مرحلة الحسم: حراك مصري – ليبي لاستكمال استحقاقات عملية الانتقال السياسي
2021-9-16

أحمد عليبه
* خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يرتبط الحراك الذي تشهده القاهرة حالياً في الملف الليبي بدخول عملية الانتقال السياسي مرحلة الحسم. فوفقاً للجدول الزمني لخريطة الطريق، هناك نحو ثلاثة أشهر متبقية على الاستحقاق الانتخابي في 26 ديسمبر 2021، والذي يشكل تتمة لهذه المرحلة، وهو ما جاءت المباحثات المصرية – الليبية التي عقدت في 14 سبتمبر الجاري (2021)، وجمعت بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وكل من رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، والقائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر في سياقه. كما يرتبط باستمرار تعزيز الشراكة الاستراتيجية المصرية – الليبية، في إطار انعقاد الجولة الثانية للجنة العليا المشتركة بين البلدين برئاسة رئيسى الحكومة بعد ذلك بيومين. وفى هذا الإطار، مثّل الجانب الليبي حكومة الوحدة الوطنية بكامل أعضاءها تقريباً برئاسة رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، الذي التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، في اليوم نفسه.

وفيما يتعلق بالمباحثات التي أجريت مع رئيس البرلمان والقائد العام للجيش، عكس البيان الرسمي الصادر عن اللقاء إعادة التأكيد على المنظور الاستراتيجي المصري في التعامل مع استكمال المرحلة الانتقالية، حيث تتبنى القاهرة تنفيذ كامل استحقاقات خريطة الطريق دون تجزئة، ومن المتصور أن الجوهر الرئيسي لهذه الاستراتيجية يقوم على أساس إنهاء دور المراحل الانتقالية المتعاقبة في ليبيا، والانتقال إلى مرحلة الاستقرار السياسي، التي تضمن عودة "الدولة الليبية" إلى ممارسة مهامها وأدوارها بشكل طبيعي. وعلى عكس التصور السائد بأن المحك الحقيقي لوصول ليبيا إلى عتبة الاستقرار بعد عقد كامل من الصراعات والفوضى سيتم عبر إجراء عملية الانتخابات الرئاسية والتشريعية، من المهم القول إن الاختبار الفعلي هو إنجاز كامل استحقاقات خريطة الطريق التي تعد العملية الانتخابية أحد أركانها فقط، دلالة ذلك أن عام 2012 شهد إجراء انتخابات ليبية أدت إلى تمزق وانقسام البلاد، كما أهدر أكثر من اتفاق سياسي فى المراحل الأخيرة لم يختلف مضمون أى منها جوهرياً عن الاتفاق السياسي الحالي، وكانت المحصلة الإجمالية أن المشهد الليبي تقلب ما بين الحرب واستراحة الحرب.  

رؤية شاملة

تعكس هذه الرؤية سمة تُميِز الانخراط المصري في الملف الليبي، على عكس توجهات العديد من الأطراف، التي لا تزال ترى أن الانتخابات الليبية هى المؤشر المفصلي لاختبار عملية الانتقال السياسي إلى مرحلة الاستقرار. لذا تصر القاهرة على العمل على الملفات الأخرى على التوازي، ومنها استكمال عملية توحيد المؤسسات المنقسمة، وإنهاء ظواهر التدخل الخارجي، عبر التواجد العسكري، والمقاتلين الأجانب، ومعالجة ملف الفصائل المسلحة. وقد تشكلت هذه الرؤية في إطار دافعين رئيسيين: الأول، يتعلق بالحيلولة دون التأثير على العملية السياسية، ليس قبل عملية الانتخابات فقط، وإنما الأهم ربما بعد إتمام هذه العملية، من حيث قبول الأطراف بمخرجاتها حتى لا يتكرر سيناريو 2012. والثاني، يرتبط بحسابات الأمن القومي المصري، فاستمرار هذه الظواهر وتنشيطها سينعكس بالتبعية على الجانب المصري.

وفيما يتعلق بالملف الأمني، ربما هناك تصور لقضيتين ملحتين: الأولى، ذات بعد سياسي، فإصدار قانون انتخاب الرئيس وصلاحياته تضمن أن يكون المرشح ذي الخلفية العسكرية قد تخلى عن موقعه قبل الانتخابات بثلاثة أشهر، وفي حال فوزه يتولى صلاحياته المقررة وفقاً للقانون، الذي يشير إلى تبني النظام الرئاسي في أغلب الظن، وفي حال عدم فوزه يعود إلى منصبه مرة أخرى، وهو ما يعني أنه في حال ترشح المشير حفتر للرئاسة سيتخلى عن منصبه كقائد عام للجيش، خلال أيام على الزيارة التي قام بها إلى القاهرة، وبالتالي سيتعين على القاهرة تدارس هذا الأمر، حيث يعنيها في المقام الأول كيف سيتم التعامل مع هذا الموضوع في الفترة المقبلة، في سياق ما يعني الجانب المصري بالضرورة في الملف الأمني. والثانية، تتعلق بملف الانتشار الأمني الليبي في الجنوب لإعادة ضبط الأوضاع هناك، حيث أطلق الجيش عملية عسكرية لمواجهة الفصائل التشادية المتمردة، بشكل رئيسي، وتشير بعض التقارير إلى أن هناك دعماً فرنسياً في هذا الأمر، وهو تطور آخر على مقربة من الحدود المصرية، يستتبع بالضرورة إطلاع القاهرة على تفاصيله.

كذلك، في السياق ذاته، يمكن الربط بين المباحثات التي أجريت في القاهرة، والجولة الاستكشافية الثانية المصرية – التركية، فالقاسم المشترك في التصريحات من الجانبين عقب الجولة، كاشف عن أن الملف الليبي هو ملف محوري على الطاولة، لكن إلى أى مدى ستترجم أنقرة إصرار القاهرة على تحقيق اختراق في هذا الملف، كمدخل لاستعادة العلاقات الطبيعة بين البلدين، بما يتسق مع رؤية مصر السالف الإشارة إليها، لاسيما وأن هناك توافقاً دولياً داعماً للتوجه المصري، بالإضافة إلى أن إقدام الجيش الليبي على التعامل مع التحديات الأمنية في الجنوب يعكس مبادرة من جانبه للوفاء بدوره فيما يتعلق بتقويض الظواهر الأمنية السلبية في مناطق نفوذه، وهو ما يتطلب مبادرة من الجانب الآخر في الغرب الليبي لاتخاذ خطوة مماثلة. ومن ثم فعلى الجانب التركي أن يلتقط هذا الخيط على اعتبار أن أنقرة لاعب محوري على تلك الساحة في ملف المرتزقة والفصائل المسلحة.

تواصل مع جميع الأطراف

أيضاً إحدى الإشارات الأخرى التي يمكن تلمسها في البيان المصري، هو تركيز القاهرة على أنها تتعامل مع كافة الأطراف الليبية، لإنجاز استحقاقات خريطة الطريق دونما تمييز، وهى نقطة محورية، ربما يدلل عليها وجود أغلب القيادات الليبية في القاهرة في وقت واحد، ما يؤكد على أن القاهرة تمد جسور التواصل مع الجميع لتحقيق الأهداف المرحلية، وتقريب المسافات فيما بين الأطراف الليبية حتى لا يعاد إنتاج وضع حكومة الوفاق، وتظهر جبهات التصارع السياسي والمسلح مرة أخرى. وعلى الأرجح، فإن هذه النقطة محل توافق دولي، وإقليمي، فمن الأهمية بمكان القول بأن هناك توازناً، إلى حد ما، بين طرفى المعادلة السياسية الخاصة بليبيا، والتي تشكل الإرادة الوطنية أحد أطرافها، والإرادة الدولية طرفها الآخر، ومحصلة الجمع بينهما تشير إلى التأكيد على إتمام خريطة الطريق، حتى وإن كانت هناك بعض التباينات في التفاصيل، أو اتجاه لدعم تيار أو مرشح مقابل آخرين.

ويتصل بهذا السياق مقاربة أخرى، وهى أنه ربما ساهمت عملية "تبريد" الصراعات الليبية، خلال المرحلة الانتقالية الحالية، بعد فترة طويلة من الصراع المُكلِّف، في تشكل منظور جديد لدى القوى المنخرطة على الساحة الليبية، يقوم على التفاهم والتنسيق بشأن المصالح الاقتصادية والأمنية إلى حد ما، وهو ما يحتم أمرين: أحدهما وجود سلطة مركزية موحدة يمكن التعامل معها، وثانيهما، الحد من تداعيات الهشاشة الأمنية في ليبيا، والتي تسببت في ارتفاع كُلفة الأمن الإقليمي على حساب دول الجوار الليبي، وربما أيضاً على الساحة الأوروبية، خاصة ما يتعلق بأمن الحدود بالنسبة لدول الجوار، وملفات الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب على وجه التحديد بالنسبة للدول الأوروبية. لكن يبدو أن هناك مقاربة جديدة لدى أغلب الأطراف، تقوم على أن المرحلة المقبلة هى مرحلة تقاسم المصالح الاقتصادية في إطار برنامج إعادة إعمار ليبيا، الذي يتوقع، بحسب تقديرات الاتحاد الأوروبي، أن يتجاوز 100 مليار دولار، ومعالجة الملفات الأمنية بطبيعة الحال.

هذه المقاربة التي تعكس تشابكاً في المصالح ما بين الأمني والسياسي، ربما انعكست في المشهد المصري – الليبي في إطار اللقاءات التي استضافتها القاهرة، من حيث الاهتمام بتعزيز الجانب الأمني الليبي بشكل عام، بالإضافة إلى بُعد المصالح الاقتصادية المشتركة. ففي واقع الأمر، لدى مصر ما تقدمه للجانب الليبي على صعيد ملف التنمية وإعادة الإعمار، بالنظر إلى الإنجاز المحلي الذي حققته مصر في هذا الصدد، وهو نموذج ملائم للحالة الليبية، لإعادة تأهيل المجتمع الليبي بشكل عام لمرحلة السلم الأهلي بعد عقد كامل من الصراع.

ويعكس حجم ونوع الاتفاقيات التي أبرمت في إطار اللجنة العليا المشتركة مدى رغبة الطرفين في تطوير هذا البُعد، الذي يحقق قيمة مضافة ومتبادلة الآثار على الجانبين، فالعائد الاقتصادي عنصر مهم لمصر، لكن أيضاً الأبعاد الأمنية في الجانب التنموي التي سيحقهها استقرار الجانب الليبي مهمة في هذا الإطار، وهو أيضاً أحد المبادئ الرئيسية التي يؤكد عليها الخطاب المصري، فيما يتعلق بعدالة التوزيع، والعدالة الاجتماعية التي تتطلب تنمية في كافة ربوع ليبيا، خاصة وأن هناك أقاليم في ليبيا تفتقر بدرجة كبيرة لعملية التنمية والإعمار كالجنوب الليبي.

في الأخير، يمكن القول إن مصر تعمل على استثمار فرصة المرحلة الانتقالية الحالية في ليبيا حتى تكون بمثابة آخر مراحل الانتقال السياسي، ومعها تنتقل ليبيا إلى مرحلة الاستقرار، لكنها لا تختزل هذا البُعد في ملف الانتخابات الرئاسية وإنما في كافة الملفات بالتزامن وعلى التوازي كاستحقاقات متصلة. ويبدو أن الجانب الليبي يستوعب هذا التوجه، وهو ما تأكد في البيان الليبي الصادر عن اللقاء الثلاثي (السيسي – صالح – حفتر)، والذي أشار إلى توافق المنظور الليبي مع الجانب المصري. بالإضافة إلى أن مخرجات اللجنة العليا المشتركة تعكس السياق ذاته، فيما سيتعين على الطرفين مواصلة الحوار على هذا النهج في ظل التحديات الراهنة لتفاديها والوصول إلى الهدف المشترك وهو تعزيز الاستقرار في ليبيا، بما يحقق بالتبعية مصلحة مصرية ترى أن استقرار ليبيا هو أولوية استراتيجية في المرحلة الحالية وفي المستقبل.


رابط دائم: