ما بعد حرب غزة الرابعة.. معضلتا الاحتواء وتقليص الصراع
2021-12-27

شهدت الساحتان الفلسطينية والإسرائيلية عددا من الاستحقاقات التى مثلت مقدمات مهمة، مهدت للحرب الرابعة على غزة فى مايو 2021. على الصعيد الفلسطينى، كانت المؤشرات تتجه إلى حدوث انفجار؛ بسبب تأجيل الانتخابات. وعلى صعيد الداخل الإسرائيلى، ثمة أزمات معقدة انعكست على صعوبة تشكيل حكومة تحظى بأغلبية حاسمة وإجراء أربعة انتخابات فيما يقرب العامين من 2019 إلى 2021 مع صعوبة إزاحة رئيس الوزراء نتانياهو طوال هذه الفترة من حكمه. وتزامنت تلك المعطيات مع هبة شعبية فى القدس رافضة لمخططات التهويد والتهجير، ومن ثم شكلت تلك العوامل محفزات للتصعيد، دفعت نحو الحرب الرابعة.

ومن أجل فهم أبرز الخصائص التى ميزت هذه الحرب، عن الحروب الثلاث السابقة، من حيث تفاعلاتها وتداعياتها، وما تحمله من أبعاد استراتيجية، هناك ضرورة لمعرفة الركائز التى تستند إليها الاستراتيجية الإسرائيلية حيال قطاع غزة، والتى ساهم فى وضع أُسسها رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق “أريئيل شارون” منذ تنفيذ مخطط الانسحاب الأحادى الجانب عام 2005، والذى استهدف مأسسة الانقسام من خلال الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية؛ سياسيًا، وعسكريًا، واجتماعيًا، وجغرافيًا. فقد نجحت إسرائيل فى فرض الحصار على فصائل المقاومة فى القطاع واستنزافها عسكريًا عبر تكتيك "جز العشب"، وتدمير كافة مقومات الحياة وإبادة عائلات كاملة عبر تكتيك «كى الوعى».

وتجدر الإشارة هنا إلى آليات حماس للانفكاك عن معادلة الاحتواء الإسرائيلى، والتى انقسمت إلى مسارين؛ الأول: التصعيد العسكرى المنضبط، والضغط الشعبى على إسرائيل بأدوات متنوعة؛ مثل فعاليات “الإرباك الليلى”، و“البالونات الحارقة”، و“مسيرات العودة”، فقد تبين أن حماس لم تستطع من خلال توظيف تلك الآليات إلا حلحلة معادلة الاحتواء، مع تحييد حماس عن التصعيد فى الضفة والقدس الشرقية. وقد دفع ذلك حماس للجوء إلى المسار الآخر، متمثلًا فى الانفكاك عبر بوابة “المصالحة الوطنية”؛ حتى تصبح جزءًا من الشرعية الفلسطينية “الرسمية”، عبر بوابة الانتخابات، إلا أن قرار الرئيس الفلسطينى أبو مازن إلغاء الانتخابات شكل صدمة لحماس، ومن ثم جاءت أحداث القدس لتشكل مخرجًا من المأزق الفلسطينى الداخلى، وتصويب الغضب الشعبى صوب إسرائيل، كما اعتبرتها حماس بمثابة فرصة، لبناء شرعيتها من خلال المعركة بدلًا من صناديق الاقتراع.
وقد كشفت تطورات الحرب (11 يومًا) عن عدد من الاستحقاقات التى ميزتها عن الحروب السابقة. يأتى فى مقدمة هذه الاستحقاقات؛ تغيير قواعد الاشتباك، وخوض إسرائيل القتال على جبهات عدة، ولم تستطع إسرائيل ترحيل المواجهات فى الضفة والقدس نحو غزة، مقابل احتواء الهبة الشعبية عبر توجيه

البوصلة نحو غزة، مثلما حدث فى حرب «الجرف الصامد» عام 2014. ويعد ذلك المتغير البارز فى تلك الحرب، حينما باتت إسرائيل مضطرة للتحرك على ثلاث جبهات فى آن واحد، من الشمال فى الضفة الغربية، وداخل إسرائيل، والجنوب فى قطاع غزة.

كما سلطت الحرب الضوء على الانقسام المجتمعى فى إسرائيل، مع بروز فلسطينيى 48 كرقم مهم فى معادلة التصعيد، وما شكله ذلك من تهديد وُصف من جانب إسرائيل بـ «الوجودى»، إلى حد وصف الاشتباكات بين (اليهود والعرب) بالحرب الأهلية؛ أذ كشف عن زيف تماسك المجتمع الإسرائيلى، وتصدع وهشاشة جبهته الداخلية. كما ساهم تطور ترسانة الصواريخ التى تمتلكها الفصائل، من حيث مدياتها وتكتيكات استخدامها، فى اهتزاز نظرية الردع الإسرائيلى، بما لذلك من (بعد استراتيجى) مهم حال تكراره فى جولة تصعيد قادمة.

هنا، طُرح جدل داخل إسرائيل بعد الحرب بخصوص إعادة تقييم الاستراتيجية التى تتبعها تجاه قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه، وهل ثمة حاجة جوهرية لوضع مقاربات جديدة، أم يمكن الاكتفاء ببعض التغييرات البراجماتية حيال استراتيجية نتانياهو، خاصة أنها نجحت فى تعزيز الانقسام؟ لذلك، اتبعت حكومة «بينيت» تكتيكًا يعتمد على المنح التدريجى للتسهيلات؛ حيث تعمدت فى البداية التشدد فى ملفات ما بعد الحرب، لتبدو أنها الطرف المنتصر، وحتى يبدو «بينيت» أنه أكثر صرامة من نتانياهو بشأن ملفات غزة، وأن لديه القدرة على تحجيم حماس فى سياق «تصفير المكاسب»، وإرسال رسائل ردع وإحباط لأهالى غزة فى سياق تكتيك «الخنق الاستراتيجى» لأهالى غزة. والأهم، إنهاك القطاع فى أزماته من أجل فك الارتباط بين غزة والتطورات فى الضفة والقدس؛ أى العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة للحرب.

وتزامن مع تلك المرحلة التلويح بورقتى الإعمار، والمنحة القطرية، مما دفع الفصائل لتفعيل أدوات الاشتباك مع إسرائيل، لتتضح ملامح المرحلة الثانية من سياسات «بينيت»، والتى تمثلت فى التخفيف من الحصار ودخول تسهيلات للقطاع، وصولًا للموافقة على المنحة القطرية، بعد تغيير آلية دخولها للقطاع، وبعد أن كانت إعادة الأسرى شرط للإعمار، تم الفصل بين الملفين. بعد ذلك، طرحت حكومة (بينيت/ لابيد) مقاربة جديدة تحت مسمى «تقليص الصراع»، والتى لم يتم تبنيها رسميًا بعد من جانب الحكومة الإسرائيلية، والتى مازالت تحت الاختبار والتجريب وقياس ردود الفعل تجاهها، فلسطينيًا ودوليًا، والتى تطرحها الدراسة كإحدى التحديات التى تواجه القضية بعد الحرب، خاصة مع تركيزها على الجوانب الاقتصادية، كما أعلن عنها «يائير لابيد» فيما يخص القطاع «الرفاهية مقابل الأمن»، مقابل اتخاذ إجراءات بناء الثقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل دون أن تضطر إسرائيل لدفع أثمان سياسية للشعب الفلسطينى.

وسعت الدراسة لطرح أبرز الفرص والتحديات التى تواجه ملف التهدئة؛ حيث تبين من جملة التفاعلات التى تواجه القضية الفلسطينية أن مسار التهدئة ومستقبلها سيظل رهن بعض الملفات التى مازالت عالقة بعد الحرب، ومحل تفاوض. ورغم التحديات التى تواجهها إلا أن بروز دور مصر كراعٍ ومسئول عن تلك الملفات يعد عاملا مهما لضمان التهدئة. كما أن وجود بعض الملفات الأمنية التى تطرح نفسها أمام حكومة بينيت، والتى تتطلب تكثيف التعاطى معها، سوف تدفع نحو (تبريد) الصراع على جبهة غزة، من بينها الملف النووى الإيرانى، ومتطلبات تعزيز الردع على باقى الجبهات التى تشكل تهديدًا محتملًا لإسرائيل، مثل جبهتى سوريا وحزب الله، خاصة مع التساؤل الذى فرض نفسه فى أثناء القتال: ماذا لو فتحت جبهة الشمال بالتزامن مع غزة؟


رابط دائم: