظيم “داعش”، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، في 3 فبراير 2022، بعد نحو عامين ونصف العام من تصفية الزعيم السابق أبو بكر البغدادي، لا يعني أن التنظيم في طريقه إلى التراجع أو الخفوت بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة.

إن ما سبق في مجمله يطرح دلالة مهمة تتعلق بأن منطقة الشرق الأوسط تبدو مقبلة على استحقاقات استراتيجية عديدة سوف يكون لها تأثير فى أنماط التفاعلات الإقليمية التي تجري فيها على نحو يوحي بأن الصراع القادم في الشرق الأوسط لن يكون بين قوى إقليمية تتباين مصالحها في الملفات المختلفة، بل سيكون بين متغيرات حدية على غرار الاستقرار أو الفوضى، الدولة الوطنية أو الدولة الفاشلة، الجيوش النظامية أو الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.


رابط دائم: