معضلة العودة: أفغانستان تحت الحكم الثاني لطالبان
2022-1-30


تحاول الدراسة الإجابة عن سؤال رئيسي، مفاده كيف استطاعت حركة طالبان تحقيق تقدمها السريع، وسيطرتها على الحكم في أفغانستان قبل إتمام خطة الانسحاب الأمريكي بأسبوعين؟ ذلك التقدم الذي بدا غير عشوائى، وإنما مخطط له من خلال استراتيجية واضحة الأهداف على المستوي، الاقتصادي والعملياتي، الأمر الذي يشير إلى أن الحركة اعتبرت الحقبة التي أقصيت فيها عن الحكم فترة لإعادة ترتيب الأوراق، والتعلم من الأخطاء، وإعادة التأهيل، لاسيما أن الحركة فرضت نفسها كرقم صعب في المعادلة السياسية في أفغانستان خلال الأعوام الأخيرة، مما دعا -أو بالأحرى- دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتراف بطالبان كشريك سياسي للحكومة الأفغانية، وعقد اتفاق سلام معها في فبراير 2020، عقب جولات مطولة من المفاوضات بين قادة الحركة السياسيين وإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الاتفاق الذي اتخذت منه الحركة منطلقا لتحركها السريع للسيطرة على أقاليم البلاد إقليمًا تلو الآخر.

وعلى الرغم من أن العديد من التقارير الأمريكية توقعت سيطرة طالبان على الحكم خلال ستة أشهر من إتمام خطة الانسحاب الأمريكي والدولي من أفغانستان، فإن توسع طالبان السريع في البلاد، وسيطرتها على الحكم بشكل مفاجئ لم يعط الولايات المتحدة، وكذلك المجتمع الدولي الفرصة لترتيب أوراقه وطرح بدائل للتعامل مع طالبان في موقعها الجديد، فبدا المجتمع الدولي متخبطا داعيًا الدول إلى عدم الاعتراف الفردي بحركة طالبان على رأس السلطة في أفغانستان، في وقت أعلنت فيه بالفعل عدد من الدول استعدادها للتعاون مع طالبان، واتخذت دول أخرى خطوات فعلية في هذا السياق، في الوقت الذي فرض فيه المجتمع الدولي شروطا خمسة على الحركة، كاستحقاقات مسبقة لحصول الأخيرة على الاعتراف الدولي بها، وبالتالي ضمان شرعية حكمها دوليا، وتمتعها بعلاقات طبيعية مع محيطها الدولي دون التعرض لعقوبات أو فرض عزلة سياسية واقتصادية تحد من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها داخليا، في ظل وضع بالغ التردي في الداخل الأفغاني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

وبالنظر إلى استجابة حركة طالبان للشروط التي وضعها المجتمع الدولي لحصولها على اعترافه بها، والمتمثلة في الحيلولة دون تحول أفغانستان لملاذ للحركات الإرهابية، واحترام الحقوق والحريات، وتشكيل حكومة شاملة، والسماح بخروج الأفغان الراغبين في المغادرة، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، يلاحظ أن حركة طالبان تنتهج سياسة مراوغة تعتمد على كسب مزيد من الوقت. فمع الإشارات الانفتاحية التي أبدتها الحركة منذ دخولها قصر كابول الرئاسي، تمثلت في الظهور أمام شاشات التليفزيون، والسماح بوجود صحفيات، وإجراء أحاديث صحفية معهن، فضلا عن السماح للأقلية الشيعية ممارسة أهم شعيرة بالنسبة لهم، وهي إحياء ذكري عاشوراء، فإن مجمل ممارسات الحركة على الأرض تشير إلى أن الحركة لم تحسم أمرها بعد بشأن الملفات الخلافية مع المجتمع الدولي، فجاءت تشكيلة الحكومة المؤقتة، التي أعلنت عنها الحركة، خالية من دلالة على استجابة الحركة لاشتراطات المجتمع الدولي من ناحية، أو على تغيير نهج الحركة فعليا من ناحية أخرى.

ولا تزال مظاهر التشدد ضد النساء منتشرة في أقاليم البلاد المختلفة، ولم يتم استيعاب الأقليات في الحكومة الجديدة، ولم تقبل الحركة بوجود حركات مناوئة لها في إقليم بانشير، من خلال محاصرة الإقليم، ومواجهات عسكرية، فيما يمثل تنظيم «داعش» وتمركزه في أقاليم شرق أفغانستان أحد أهم التحديات أمام حركة طالبان، التي يتوقع أن تدخل في مواجهات متكررة مع التنظيم، الذي وضع طالبان في وضع حرج، من خلال استهدافات متتالية لمنشآت حيوية، ومقارات للأقليات، لاسيما الشيعة الهزارة، مما عرض الحركة لانتقادات واسعة من المجتمع الدولي والجوار الإقليمي، لاسيما إيران التي حملت قادة طالبان مسئولية حماية الأقليات الشيعية في البلاد واتهمتها بالتقاعس عن حمايتهم.

ومع التسليم بأن حركة طالبان قطعا تريد أن تحكم أفغانستان، وفق ظروف دولية طبيعية، لاسيما بعد أن اختبرت القيادات السياسية للحركة تجارب الاجتماعات الدولية، والمفاوضات مع الدول الكبرى، فإن هذه القيادات تجد نفسها مجبرة على تبني سياسات أكثر براجماتية لخلق صورة ذهنية مغايرة ومختلفة عن تلك التي تكونت عن الحركة خلال سنوات حكمها التي لم تتجاوز السنوات الأربع، غير أن هذا النهج البراجماتي يصطدم مع جمود الحركة الفكري، وانفصال القيادات السياسية عن القيادات الدينية للحركة. وينعكس ذلك الخلاف بين القيادتين، الدينية والسياسية، على خطاب الحركة السياسي، وتصريحات مسئوليها الحافلة بالمصطلحات الفضفاضة، والتي تحمل أكثر من معني، وأحيانا التضارب في الأقوال، وأخيرا انفصال هذه التصريحات عن الواقع على الأرض.

وتظل الأوضاع الحالية في أفغانستان تحت حكم طالبان قابلة للتفجر، ولا يمكن معها استبعاد احتمالات نشوب حرب أهلية، وذلك وفق العديد من الخبراء، الذين يرون أن عوامل عدة من شأنها أن تسهم في أن يكون هذا السيناريو حاضرا، وإن تراجعت احتمالية حدوثه قليلا مع سيطرة طالبان على إقليم بانشير. فيما لا تزال إمكانية إعادة تَمترس قوي التحالف مجددا في الإقليم قائمة، لاسيما في حال عجزت حركة طالبان عن الوفاء باستحقاقات الاعتراف الدولي بها، وتنفيذها للشروط الدولية في هذا الصدد.

فيما يبقي مستقبل الحركة في حكم أفغانستان بشكل خاص، ومستقبل الأخيرة بشكل عام، مرهونا بمدى قدرة الحركة على العمل وفق مواءمات سياسية تمكنها من نيل قدر من الاعتراف الدولي بوجودها في الحكم من ناحية، وبمدي قدرتها على تحجيم نشاط تنظيم «داعش» في الداخل الأفغاني من ناحية أخرى، لاسيما في ظل عدم استطاعة الحركة منفردة التخلص من التنظيم ودحره خارج البلاد، وهو ما يعود ليفرض عليها سياسيا مواءمات تتيح لها غطاءً دولي، ربما يساعدها في إنهاء وجود تنظيم «داعش» في أفغانستان، أو يقلص نشاطه.


رابط دائم: