الانتخابات التشريعية العراقية.. دلالات النتائج والتحالفات المحتملة
2021-10-12

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أعلنت المفوضية العليا للانتخابات فى العراق نتائج الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة –10 أكتوبر 2021– والتى تمثل المحطة الانتخابية الخامسة فى المسار الانتخابى العراقى منذ انتخابات عام 2005، وتعد تلك الانتخابات الأكثر جدلاً من بين الجولات الانتخابية السابقة؛ نظراً لكونها جاءت استجابة لحركات احتجاجية شعبية عارمة عابرة للطائفية اجتاحت العراق فى أكتوبر عام 2019، وطالبت باستقالة حكومة عادل عبدالمهدى والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة؛ نتيجة لتردى الأحوال المعيشية، وتراجع الخدمات، وتدهور البنية التحتية، وتفشى الفساد، فضلاً عن احتكار السلطة من قبل الأحزاب والتكتلات السياسية التقليدية التى لم تنجح فى معالجة المشاكل الحادة التى تواجه المواطنين من ناحية، وقصرت اهتمامها على احتكار النفوذ والسيطرة السياسية والاقتصادية من خلال بعض أذرعها من الميليشيات المسلحة من ناحية ثانية، بخلاف ارتهانها –لاسيما الأحزاب الشيعية الولائية ذات المرجعية الدينية– للمشروع الإقليمى الإيرانى داخل العراق من ناحية ثالثة. ومن ثم مثلت كل هذه الإشكاليات مدخلات مهمة شكلت الوعى الجماهيرى لدى العراقيين بأهمية التغيير وضرورة خروج العراق من عباءة التأثير الإيرانى.

وعلى الرغم من أن حراك أكتوبر 2019 الشعبى -حراك تشرين- لم يعبر عن نفسه بقوة من خلال تشكيلات حزبية سياسية كبيرة على شاكلة الأحزاب الشيعية والسنية والكردية، إلا أن التعبير الأكثر حضوراً عن الرفض الشعبى للأحزاب التقليدية، خاصة الولائية لإيران ولسياستها، جاء من مجموع المقترعين الذين قرروا معاقبة تلك الأحزاب وأذرعها العسكرية من الميليشيات المسلحة، وفى مقدمتها هيئة الحشد الشعبى التى مثلها فى الانتخابات تحالف "الفتح" بزعامة هادى العامرى، فى الوقت الذى تصدر التيار الصدرى نتائج المشهد الانتخابى حاصداً بذلك نتيجة مساندته الفاعلة للحراك الشعبى ومطالبه فى محاربة الفساد ومعالجة الأزمات التى يعانى منها الشعب العراقى.

نتائج الانتخابات

سجلت نسبة المشاركة فى التصويت - وفقاً لما أعلنته المفوضية العليا - 41%، وهى أقل عن مثيلتها فى انتخابات عام 2018، التى سجلت حينها 43%، ويلاحظ هنا أن انتخابات عام 2018 تصدر فيها ائتلاف سائرون بزعامة التيار الصدرى أيضاً نتيجة الانتخابات بعدد مقاعد بلغ 52 مقعداً، تلاه تكتل الفتح بـ 48 مقعداً، ثم ائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادى بـ 42 مقعداً. ورغم  أن نتائج انتخابات 2018، تعطى التيار الصدرى أفضلية اختيار رئيس الوزراء، إلا أنه وفى ظل "توافقات" داخلية وخارجية تم اختيار رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدى بعد أن رشحته كتلة البناء وكتلة الإصلاح - التى تضم الحكمة والنصر وسائرون – تجاوزاً لمعضلات برلمانية نتجت عن تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر – 165 مقعداً – باعتبارها الآلية الأساسية فى اختيار رئيس الوزراء عن طريق الكتلة البرلمانية الأكبر.

أما نتائج الانتخابات الحالية – أكتوبر 2021- فقد حفظت للتيار الصدرى تقدمه، حيث جاء فى المركز الأول حاصداً 73 مقعداً بزيادة 21 مقعداً عن الانتخابات السابقة، ويلاحظ أن التيار الصدرى دخل الانتخابات الأخيرة منفرداً دون التحالف مع غيره من القوى السياسية على عكس من انتخابات عام 2018. تلاه تحالف تقدم السنى لرئيس البرلمان محمد الحلبوسى حيث حصل على 41 مقعداً، وجاء ائتلاف دولة القانون - حزب الدعوة  - لرئيس الوزراء الأسبق نورى المالكى فى المركز الثالث حاصداً 37مقعداً، وحصل الحزب الديمقراطى الكردستانى على 32 مقعداً، وتحالف كردستان على 17 مقعداً، وتحالف عزم السنى على 15 مقعداً، بينما حصل تحالف الفتح لهادى العمرى على 14 مقعداً، خاسراً بذلك 34 مقعداً عن الانتخابات السابقة، كما حصل تيار الحكمة لعمار الحكيم وتحالف النصر لرئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادى المعروف بتحالف قوى الدولة على 4 مقاعد، أما قوى التغيير (حراك تشرين) فقد حصلت على 9 مقاعد نالتها حركة امتداد.   

ووفقاً لهذه النتائج سيكون بمقدور تيار الصدر إجراء تحالفات برلمانية تمكنه من تكوين الكتلة البرلمانية الأكبر لاختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة. لكن سيكون فى الوقت نفسه مطالباً بضرورة التعامل مع خصومه الأبرز من حزب الدعوة لرئيس الوزراء الأسبق نورى المالكى؛ حيث حل حزبه ثالثاً فى نتائج الانتخابات ويتمتع المالكى وصقور حزب الدعوة عامة بدعم إيران مع اختلاف درجة الدعم. فقد حظيت هيئة الحشد الشعبى وتياراتها السياسية على درجة عالية من الدعم السياسى والمادى الإيرانى منذ تشكيلها فى عام 2016، على خلفية مشاركتها فى الحرب ضد تنظيم الدولة "داعش"، وحتى تاريخ الانتخابات الأخيرة، وهو الدعم نفسه الذى أفقد تلك القوى أصواتها الانتخابية؛ لأنها عملت على توظيف انتصاراتها على تنظيم الدولة فى مواجهة الدولة، وأعاقت كثيراً من محاولات الإصلاح السياسى والأمنى، كما أنها رفضت رفضاً مطلقاً تسليم سلاحها للمؤسسة العسكرية الرسمية. 

دلالات داخلية وخارجية

النتائج السابقة تحمل العديد من الدلالات فى المشهد السياسى العراقى القادم، والذى ستتكون خريطة تفاعلاته السياسية بناءً على تعاطيات القوى الفائزة فى الانتخابات الأخيرة مع تفاهمات وتوافقات تشكيل الحكومة، واختيار رئيس الوزراء الجديد، ويمكن رصدها فى النقاط التالية:

أولها، أن العراق مقبل على مرحلة سياسية يبتعد فيها خطوات عن حالة التأثير الإيرانية المهيمنة على سياساته الداخلية والخارجية، دون أن يعنى ذلك "فك الارتباط" بالكامل بينها وبين القوى السياسية الشيعية؛ لأن التيار الصدرى فى النهاية هو أحد مكونات القوى السياسية الشيعية التقليدية ذات المرجعية الدينية، وأيضاً من القوى السياسية التى كان لها ذراع عسكرية تطورت طبيعة تداخلاتها فى الحياة السياسية بدءاً من جيش المهدى وصولاً إلى سرايا السلام، وهى ميليشيات حظيت فى مرحلة ما بدعم إيران. وأن هذا الدعم تراجع منذ انسحاب سرايا السلام من هيئة الحشد الشعبى فى عام 2017، وحينها طالبها زعيمها مقتدى الصدر بتسليم سلاحها للمؤسسة الأمنية للدولة. وهنا تحول التيار الصدرى ليقترب من العمل أكثر فى الشارع العراقى لدعم العديد من حركات الاحتجاج الشعبية التى بلغت ذروتها فى أكتوبر 2019. هذا بخلاف خطبه وتصريحاته الرنانة حول الفساد وضرورة تعقب الفاسدين ... إلخ، ما اعتبره الشعب العراقى تياراً إصلاحياً مسانداً لتطلعاته فى التغيير المنشود، خاصة بعد اعتذاره المتكرر للشعب العراقى عن سنوات عمله السياسى فى البرلمان دون أن يسهم فى معالجة فعلية لمشاكله، ما يضع العراق أمام مشهد جديد يحمل خريطة لتوازنات سياسية محتملة قد تكون مغايرة للموجودة حالياً، لكن تظل التساؤلات هنا حول قدرة تلك التوازنات الجديدة العبور بالعراق عبر أزماته الداخلية وارتباطاته الخارجية بالمشروع الإقليمى الإيرانى، تساؤلات مفتوحة على كافة الاحتمالات.

ثانيها، احتمالية غياب عدد من القوى السياسية الشيعية التقليدية عن التشكيل المقبل للحكومة، وتحديداً تيار الفتح لهادى العامرى، وتيار الحكمة لعمار الحكيم، وتيار النصر لحيدر العبادى، وهى القوى التى كانت تمثل حجر أساس رئيسية فى عملية تشكيل الحكومات العراقية. ويستثنى من هذا الغياب ائتلاف دولة القانون لنورى المالكى الذى حصد 37 مقعداً، ما يضعه ضمن القوى المشمولة بالحوار فى مناقشات تشكيل الحكومة التوافقية الجديدة.

ثالثها، التراجع الحاد الذى سجله تيار الفتح لهادى العمرى فى الانتخابات بحصوله على 14 مقعداً مقابل 48 مقعداً فى انتخابات عام 2018، يؤشر بما لا يدع مجالا للشك إلى أن هناك توجها ًجديداً يحكم الرأى العام العراقى مؤداه أن الشعب لن يتنازل عن التغيير، وتحديداً ذلك النوع من التغيير الذى يخرج العراق من فلك وسيطرة الأحزاب التقليدية، ومن سيطرة ايران وتنظيماتها من الميليشيات المسلحة الولائية؛ لمسئوليتها الرئيسية عن كل ما يعانيه العراق من أزمات داخلية وخارجية. وقد ترجم المقترعون هذا التوجه بقوة فى التصويت للتيار الصدرى من ناحية، وفى الدفع بقوى الحراك التشرينى للحصول على 9 مقاعد برلمانية من ناحية ثانية، بما يؤشر على تغيير واضح فى المزاج العام للناخبين العراقيين نحو اختيار قوى سياسية شيعية أقل تطرفاً وأكثر اعتدالاً، وهو ما قد يكون بداية لتغيير فعلى أكثر نتاجاً مستقبلاً.  

رابعها، نجاح التيارات السياسية السنية فى الحصول على عدد مقاعد وازنة عبر حصول تحالف تقدم لرئيس البرلمان محمد الحلبوسى على 41 مقعداً، ما يجعله الكتلة الأقرب إلى التحالف البرلمانى مع تيار الصدر فى مسار تكوين تحالفات الكتلة البرلمانية الأكبر، ويرجع صعود منحنى التأييد السنى لتحالف تقدم على حساب نظيره تحالف عزم– حصل على 15 مقعداً - لخميس الخنجر إلى الدور الفعال الذى لعبه الحلبوسى فى النهوض بحاضنته الشعبية السنية فى محافظة الأنبار، من خلال دعمه القوى لحملات إعادة الإعمار فى المدينة التى دمرتها الحرب على تنظيم الدولة.

خامسها، احتمالية أن يتولى مقتدى الصدر رئاسة الوزراء، وهنا سيخرج مقتدى عن حالة الاكتفاء بدعم من يتولى المنصب، أو ما يسميه المحللون بدوره فى "صناعة الرؤساء"، وهو ما حدث مع حالة اختيار مصطفى الكاظمى. وهنا يرى البعض أن اتجاه الصدر لمثل هذا السيناريو من شأنه أن يضعف موقعه السياسى، وينال من الصورة الذهنية التى رسمها له العراقيون كداعم للحراك الشعبى، لأن الواقع العراقى بأزماته المتعددة لن يحل فى دورة برلمانية واحدة، والأفضل أن يظل بكتلته البرلمانية الأكبر – حال تشكيلها- مراقباً ومقيماً وفارضاً لشروط التغيير المأمول على غيره من القوى السياسية الأخرى، وذلك عبر اختيار رئيس وزراء يكون لديه القدرة على استكمال مسار التغيير الذى بدأه رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمى، وهذا التصور فى حد ذاته يفتح الباب أمام احتمال إعادة اختيار الكاظمى لتولى المنصب باعتباره شخصية مستقلة توافقت عليها الكثير من القوى السياسية، بخلاف أنه يحظى فعلياً بدعم نسبى من قبل التيار الصدرى .

سادسها، يتعلق بموقف إيران، التي تواجه وفقاً لنتائج الانتخابات التشريعية العراقية 2021 تحديات واضحة بشأن دورها فى الداخل العراقى، خاصة ذلك الدور الداعم مادياً وعسكرياً للميليشيات العراقية المسلحة الموالية لها، والتى تراجعت نتائجها بصورة مذهلة، ما يمنعها من أن تكون صاحبة اليد الطولى فى الانفراد بعمليتى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر واختيار شخصية رئيس الوزراء، الأمر الذى يقلص من البدائل المتاحة أمام إيران بشأن نطاق ومدى المناورة التى يمكن أن تخوضها فى المشهد السياسى العراقى، لاسيما فيما يتعلق باختيار رئيس الوزراء الجديد، ويتقلص، وفقاً لذلك، هامش حركتها وينحصر فى حالة "التوافق الإقليمى والدولى" التى يحتاج أن ينالها شاغل منصب رئيس الحكومة، وإن كانت أيضاً ستخضع لتفاعلات وظروف داخلية وخارجية محددة.

وأخيراً، فإن المعطيات السابق رصدها بشأن نتائج الانتخابات التشريعية العراقية فى دورتها الخامسة، وما تحمله من دلالات متعددة، تؤشر على قدر محتمل من التغيرات فى طبيعة التحالفات البرلمانية والسياسية المقبلة، بما سينعكس على مجمل مسار العملية السياسية فى العراق خلال السنوات الخمسة المقبلة.


رابط دائم: