خلال الأسابع القليلة المقبلة، ستدخل الحرب فى اليمن عامها الثامن. ورغم ذلك، لا يوجد مسار واضح لإنهاءها من جانب أطراف الصراع. فالخيارات المتأرجحة ما بين التصعيد العسكري المستدام ومبادرات التسوية في بعض الأحيان لم تشكل متغيراً نوعياً فى مسار الأزمة، بينما تتفاقم تداعياتها الأمنية والاقتصادية والإنسانية التي تردت إلى حد الكارثة وفق توصيف الأمم المتحدة. وبالتبعية، فإن استدامة الصراع تعقد الوضع السياسي وتفرض المزيد من التحديات أمام استئناف مسار التسوية المجمد منذ أكثر من ثلاث سنوات بعد جولة السويد (ديسمبر 2018) التي أسفرت عن اتفاق ستوكهولم الذي لم يدخل حيز التنفيذ العملي.
يطرح هذا السياق تساؤلاً حول إمكانية إنقاذ مسار التسوية فى ضوء الحراك الذي شهده ملف الأزمة اليمنية مؤخراً، والذي انعكس في الإفادة التي قدمها المبعوث الأممي إلى اليمن هانس جروندبرج أمام مجلس الأمن (16 فبراير 2022) وأبدى فيها قدراً من التفاؤل حول إمكانية إطلاق عملية سياسية جديدة لإحلال السلام فى اليمن بحلول ربيع العام الجاري، والتي يبدو أن الولايات المتحدة كانت على اطلاع على ملامحها الأوّلية.
فقد تطرق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين ونظيره السعودي فيصل بن فرحان إلى هذا الملف على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، وأبدى الأخير قدراً من الاستجابة فى مداخلته لكنه وضع النقاط على الأحرف هذه المرة بالإشارة إلى أن الأمر يمكن وضعه على طاولة المباحثات مع إيران بشأن "خفض التصعيد الإقليمي"، لكن من المؤكد أن ذلك سيتوقف على مدى استجابة الأخيرة للحل ورؤيتها لتفاصيله. وفى السياق ذاته، التقى الأمين العام للأمم المتحدة أنتوتي غوتيريش مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، دون الكشف عن تفاصيل فى هذا الصدد.
وتطرح هذه التطورات منظوراً مختلفاً لإمكانية إطلاق عملية سياسية فى اليمن، التي أثبتت الخبرة أنها لا يمكن أن تستند فقط إلى جهود الأمم المتحدة، بل على العكس، يمكن القول إن جهود الأمم المتحدة يمكن أن تأتي بعد وضع إطار للحل وليس قبله، فالإطار الذي يمكن أن يشكل رافعة هو حل الأزمة ما بين الطرفين الأصيلين: السعودية وإيران بشكل مباشر، ومن المتصور أن السعودية لديها الرغبة فى إنهاء الحرب بالشكل الذي يضمن تسوية الحد الأدنى المقبولة، ويمكن العودة فى هذا السياق تاريخياً إلى نموذج الستينيات، عندما توصلت مصر والسعودية إلى ضرورة إنهاء "لعبة الحرب" فى اليمن التي شكلت فاتورتها عبئاً على أطرافها، وهى واحدة من الدروس المستفادة، فمهما كان بإمكان الأطراف المنخرطة فى الحرب الصمود وتبادل التصعيد لسنوات أخرى، ففى الأخير هناك نقطة نهاية تتطلب مبادرة وإرادة سياسية وتنازلات كما أشار هانس جروندبرج فى إفادته.
على هذا النحو، يمكن القول إن الرياض تقدمت من جانبها عدة خطوات إلى الأمام. فعلى سبيل المثال، يبدو أنها استجابت لرغبة أمريكية بترحيل مطلب إعادة إدراج الحوثيين مرة أخرى على اللائحة السوداء، وبالتالى يمكن منح فرصة تالية للحل، والانتقال إلى خطوة أكثر عملية بعرض استئناف جولات المباحثات المباشرة مع طهران التي تمتلك مفتاح التأثير على الحوثيين.
لكن فى مقابل ذلك، لم تبد طهران خطوات مماثلة، ولا تزال تتحرك فى نفس المكان، ولا يعتقد أنها سوف تتحرك قبل أن يكون هناك ثمن واضح لكل خطوة قبل أن تخطوها وفق ثقافة "البازار"، وبالتالي لا يعتقد أن تسوية الملف النووي الإيراني الوشيكة ستنعكس على المسار الإقليمي، بشكل عام والأزمة اليمينة بشكل خاص، بل على العكس من ذلك، فإن الاتفاق سيقوي إيران ويزيد من صلابة موقفها حيال تلك الملفات، ففى الأخير لم تتعرض إيران أو أىٍ من وكلائها الإقليميين لهزيمة عسكرية تدفعها إلى التراجع إلى حدودها الطبيعية، بل على العكس، فإن أمراء الحرب فى اليمن لا يزال لديهم القدرة على الصمود فى الحرب وجنى أرباحها.
تداعيات الأزمة
لكن على الجانب الآخر، فإن تلك الأرباح لن تستمر طويلاً، مهما كانت القدرة على الصمود العسكري من جانب الحوثيين، فى ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية وعدم قدرة المانحين على الوفاء بالتزاماتهم فى ظل وجود أولويات أخرى، منها تداعيات الأزمة الأوكرانية التي ستفرض على أوروبا باعتبارها مانحاً رئيسياً إعادة توجيه أولوياتها لتداعيات الأزمة، بل على العكس، فإن نفس الأزمة سيكون لها تداعياتها على ارتفاع أسعار النفط، التي لن تشكل أزمة تمويل لدى الرياض، لكن الأهم من هذه الاحتمالات، هو أن استمرار الحرب من جانب التحالف، حتى وإن كان يمثل عامل استنزاف للموارد المختلفة، لكنه فى الوقت ذاته يحول دون تحقق المشروع الحوثي، أو بالأحرى المشروع الإيراني لاستنساخ تجربة حزب الله فى لبنان بعد الحرب الأهلية، حيث لا توجد أرضية لتمكين هذا المشروع الأيديولوجي فى اليمن، لاسيما بمنطق "العسكرة"، فحتى الآن لم تنتج "المسيرة القرآنية" التي يفرضها الحوثي "عمائم" أو "مرجعية" يمكن ترسيخها بشكل حقيقي، حتى وإن اعتبرت دروس المؤسس حسين بدر الدين الحوثي بمثابة مرجعية، فلا شك أنها ستصطدم فى جانب منها بمدرسة "قم"، ولا يعتقد أن الحوثي يمكن أن يشكل مرجعية مستقلة خارج هذا الفلك على غرار المرجعية العراقية فى النجف.
ويمكن القول إن هذه المسالة جوهرية فى الصراع اليمني، فمشروع الحرب فى اليمن يستند على أبعاد جيوسياسية من جانب، بالنسبة للحوثيين وإيران، وبعد أيديولوجي من جانب آخر، وكلاهما لن تحسمه الحركة فى الأمد المنظور. كذلك يمكن القول إن هذه المسألة جوهرية فى الصراع أيضاً بالنسبة للحكومة المعترف بها، والتي تقيم فى الرياض، فهي فى واقع الأمر قادرة على تشخيص الأزمة فى إطار مقاربة السلطة فقط، لكنها لم تقدم "المضاد الأيديولوجي" للمشروع الحوثي، وهو عملياً مشروع "الدولة الوطنية"، وهو تحدي أكثر صعوبة من المشروع الذي يسعى الحوثي لفرضه، كون "الدولة الوطنية" لم تترسخ في اليمن تاريخياً، فى حين أن المشروع الحوثي كانت له إرهاصاته التاريخية.
إشكاليات المبادرات
هذه النقاط المحورية يمكن تلمسها فى بعض بعض المبادرات الخاصة بالأزمة، عندما يدرج بند الحفاظ على وحدة اليمن، وعالجها اتفاق الرياض الخاصة بالمشكلة الجنوبية، لكن تلك المعالجة ظلت إطارية أكثر منها تنفيذية، وهى إشكالية أخرى فى المبادرات الأممية، التى ترحل الأزمات الأخرى الناشئة عن الحرب فى اليمن، حيث لا تزال تحتزل الأزمة فى الصراع فى الشمال، بينما هناك أزمة تتدحرج فى الجنوب، وتصعد وتهبط بحسب التفاعلات السياسية ما بين المجلس الانتقالى والحكومة المعترف بها تارة، وما بين الانتقالى والأقاليم الجنوبية لاسيما حضرموت تارة أخرى.
فوقف إطلاق النار يتطلب المسار الثنائي ما بين الحكومة والحوثيين، لكن حل الأزمة يتطلب جلوس كافة الأطراف إلى طاولة الحوار بشكل عام، وليس الحوثيين فقط، وإلا ستكون السلطة فى الشمال موزعة ما بين حكومة الرئيس منصور هادي والحوثيين، بافتراض التوصل إلى تسوية فى المستقبل، وموزعة بين الحكومة ذاتها والانتقالى فى الجنوب، وهى نقطة أخرى تتطلب وضعها فى الاعتبار، فالحكومة المعترف بها لا تملك ظهيراً شعبياً فى الشمال أو الجنوب، وربما تمتلك ظهيراً من شبكات المصالح السياسية هى الأخرى.
إن الاستنتاج الرئيسي لهذا التصور يكشف عن أن الهندسة السياسية المعتمدة لعملية التسوية فى اليمن هى فى الأخير محاولة لمعالجة أزمة الصراع على السلطة، وهو نفس "المانفستو" الذي تتبعه الأمم المتحدة فى ليبيا، على نحو ما ورد في سياق الحديث عن إطلاق مسارات سياسية واقتصادية وأمنية كخريطة طريق للحل، ورغم أن هذا الأسلوب لم يحل الأزمة الليبية، إلا أنه يعاد إنتاجه فى الأزمة اليمنية الأكثر تعقيداً، والتي ستزداد تعقيداً بمرور الوقت، فليبيا بلد غني بالموارد ما قد يدفع الأطراف المنخرطة فى الأزمة إلى محاولة الوصول إلى توافقات الحد الأدنى، على العكس فى اليمن، هناك فقر فى الموارد، لكن القيمة الجيوسياسية وبعد الاستقرار الإقليمي قد يشكلان معادلاً لغياب الموارد، وهو الوتر الذي تعزف عليه إيران التي تعتمد الأزمة كورقة مساومة إقليمية.
فى الأخير، تظل الجهود الأممية محورية فى دفع مسار الأزمة اليمنية، لكنها تظل مجرد "وسيط مُيَسِّر" بين الأطراف، وبالتالي يتعين على هذا الطرف ابتكار حلول وساطة عملية وشاملة وقابلة لتحقيق مصالح مختلف الأطراف بدلاً من هندسة التفكيك والتعامل بالقطعة التي تم طرحها فى مبادرة ستوكهولم، والتي تشكل عملية إعادة إحياءها إعادة لإنتاج نفس المسار الخاطىء لخريطة الطريق لحل الأزمة اليمنية مرة أخرى. ولا يعتقد أن ستوكهولم أو جنيف ستكون بداية موفقة إن لم ينضج مسار "الرياض – طهران" أولاً، والذي قد يكون مفتاح لبداية الحل الحقيقي في النهاية.