هل تتضمن الاستراتيجية الأمريكية لأمن الخليج جديداً؟
2021-12-7

د. معتز سلامة
* رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

لا تزال الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن في مرحلة انتقالية في صياغة سياستها نحو منطقة الخليج، حيث بدت الاستراتيجية الأمريكية على مدى الأشهر الماضية غامضة في علاقاتها بالحلفاء، بشكل عكسته مؤشرات كثيرة، بالأخص علاقة إدارة بايدن بالمملكة العربية السعودية؛ التي ألغت زيارة كانت مقررة لوزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن في شهر سبتمبر الماضي (2021)، وبرز التناقض في سياسة البلدين بشأن النفط، وهناك حالة من الفتور العام في العلاقات تجد ملامحها في مظاهر مختلفة، من ذلك ما أبرزه حوار منتدى المنامة السابع عشر Al Manama Dialogue (بين 19 و21 نوفمبر 2021)، متمثلاً في عدم حضور وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، رغم أنه كان من المفترض أن يكون المتحدث الثاني بعد وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن، فضلاً عن عدم إتمام الزيارة المؤجلة لوزير الدفاع الأمريكي خلال انعقاد المنتدى، رغم وجوده في البحرين وزيارته الإمارات. 

البيئة الأمنية في العالم والخليج 2021

تتأثر السياسة الأمريكية إزاء منطقة الخليج في ظل إدارة بايدن بتحولات كثيرة، أهمها ما يلي:

1-  الانسحاب من أفغانستان: فرضت عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تأثيراتها القصوى على المنطقة؛ حيث أعلنت القوة العظمى الأكبر تخليها بإرادتها المنفردة عن وجودها العسكري في هذا البلد بعد إنفاق تريليونات الدولارات، مؤثرة الخروج بسلام ودون ترتيب أوضاع حلفائها الأفغان في الداخل، مما اضطر الرئيس الأفغاني أشرف غني للنجاة بنفسه، تاركاً جيشه وأتباعه بعد ما يقرب من 20 عاماً من الحرب، لتعود أفغانستان تحت حكم طالبان، وقد كانت لهذه التجربة تداعياتها على صورة الولايات المتحدة في منطقة الخليج وأضعفت ثقة الحلفاء، بعدما ترافقت مؤشرات إعادة انتشار القوات الأمريكية وسحب بطاريات صواريخ من بعض الدول الخليجية.

2-  أزمة أسعار النفط: تتأثر العلاقات الأمريكية بمنطقة الخليج بحالة العلاقات الأمريكية- السعودية، وهى العلاقات التي تواجه حالياً محطة اختبار رئيسية تتمثل أبرز ملامحها في أزمة الخلاف حول النفط، بعد أن دخلت إدارة بايدن على الخط بإعلان إفراجها عن 50 مليون برميل من احتياطياتها النفطية، في خطة متزامنة مع الشركاء الآخرين: اليابان والهند وكوريا الجنوبية وبريطانيا، وربما الصين، بإصدار هذه الدول قرارات مماثلة بالإفراج عن قدرٍ من المخزون الاستراتيجي النفطي، للضغط على الدول المنتجة لمكافحة تحركات الأسعار، وهو ما أدى إلى تخفيض الأسعار فعلياً.

3- المفاوضات مع إيران: شهدت منطقة الخليج على مدى الأشهر الماضية تصاعد حدة الاشتباكات العسكرية والسياسية بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، قبل انعقاد الجولة السابعة للمفاوضات في فيينا في 29 نوفمبر الفائت والتي انتهت دون الوصول إلى صفقة جديدة، حيث سبقت الجولة هجمات على سفن الملاحة البحرية وهجمات إلكترونية، وتهديدات سياسية وعسكرية وعمليات اغتيالات داخلية في إيران بلغت أقصى مداها من الأطراف. وفي ظل هذه البيئة العدائية، مع عدم حسم الموضوع النووي والضغوط الإسرائيلية على الإدارة الأمريكية، لم تستطع الولايات المتحدة الوصول لنقاط فاصلة بشأن استراتيجيتها المستقبلية في منطقة الخليج، مع اضطراب سياستها مع الحلفاء، وعدم إمكان الوثوق من الاتجاه المستقبلي لعلاقتها بإيران. 

4- التقلبات الجيو- سياسية: تجري صياغة الاستراتيجية الأمريكية إزاء المنطقة في ظل التباينات الإقليمية بشأن التطبيع مع إسرائيل، والتناقضات حول طبيعة العلاقات العربية بكل من تركيا وإيران وإثيوبيا، وهى تناقضات جعلت بعض الدول العربية ضمن كتل جيوسياسية مختلفة، ما يتضح من الكتلة الجيوسياسية العربية حول إيران، ومن المكونات الداخلية العربية التي تدعمها تركيا (جماعات الإسلام السياسي)، أو علاقات التطبيع مع إسرائيل، والتي بدأت تتركز حولها بؤر مهددة للأمن. علاوة على ذلك بروز مخاطر جديدة في جوار - جوار العالم العربي، وحول المضائق والبحار كالبحر الأحمر، مع ارتباط أمن الخليج بالبحر الأحمر كحقيقة استراتيجية وفكرية، وفي ظل ذلك كله تبقى القضية الفلسطينية بلا حل.

5- تحولات النظام الدولي: تتأثر الاستراتيجية الأمريكية بشأن منطقة الخليج بالتحولات في طبيعة النظام الدولي، الذي لم يستقر بعد على تعريف علمي محدد للتحولات العالمية، لقد أطلق عليها البعض مفهوم الحرب الباردة الجديدة، بعد بناء ما سمى بتحالف "إيكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا في مواجهة الصين، ومع الخلاف العلني بين الولايات المتحدة والصين حول تايوان وهونج كونج، ومع روسيا حول أوكرانيا، وتزايد مؤشرات السباق بشأن أسلحة الجيل الخامس، والصواريخ فرط الصوتية. وفي ظل تلك التحولات جميعها والتي تُصعِّب صياغة الاستراتيجية الأمريكية في النظام الدولي، تبرز حالة من الغموض في وضع الاستراتيجيات الأصغر بشأن المناطق الإقليمية، والتي يجري تسكينها وإعادة توزيع أدوارها ضمن الاستراتيجية الأم، التي لم تتحدد بطبيعتها بعد.

رسائل أمريكية عديدة

إذا قصرنا الحديث عن ما تضمنته رسائل إدارة بايدن في حوار المنامة السابع عشر 2021، يمكن الإشارة إلى ثلاث نقاط بشأن توجهات الاستراتيجية الأمنية الأمريكية نحو المنطقة، عكستها كلمة وزير الدفاع الأمريكي في المنتدى، وذلك على النحو التالي:

1- تبني نهج التعددية والشراكات: وذلك يؤكده الرصد الكمي لعشرات الإشارات التي وردت بكلمة وزير الدفاع الأمريكي، والتي سيطرت عليها مفاهيم "التعددية" و"الشراكة" و"العمل المشترك مع الحلفاء"، وتحدث عن "مصالحنا ومصالح أصدقائنا"، وتأكيده "كلنا بحاجة إلى الشراكات متعددة الأطراف لمواجهة التهديدات المشتركة"، وأن "أمريكا لا تستطيع مواجهة هذه التحديات المشتركة وحدها"، وأن "الأمة التي تحاول أن تقوم بالعمل لوحدها هى أمة أقل أماناً".

ويبدو في هذه الجزئية انعكاس خبرة العراق وأفغانستان كثيراً، فلم تعد الإدارات الأمريكية على استعداد لإنفاق تريليونات الدولارات لأجل الإطاحة بأنظمة سياسية واحتلال دول بشكل تقليدي، أو بهدف نشر مبادئ الديمقراطية، وإذا فعلت ذلك فسيكون من خلال توزيع الأعباء. وهنا يبرز إعادة إدراك أمريكية لقيمة الحلفاء الخليجيين، بعدما قدموه من خدمات للولايات المتحدة في نقل ما يزيد على 100 ألف أمريكي وأجنبي من أفغانستان، وهى عملية طالما نوَّه بها مسئولو إدارة بايدن، وأشاد بها الوزير الأمريكي في منتدى المنامة.

2- التركيز على الدبلوماسية وتوظيف الأداة العسكرية في الردع: يرتبط بالتوجه السابق، التأكيد الأمريكي على أولوية العمل الدبلوماسي، واعتبار الدبلوماسية هى الأداة الأولى، أو خط الدفاع الأول، حيث يؤكد وزير الدفاع الأمريكي أن "مهمتنا دعم الدبلوماسية وردع النزاعات ودرء الاعتداءات من خلال التكنولوجيات الحديثة"، وهو ما يعني عدم تحبيذ الحروب الشاملة والأدوات العسكرية الخشنة والتقليدية، والردع ليس فقط بمعناه العسكري وإنما أيضاً عبر مضامين اقتصادية وإلكترونية.

وفيإشارة إلى حدود القوة العسكرية يقول أوستن: "أعمل في مبنى به الكثير من المطارق، ولكن هذا لا يعني أن كل من حولنا هو مسمار"، ويشير إلى "العمل مع شركائنا لردع الاعتداءات في الفضاء السيبراني وكذلك البحر والبر والجو"، بما يفيد بأن أزمات مختلفة لا يجدي معها العمل العسكري. وتلك مفاهيم تدخل قاموس الفكر الأمريكي، وتستبطن عدم الرغبة في خوض الحروب الشاملة.

3- تأكيد استمرار الالتزام بأمن الخليج بصيغ مبتكرة: كان مما حرص وزير الدفاع الأمريكي على إبرازه في كلمته بمنتدى المنامة، تأكيده استمرار التزام بلاده بأمن الخليج وبأمن الحلفاء، وهو ما برز في إشارته إلى مقولة وزيرالخارجية الأمريكي الراحل كولن باول بأن "الولايات المتحدة ترتبط بهذه المنطقة بألف رابط"، وتأكيده استمرار تعزيز هيكلية أمن المنطقة عبر التعاون العسكري والتدريب والتمارين المشتركة، ومشاركة المعلومات والدفاع المشترك، وتعهده بأن الولايات المتحدة تبقى ملتزمة بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي.

ويعني ذلك أن الولايات المتحدة مشغولة أكبر بأمنها الخاص وبصراعها الدولي مع الصين، وأنها تريد توظيف قدرات الحلفاء والشركاء في هذه المواجهة الكبرى، لا استنزاف ذاتها في صراعاتهم وحروبهم، وأن دورها في أمنهم سينصب بالأساس حول الردع والدفاع وتنظيم قدراتهم الخاصة، وليس الاستباق أو الهجوم الشامل في حروب إقليمية. 

في النهاية، لا يمكن فهم التحولات في الفكر الأمريكي فيما يتعلق بمنطقة الخليج، بعيداً عن الثورة التي أدخلها دونالد ترامب في الفكر الأمريكي بشأن ضرورة تحمل الشركاء والحلفاء أثمان وتكاليف الحماية والأمن، فما طرحه اوستن حول دور الشركاء ليس سوى ترجمة "مهذبة" لمقولات ترامب بطريقة الحزب الديمقراطي، وهو ما ينتهي إلى النتيجة نفسها بزيادة أعباء وتكاليف الحلفاء، ولكن دون أن تقبض الولايات المتحدة أثماناً مادية ومالية، على غرار فترة ترامب، وإنما أثماناً تدفع عبر زيادة حجم المشاركات في الخدمات واللوجستيات، مثلما حدث في أفغانستان.

ويبدو أن أفكار إدارة بايدن جاءت كحل وسط، بين موقف ترامب الداعي لدفع ثمن الحماية، وأفكار داخل إدارة بايدن دعت للتخلي عن الحلفاء، وأنه بعد فترة من التفكير -اتسمت بالغموض والتردد- انتهت إدارة بايدن إلى هذه النتيجة الوسط، بعد إعادة اكتشاف أدوار الحلفاء في أفغانستان، وبعد إدراك النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب على اتجاههم نحو روسيا والصين.


رابط دائم: