بشكل عام، يمكن القول إن أحد أبرز المعضلات التي تواجه السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط يتمثل في القدرة على التوصل لاتفاقيات فعّالة ومستدامة. ففي الملف الأفغاني، انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان دون التوصل لاتفاق نهائي مع حركة "طالبان". كما يصعب النظر إلى الاتفاقيات الإبراهيمية كوحدة إطارية واحدة، توظف في الخليج في سياق مختلف عن نظيرتها مع كل من السودان والمغرب. ومن المتصور أن إبرام اتفاق فعّال مع إيران بشأن البرنامج النووي كفيل بالحد من من الاستغراق في سيناريوهات معقدة تهدف إلى التعامل مع إيران باعتبارها قوة التهديد الرئيسية في الشرق الأوسط، رغم وجود الكثير من التهديدات في المنطقة.
ومن المتصور عملياً أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تصل إلى صيغة مقنعة لإيران مغايرة لجوهر خطة العمل المشتركة التي تم التوصل إليها عام 2015، يمكن تبنيها في إطار الجولة السابعة من المباحثات النووية المقررة في فيينا في 29 نوفمبر الجاري (2021)، وهو ما يفسر تمسك إيران بتلك الصيغة، حتى الإطار الانتقالي الذي روجت له واشنطن في الأسابيع الأخيرة التي تسبق الجولة المرتقبة لا يتعاطى سوى مع تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق عام 2018 وإقدام طهران على استئناف الأنشطة النووية وزيادة مستوى التخصيب كرد فعل على الموقف الأمريكي، والمؤكد أن إيران في حال الفشل في التوصل إلى العودة إلى الاتفاق ستواصل السياسة نفسها.
في المقابل، فإن اللجوء للخيار العسكري ضد إيران الذي يتم التلويح به على التوازي، قد يشكل السيناريو الأسوأ لكافة الأطراف ولمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، بالنظر إلى كُلفة هذا الخيار التي لن تكون أقل من تداعيات الفوضى التي شهدتها المنطقة في العقد الماضي كحد أدنى إن لم تكن أضعافها.
وعلى الجانب الآخر، فإن مجموعة العمل المشتركة (5+1) تضم الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية والصين وروسيا، بينما لم تنخرط قوى الشرق الأوسط في هذا المسار، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تشكيل تحالف عسكري مضاد لإيران من الشرق الأوسط، أى أن هناك أطرافاً ستبرم اتفاقاً في حال التوصل إليه، مقابل أطراف أخرى سيتعين عليها الانخراط في السيناريو البديل وهو السيناريو العسكري، ما ينطوي على حالة من التناقض في اتجاهات التعامل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية مع هذا الملف، رغم إبداء قوى في الشرق الأوسط وفي المقدمة منها مصر، أهمية خاصة لمشاركة الأطراف العربية المعنية في أى حوار حول مستقبل الأوضاع في المنطقة، وبصفة خاصة المرتبط باحتمالات تعديل الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما يكشف عنه بيان للخارجية المصرية في تعقيبها على انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي عام 2018.
إشكاليات عديدة
فضلاً عن ذلك، فإن هناك إشكالية أخرى تتعلق بالملفات ذات الصلة بالملف النووي، كالبرنامج الصاروخي، وتضيف بعض الأطراف أهمية تناول التمدد الإيراني في الشرق الأوسط، والحاجة إلى إعادة إيران داخل حدودها، وهو ما ترفض الأخيرة التطرق إليه، لكن في حال التوصل إلى الإطار الانتقالي أو المؤقت قد تكون هناك فرصة لمناقشة مثل هذه الملفات، لكن في المرحلة الحالية فإن التساؤل المطروح يتعلق بحالة الفشل التام، فهل سيكون الخيار العسكري بالفعل هو البديل؟، وما هى اللحظة التي يمكن عندها التحرك العسكري، وما هى خريطة بنك الأهداف التي يمكن التعامل معها حال ما إذا اتخذ قرار من هذا النوع وما هى تداعياته المحتملة؟.
مبدئياً، أثار اللجوء إلى البديل العسكري كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، تحت عنوان عدم القبول بحيازة إيران أسلحة نووية، إلا أن إسرائيل تشير إلى أنها تحتفظ بحرية هذا الخيار، وفقاً لما أعلن عنه رئيس الوزراء نفتالى بينيت في مؤتمر هرتسيليا الشهر الجاري، بينما تشير القيادة المركزية الأمريكية – وليس البنتاجون – إلى أن هناك خططاً دوماً للتعامل مع هذا الأمر، وهو ما أكد عليه الجنرال كينيث ماكينزي قائد القيادة المركزية فى تصريحاته لمجلة "تايم" الأمريكية، كما دخلت بريطانيا على الخط حيث كشفت القناة 12 الإسرائيلية –عشية وصول الوفود إلى فيينا- عن تقرير استخباري بريطاني أكد على أن طهران قد تصل إلى العتبة النووية عند مستوى تخصيب 90% التي يمكنها البدء في إنتاج سلاح نووي بعدها في غضون شهر، وهى مسافة زمنية أقل بكثير من تقديرات ماكينزي، حيث أشار إلى إمكانية حدوث ذلك فى غضون عام. وفي واقع الأمر، هذه التقديرات تعكس فجوة كبيرة في المصادر وبالتالي الثقة فيها إلى حد كبير، وهناك سوابق وأمثلة عديدة على سوء التقديرات وربما الخطأ فيها جملة وتفصيلاً.
وعلى الأرجح، تدرك إيران مفصلية الجولة السابعة في ضوء هذه التقديرات، وربما بدأت في التعاطي مع التلويح بالخيار العسكري ضدها، وأن هذا الخيار قد يكون هو البديل المحتمل في حال الوصول إلى العتبة النووية دون اتفاق. دلالة ذلك، تصريحات رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي في 27 نوفمبر الجاري بأن "إيران لم ولن تسعى لحيازة أسلحة نووية"، مشيراً إلى أنها تعمل وفق معايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفي إطار قواعدها.وأضاف إسلامي أن "إيران تمتلك القدرة منذ وقت طويل للإقدام على خطوة التصنيع، لكنها لم تفعل". صحيح أن هذه التصريحات لا يمكن حملها هى الأخرى على محمل المصداقية الكاملة، ففي الأخير لن يكون من الصعوبة بمكان مع تأزم الأوضاع اتخاذ المرشد الأعلى الإيراني عل خامنئي قراراً من هذا النوع، إلا أن الوصول إلى العتبة النووية دون اتفاق سيكون مأزقاً لإيران هى الأخرى، وإذا لم ترفع العقوبات فلا شك أنها ستغامر بالانتقال إلى المرحلة التالية.
الإشكالية التالية، هى أن التأخير في تناول الملفات ذات الصلة المشار إليها، في حال حدوث أى سيناريو سيزيد الأمور تعقيداً، وكان يتعين منذ البداية وضع هذا الأمر في الاعتبار، فإيران لديها 3 آلاف صاروخ منها صواريخ "دقيقة" وجاهزة للاستخدام على منصات وفقاً لماكينزي، بالإضافة إلى وجود مخزون ضخم باعتراف أمير حاجي زاده قائد سلاح الجو-فضاء في الحرس الثوري (سبتمبر 2020)، الذي قال أن قوات الحرس تحفر أنفاقاً على مدار الساعة وصفها بـ"مدن الصواريخ" منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وفي مارس الماضي، أظهرت صور فضائية التقطتها شركة "Maxar Technologies" وجود حفر شبه مكتملة البناء وجاهزة لتكون منصات إطلاق صواريخ في منطقة خورجو الجبلية جنوب غرب إيران بالقرب من بندر عباس.
وعلى الأرجح، انتقلت إيران خلال الأعوام التي تلت انسحاب واشنطن من الاتفاق من مرحلة التجارب الصاروخية النوعية الدقيقة وطويلة المدى إلى مرحلة بناء الخطوط الدفاعية والهجومية، بدأتها بعملية تأمين المواقع النووية، حيث اختبرت (أكتوبر 2021) في مقر قاعدة "خاتم الأنبياء" الجوية في سمنان منظومة "متعددة الطبقات" للتعامل مع أهداف هجومية متعددة المديات وصواريخ كروز، وقال الجنرال أمير قادر رحيم زاده قائد مقر الدفاع الجوي أنها تأسست لأهداف دفاعية، لحماية منشآت حساسة وحيوية، في إشارة إلى المنشآت النووية، واللافت أن هذا الاختبار واكب تلميحات إسرائيلية- أمريكية للمرة الأولى أيضاً بعمل عسكري ضد إيران.
وعلى التوازي، ضاعفت إيران من الأصول العسكرية المطلة على الخليج، كخط دفاعي وهجومي آخر، وكان لدى إيران نحو 14 قاعدة بحرية تقريباً على الساحل الغربي، منها في الغالب 5 قواعد عسكرية بحرية رئيسية، إضافة إلى قاعدة "خاتم الأنبياء" للدفاع الجوي، لكن كان من الواضح أن هذا الانتشار يتضاءل جنوباً بالتدريج وصولاً إلى قاعدة واحدة تقريباً، لذا عملت إيران مؤخراً على سد هذه الفجوة، فتم إنشاء قاعدة "سيريك " البحرية (تم افتتاحها في سبتمبر 2020)، عند أضيق نقطة في الخليج العربي في شرق مضيق هرمز، لأغراض دفاعية وهجومية، وفقاً للجنرال حسين سلامي قائد الحرس الثوري. بالإضافة إلى جزيرة "قشم" التي تتضمن قاعدة دفاعية، فضلاً عن قواعد لتشغيل وإطلاق الطائرات من دون طيار. وكشف رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت عن أن "قشم" مصدر إطلاق الطائرات التي نفذت هجمات على سفن إسرائيلية في العامين الماضيين، إضافة إلى أنه من المرجح أيضاً أنها مصدر اعتراض الطائرة من دون طيار الأمريكية (Triton MQ-4) في يونيو 2019.
وبالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن تجاهل الترسانات الصاروخية لوكلاء إيران الإقليميين في العراق واليمن وسوريا ولبنان، مع الوضع في الاعتبار أن موقعين على الأقل استخدمت فيهما الصواريخ الإيرانية بشكل فعّال، إلى جانب "الدرونز" وهما اليمن والعراق، بينما لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تعزيز البنية الدفاعية المقابلة في المواقع التي تقع في مرمى هذه الصواريخ بشكل مستمر، بل على العكس من ذلك قللت من الدفاعات التي كانت موجودة، حيث سحبت الكثير من منظومات "Patriot" وأصبح هناك نوع من الانكشاف الدفاعي في الخليج والعراق مقابل زيادة إيران لمنظوماتها الهجومية وفق التقديرات الاستخبارية المشار إليها سلفاً.
أما بالنسبة لسوريا، فإن إيران تقوم بعمليات تخزين واسعة النطاق للصواريخ، بينما تقوم إسرائيل بشكل مكثف باستهداف عمليات نقل الصواريخ بالإضافة إلى بعض المخازن، في حين تعمل الولايات المتحدة الأمريكية في بعض الأحيان على استهداف عمليات النقل على الحدود العراقية وتحديداً عند تجاوزها معبر البوكمال الحدودي المشترك بين سوريا والعراق.
دلالات رئيسية
تعكس كافة هذه المؤشرات دلالات هامة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- لا يزال من الصعوبة بمكان الفصل بين القدرات التي أصبح عليها البرنامج الصاروخي الإيراني والبرنامج النووي، إذا ما وضع في الاعتبار أيضاً أن إيران يمكنها تحميل رؤوس كيماوية على الصورايخ، فلن تكون مسألة تحميل رؤوس نووية معضلة كبيرة على المستوى النظري، وربما العملي في المستقبل، رغم الفارق في الحالتين، يضاف إلى ذلك التقدم المحسوب في البرنامج الفضائي الإيراني الذي قد يسمح بتطوير مركبات قابلة لحمل قنبلة نووية، وإن كان سيتعين على إيران أيضاً في ذلك تطوير برنامج مخصص لهذا الغرض. فضلاً عن أن أحد التقارير المثيرة للجدل الذي نشر في يونيو 2020 ويتعلق بالكشف عن منشأة سرية أقامها الحرس الثوري تحت الأرض في مدينة جاجرم في إقليم خراسان عبارة عن مجمع للألومنيوم، وينتج مادة "البوكسايت" وهى مكون رئيسي في صناعة وسائل الدفع التي تعمل بالوقود الصلب لإطلاق الصواريخ، فعند مزجها بمادة تحتوي على الأكسجين تنطلق كمية هائلة من الطاقة، وهو ما يعد سنداً إضافياً للشكوك في الانتقال إلى عملية صناعة سلاح نووي.
2- كما سلفت الإشارة، هناك تأخر في التعامل مع البرنامج الصاروخي بشكل فعّال، كما أن التفاوض على هذا البرنامج أصبح محل شك، بالنظر إلى خريطة انتشار هذه القدرات داخل إيران وخارجها، فضلاً عن أن سلوك الردع الذي تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لا يزال أيضاً محل شك من حيث محدودية الفاعلية والتأثير، وهو ما تدركه واشنطن، دلالة ذلك أنها اتجهت مؤخراً إلى مناقشة بناء مظلة دفاعية فى الشرق الأوسط، تضم حلفائها المتضررين من السلوك الإيراني، وهو ما طرح خلال جولة جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي. وهنا، فإنه إذا ما وضع ذلك في إطار تنمية القدرات الدفاعية والهجومية الإيرانية، يمكن القول أن هناك حالة سباق تسلح للتعامل مع احتمالات فشل المفاوضات النووية، والانتقال إلى السيناريو التالي، بعد وصول إيران إلى العتبة النووية.
3- من الناحية العملية، لا يزال هناك انكشاف دفاعي في الخليج، لن يعوضه مجرد نقل إسرائيل إلى مقر القيادة الوسطى في البحرين، وإجراء أنشطة عسكرية بحرية استعراضية للقوة بشكل مكثف، فهذا الاستعراض قد يأتي بنتائج عكسية من منظور استيعاب إيران لرسائل "استعراض القوة". وفي واقع الأمر، فإن هذه العملية هى قفزة على مرحلة الوصول إلى نقاط حاسمة في خطة الردع الشاملة، وهناك غموض في حسابات الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الجانب، وربما هناك أطراف إقليمية تتحسب لتلك الخطوة، فالسعودية لم تنخرط في تلك الأنشطة العسكرية المكثفة في الخليج والتي تضم إسرائيل، رغم تضررها من الصواريخ والطائرات من دون طيار التي تطلقها المليشيا الحوثية من اليمن، بدعم من الحرس الثوري الإيراني.
4- يتمثل أحد التحديات التي قد تفرضها المعادلة المعقدة حالياً على طاولة الحوار في فيينا، في الوصول إلى اتفاق نووي دون التوصل إلى إطار مبدئي على الأقل يعالج الجوانب الأخرى، فمن المؤكد أن التوصل لاتفاق قد يحل جزءاً كبيراً من المعضلة، وقد يكون مُحفِّزاً لإيران للتراجع عن امتلاك السلاح النووي، لكن المختلف عليه هو كيف يمكن إعادة إيران إلى داخل حدودها وإقناعها بأن قدراتها التي تعمل على تطويرها وتنميتها فى المجالات الأخرى يجب أن تنطوي على برامج محلية فقط، ولأهداف دفاعية محلية، وكيف يمكن استثمار حالة التوصل إلى اتفاق من أى نوع في دفع إيران إلى الانخراط في حوار استراتيجي إقليمي حقيقي وفعّال وموثوق في الوقت ذاته يٌقوِّض السلوك الإيراني المهدد للخليج، أو بالأحرى يجعل إيران دولة طبيعة مقبولة في الإقليم. وقد تكون نقطة الانطلاقة الحقيقية في هذا الحوار الاستراتيجي مبنية على جولات الحوار الاستراتيجي السعودي- الإيراني، بالإضافة إلى تكرار الحوار الأوسع الذي استضافته بغداد العام الجاري.
إجمالاً، من المتصور أن الوضع العسكري فى منطقة الشرق الأوسط حرج، من منظور قواعد الاشتباك المحتملة، وخرائط الانتشار، والتحالفات قيد التشكل، يضاعف من ذلك ضيق الهامش الزمني في التعاطي الرشيد مع كافة السيناريوهات المتأرجحة بين الوصول إلى تسوية للملف النووي والملفات ذات الصلة، وبين نقطة وصول إيران إلى "العتبة النووية"، وهى مؤشرات تعكس مأزق كافة الأطراف في الغرب وفي الشرق الأوسط.