أعلن الجيش الأمريكي، في 4 ديسمبر الجاري، عن استهداف أحد قيادات تنظيم "حراس الدين" التابع لتنظيم "القاعدة" في سوريا عقب غارة شنها التحالف الدولي. وتأتي العملية الأخيرة في إطار سلسلة من العمليات النوعية التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد قيادات فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا "حراس الدين"، خلال الربع الأخير من العام الجاري، حيث تمكنت، في 23 أكتوبر الماضي، من قتل القيادي البارز في التنظيم عبد الحميد المطر الذي يلقب بـ"أبي عبد الله الرقاوي"، بمنطقة سلوك بريف مدينة تل أبيض شرق الفرات شمال شرق سوريا، وهى العملية الثانية في أقل من ثلاثة أشهر ضد قيادات تنظيم "حراس الدين" في سوريا بعد مقتل سالم أبو أحمد القيادي المسئول عن التمويل والتخطيط، على نحو يعني أن هذا التنظيم هو أكثر التنظيمات الإرهابية استهدافاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية خلال الربع الأخير من العام الجاري، والأول من حيث عدد القتلى بين قيادات التنظيمات الإرهابية خلال العام الجاري، ما يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب الاهتمام والتركيز الأمريكي على تنظيم "حراس الدين" مقارنة بباقي أفرع تنظيم "القاعدة" المنتشرة في بعض دول الإقليم.
دوافع متعددة
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية عبر رفع مستوى استهداف قيادات وكوادر تنظيم "حراس الدين" الإرهابي إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
١- القضاء على الرعيل الأول لـ"القاعدة": يتسم تنظيم "حراس الدين" في سوريا بكونه أكثر أفرع تنظيم "القاعدة" التي تضم عناصر وقيادات من الجيل الأول للتنظيم، لاسيما العناصر القاعدية التي رفضت البيعة لتنظيم "داعش" بعد تأسيسه في عام 2014، وانشقت عن تنظيم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، في أعقاب فك الارتباط التنظيمي والبيعة لتنظيم "القاعدة"، وهو ما جعل من فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا أكثر أفرع التنظيم التي تضم قيادات ذات تأثير ونفوذ كبير. ومن هنا، فإن واشنطن تستهدف من خلال التركيز على قيادات التنظيم تقليص نفوذه بشكل عام، وإضعاف قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية.
٢- استمرار تبني استراتيجية "العدو البعيد": مع توقيع الولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان" الأفغانية على اتفاق السلام في فبراير 2020، والذي مهّد للانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان، تعهدت "طالبان" بعدم تعرض المصالح الأمريكية لأي تهديد من قبل تنظيم "القاعدة". ومن دون شك، كان من المفترض أن يثير ذلك استياء التنظيم، وربما يؤدي إلى اندفاعه للدخول في صراع مع الحركة نفسها. لكن كان لافتاً في هذا السياق أن بعض أفرع التنظيم (اليمن نموذجاً) قدمت التهنئة لحركة "طالبان" في أعقاب سيطرتها على العاصمة كابول في منتصف أغسطس من العام الجاري، ما اُعتبر موافقة ضمنية من قبل بعض أفرع التنظيم على الالتزام بالتعهدات التي قدمتها "طالبان" إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن في مقابل ذلك، أعلن تنظيم "حراس الدين"- عبر حساباته المغلقة على بعض تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي- الاستمرار في استراتيجيته التي تضع "العدو البعيد" في مقدمة عملية الاستهداف، بالإضافة إلى إعادة نشر العديد من الرسائل الصوتية والفيديوهات لزعيم التنظيم الأسبق أسامة بن لادن، والتي يعتبر فيها الولايات المتحدة الأمريكية "العدو الأول"، وهو ما دفع الأخيرة إلى اعتبار فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا "حراس الدين" هو أكثر أفرع التنظيم تهديداً لمصالحها. وقد عبّر عن ذلك بشكل واضح المتحدث الرسمي للقيادة المركزية الأمريكية جون ريغسبي، في 23 أكتوبر الماضي، بقوله إن "تنظيم القاعدة لا يزال يشكل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائنا"، مضيفاً أن "التنظيم يستخدم سوريا كملاذ آمن لإعادة تشكيل نفسه والتنسيق مع فروع خارجية والتخطيط لعمليات في الخارج".
٣- منع إعادة الهيكلة بالداخل السوري: مع تراجع تنظيم "داعش" في سوريا، منذ مقتل أبو بكر البغدادي في 27 أكتوبر 2019 وسقوط الباغوز في 23 مارس 2019، بدأ تنظيم "حراس الدين" في إجراء عملية إعادة هيكلة عبر مزيد من الاستقطابات العكسية من عناصر "داعشية" منشقة، بالإضافة إلى محاولات إعادة الانتشار في مناطق شرق الفرات وبعض مناطق نفوذ "داعش" السابقة، على نحو أدى إلى اقترابه من المناطق التي تتواجد بها القواعد العسكرية الأمريكية في شمال شرق سوريا، وهو ما يمثل "خطاً أحمر" بالنسبة لواشنطن التي تحركت من أجل منع التنظيم من تجاوزه.
٤- منع التقارب بين "حراس الدين" و"جند الله": شهد جبل التركمان الواقع على الحدود بين محافظة اللاذقية السورية ومحافظة هاتاي التركية، ظهور تنظيم جديد، هو تنظيم "جند الله"، الذي يعتبر أكثر التنظيمات الإرهابية تشدداً وتطرفا لتبني أتباعه ما يسمى بـالمنهج "الحازمي"، وهو أكثر المناهج المتطرفة تشدداً في قضايا التكفير، حيث ينطلق هذا المنهج من القاعدة التكفيرية (من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر). ويضم تنظيم "جند الله" عناصر "داعشية" سابقة تابعة للجناح "الحازمي" قبل القضاء عليه في عام 2016. ومع إعادة ظهور التنظيم المتشدد والذي حاول العودة لتنظيم "داعش" وتم رفض البيعة خلال منتصف العام الجاري، بدأت قيادات من تنظيم "جند الله" في فتح قنوات اتصال مع تنظيم "حراس الدين"، في محاولة للتنسيق العملياتي بين التنظيمين، على نحو يجعل من هذه التفاهمات مقدمة لارتباط تنظيمي ما يمكن أن يعيد صياغة خريطة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة في سوريا، ومن ثم تأتي عمليات الاستهداف التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية ضد قيادات تنظيم "حراس الدين" خلال الأشهر الثلاثة الماضية من العام الجاري، لوقف محاولات الاتصال بين التنظيمين أو التوافق على هيكلة جديدة تفرض في النهاية ارتباطاً تنظيمياً مختلفاً.
رسائل في اتجاهات مختلفة
إلى جانب ذلك، فإن واشنطن تحاول عبر ذلك توجيه رسائل عديدة إلى بعض الأطراف المعنية بالحرب ضد الإرهاب. إذ تسعى عبر التركيز على استهداف تنظيم "حراس الدين" في سوريا، إلى تأكيد استمرارها في عملية مكافحة الإرهاب بالمنطقة بغض النظر عن الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان وتقليل عدد القوات العسكرية في المنطقة. كما أنها تحاول عبر ذلك ممارسة ضغوط على أطراف إقليمية عديدة، وبشكل خاص لإيران، التي تعتبرها واشنطن أحد أهم الداعمين لتنظيم "القاعدة" منذ غزو أفغانستان 2001، خاصة مع انتقال العديد من قيادات "القاعدة" عبر أراضيها.
فضلاً عن ذلك، فإن واشنطن قد تسعى إلى تبني المقاربة نفسها التي سبق أن اتبعتها مع حركة "طالبان"، لاسيما بعد توقيع اتفاق السلام في فبراير 2020. واللافت في هذا السياق، هو أن بعض التنظيمات الإرهابية بدأت توجه إشارات موازية في هذا السياق. فمع بداية العام الجاري، سعى تنظيم "هيئة تحرير الشام" إلى تبني استراتيجية "الاستحواذ الجهادي" في الداخل السوري، مستغلاً الدعم الذي تقدمه بعض الأطراف، وهو ما توازى مع الطرح الجديد الذي قدمه زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني، والذي يستبعد بمقتضاه ما يسمى بـ"مبدأ الجهاد الأممي" أو "الجهاد العالمي"، وهو التصور الذي حاول التركيز عليه في الحوار الذي أجراه معه الصحفي الأمريكي مارتن سميث في 2 فبراير من العام الجاري ونشره موقع FRONT LINEفي 2 أبريل من العام نفسه. ومثّل ذلك إشارة من جانب الجولاني للتقرب من الدول الغربية، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الترويج لفكرة أن التنظيم لا يوجه تهديدات للمصالح الغربية بشكل عام، وأن على الولايات المتحدة الأمريكية رفع اسمه من قائمة التنظيمات الإرهابية الأمريكية. بل إن الجولاني أكد على أن هناك العديد من الأهداف المشتركة بين التنظيم والولايات المتحدة الأمريكية، مثل التعاون لمكافحة تنظيم "داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى في سوريا، وهو ما يضفي زخماً على التكهنات التي تشير إلى أن هناك تنسيقاً بين الطرفين، لاسيما أن عمليات الاستهداف الأمريكية لقيادات تنظيم "حراس الدين" تحدث في مناطق سيطرة تنظيم "هيئة تحرير الشام" في محافظة إدلب شمال غرب سوريا.
تهدئة الداخل الأمريكي
أثارت الطريقة التي تم بها الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان حالة من الجدل ليس فقط داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما داخل المؤسسات الرئيسية أيضاً، حيث اتهمت اتجاهات عديدة الإدارة الأمريكية بـ"التهور" في عملية الانسحاب، بل وصل الأمر إلى التشكيك في جدوى الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان" وانعكاس ذلك على تهديد المصالح الأمريكية من قبل تنظيم "القاعدة"، وهو ما عبّر عنه ديفيد كوهين نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في 14 سبتمبر الماضي، خلال كلمته في "قمة الاستخبارات 2021" التي عُقدت في واشنطن، وحضرها مسئولون من أجهزة الاستخبارات الأمريكية، حيث قال إن "تنظيم القاعدة يمكن أن يشكل تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية في غضون عام أو عامين بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان"، مضيفاً أنهم "رصدوا مؤشرات لبعض التحركات المحتملة لتنظيم القاعدة تجاه أفغانستان"، وأعرب عن توقعاته بأن "القاعدة ستقوى مجدداً في أفغانستان". فيما أكد مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية سكوت بيرييه أن "القاعدة يمكن أن تزيد من قوتها بسرعة في أفغانستان في غضون عام أو عامين ثم تهدد البر الرئيسي للولايات المتحدة".
هذا الجدل الذي تصاعدت حدته داخل الولايات المتحدة الأمريكية دفع البيت الأبيض إلى إعادة تكثيف عمليات مكافحة الإرهاب وبشكل خاص ضد تنظيم "القاعدة"، في محاولة لتهدئة الداخل الأمريكي، وخاصة مع اقتراب موعد التجديد النصفي للكونجرس خلال العام المقبل، عبر تقليص احتمالات اتجاه بعض أفرع التنظيم إلى محاولة استهداف المصالح الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم.
استراتيجية "الهدف الثمين"
مع اتخاذ الإدارة الامريكية قرارها بالانسحاب العسكري الأمريكي في أفغانستان، والذي جرى في أغسطس الماضي، بالتزامن مع تخفيض عدد القوات العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي وإعادة الانتشار للقوات العسكرية في العراق، بدأت المؤسسة العسكرية في إعادة استخدام بعض التكتيكات العسكرية في إطار استراتيجية مكافحة الإرهاب، والتي تنطلق من تكتيك "قطع الرؤوس" الذي يتمثل في الاعتماد على شن العمليات النوعية الدقيقة عبر استخدام الطائرات من دون طيار "الدرونز" بشكل مكثف في عمليات الاستهداف لقيادات التنظيمات الإرهابية، وهى الاستراتيجية التي تهدف إلى إضعاف وتفكيك بنية التنظيمات الإرهابية عبر قتل قياداتها وكوادرها، حيث ترى الإدارة الأمريكية أن قتل قيادات التنظيمات الإرهابية يساعد في الحد من نشاطها، ولاسيما تنظيم "القاعدة"، كما حدث بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم الأسبق الذي أدى إلى تراجع أداء التنظيم سواء على المستوى المركزي أو على مستوى باقي أفرع التنظيم المنتشرة في بعض دول الإقليم، وإضعاف قدرته على استهداف المصالح الأمريكية والغربية، ومن ثم فإن اتباع واشنطن استراتيجية "الهدف الثمين" ضد تنظيم "حراس الدين" في سوريا قد يساعد، وفقاً لرؤيتها، في الحد من قدرات التنظيم ومنع أى تهديد محتمل للمصالح الأمريكية.
في المجمل، يبدو أن استراتيجية استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم "حراس الدين" في سوريا، سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، في ظل رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في احتواء أية تداعيات سلبية قد تفرضها عملية الانسحاب العسكري من أفغانستان وتقليص الوجود العسكري في مناطق ودول أخرى على مصالحها وأمنها في الفترة القادمة، فضلاً عن طمأنة الدول الحليفة باستمرار التزام واشنطن بالإطار الذي تفرضه العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 12 ديسمبر 2021.