تواجه إسرائيل لحظة تاريخية فارقة فى تاريخها، تتمثل فى الأزمة السياسية الشاملة وتجلياتها الظاهرة؛ تلك الأزمة التى ارتبطت منذ البداية بنشأة إسرائيل، وتراكمت مظاهرها وتجلياتها عبر العقود لتصل إلى المشهد السياسى الراهن بكل تعقيداته.
مظاهر عدم الاستقرار السياسى فى إسرائيل التى تمثلت فى صعوبة تشكيل حكومة مستقرة، تحظى بأغلبية حاسمة وإجراء أربعة انتخابات فيما يقرب العامين من 2019 إلى 2021 واستمرار صعوبة إزاحة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو طوال هذه الفترة من حكمه التى استمرت ما يقرب الإثنى عشر عاماً، وانتهت بتكليف يائير لابيد بتشكيل حكومة أعلن عنها في 13 يونيو الماضي (2021)، هذه المظاهر ترتبط بأزمة عميقة داخلية وغير مسبوقة فى المجتمع والاقتصاد والتركيب الديموجرافى والظروف الدولية والإقليمية وغيرها.
لمحة تاريخية
يمكن القول إن مصادر الأزمة متعددة، فثمة مصدر تاريخى يرتبط بنشأة إسرائيل ذاتها، كتجسيد للمشروع الصهيونى وهو ما يعنى نشأة دولة انتهكت منذ البداية حقوق الشعب الفلسطينى وتناقضت ممارساتها مع قيم الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة وكافة المواثيق الدولية والأعراف ومبادئ القانون الدولى.
اكتشفت إسرائيل بعد قيامها وجود الشعب الفلسطينى، وفساد الزعم الصهيونى القائل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وواجهت مقاومة باسلة امتدت عبر العقود للشعب الفلسطينى فى حلقات متصلة ومتواصلة وبأشكال وصور مبتكرة تتلاءم مع طبيعة الاحتلال ومراحله المختلفة. وبدت آخر مظاهرها جلية فى عملية "الهروب" التى نفذها ستة أسرى فلسطينيين من سجن "الجلبوع"، وهو أحدث السجون الإسرائيلية الذي يخضع لإجراءات أمنية صعبة، فى 6 سبتمبر الجاري (2021)، والتى سيكون لها انعكاسات قوية ومباشرة على المشهدين الأمنى والسياسى داخل إسرائيل خلال المرحلة القادمة.
من ناحية أخرى، فإن النظام الانتخابي القائم لم يُكفَِّل لأى من الأحزاب الكبيرة أغلبية واضحة لتشكيل الحكومة، وهو الأمر الذى أفضى إلى حاجة هذه الأحزاب لنظيراتها الصغيرة إن على يمينها أو يسارها لبناء ائتلاف يحظى بثقة الكنيست.
فى البداية، لم يتسبب هذا النظام الانتخابى فى مشكلات كبيرة، ولكن فيما بعد تعرضت التيارات السياسية المؤثرة لابتزاز الأحزاب الصغيرة، واستمر ذلك حتى عام 1992 عندما صدر قانون بتعديل النظام الانتخابى، أى انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من قبل الناخبين، وانتخاب النواب فى عملية انتخابية واحدة، ومع ذلك أفضى هذا التعديل إلى زيادة التفتت السياسى وازدياد الكتل الانتخابية فى الكنيست وتم الرجوع إلى النظام القديم.
وترتب على ذلك صعوبة بناء الائتلافات، وعدم القدرة على تشكيل قطب وسط بين "العمل" و"الليكود"، وانتهت محاولات تشكيل مثل هذا التوجه إلى الفشل، على نحو دفع المراقبين والكتاب الإسرائيليين إلى الدعوة لتشكيل حزبين كبيرين على غرار الحزب الجمهورى والحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة الأمريكية كمخرج من الحالة الراهنة.
الأزمة الراهنة
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأزمة الإسرائيلية الراهنة ينبغى أن توضع فى سياقين، أحدهما مرتبط بالثانى ويكمل الآخر. الأول يرتبط بالنشأة الأولى ومضاعفاتها التى واجهت إسرائيل والذى أشرنا إليه سابقاً. والثاني يتصل بالتحولات الاجتماعية والديموجرافية الاقتصادية والسياسية والتى عززت من تعمق هذه الأزمة، وأفضت إلى الانقلاب الذى حدث عام 1977 بوصول تحالف "الليكود" إلى الحكم.
تدعمت خلفية هذا الانقلاب بعدوان 1967، واتجاه المجتمع الإسرائيلى إلى التطرف واليمين، وتفاؤل المتدينون بتحقيق الوعد الإلهى، وتطابق الجغرافيا التوراتية مع الجغرافيا السياسية باحتلال الضفة الغربية وبقية فلسطين الانتدابية.
ترافق ذلك مع تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادى فى مطلع الثمانينيات، وتقلص شبكة "الكيبوتزات" و"الموشافات" التعاونية للاشتراكية الصهيونية، وضعف "الهستدروت" والتحول إلى القطاع الخاص، وتآكل القيم التى تنتمى للآباء المؤسسين لإسرائيل، والتى تمثلت فى الريادة والانضباط والتقشف والجماعية لصالح القيم الجديدة الناشئة مثل الفردية والرفاهية الشخصية والتنافسية.
من ناحية أخرى، فإن تدفقات المهاجرين الشرقيين واليهود السوفييت، عززت من الانقسام الطائفى والسياسى، ووجد هذا الانقسام ترجمته فى تعزيز الاستيطان، والتوجه الدينى وظهور الجماعات والأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، وهو الأمر الذى أفضى إلى ما يسميه بعض الكتاب والباحثين التنازع على الميراث الدينى اليهودى بين الأحزاب القومية اليمينية، وبين الأحزاب الدينية المتطرفة؛ فأصبح التيار الدينى المتشدد، مسيساً وصهيونياً كما أصبح التيار اليمينى المتشدد دينياً وتوراتياً بالإضافة إلى أنه صهيوني.
محصلة هذا التفاعل بين التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموجرافية وبين نواة الأزمة الهيكلية فى إسرائيل، أفضت إلى تقليص نفوذ اليسار الصهيونى ممثلاً فى "العمل" وتآكل قواعده الانتخابية، وانهيار الحدود والفواصل بين رؤيته وبين الرؤية اليمينية المتطرفة، إن على الصعيد الفلسطينى والتسوية أو على مختلف المستويات. فقد اليسار تميزه ورؤيته المستقلة، ورضخ للمد اليمينى القومى والدينى المتطرف، وتقلصت سطوته على المجتمع والدولة، وتعزز نفوذ اليمين القومى والدينى إلى حد ظهور ما يسمى باليمين الجديد وتهميش النخبة اليمينية التقليدية ذاتها، التى تنتمى لليمين الليبرالى العقلانى، الذى يؤمن بالحريات الإعلامية والفردية ومن رموزه دان ميريدور وبينى بيجن ورئيس الدولة رؤوفين ريفلين.
وفى مقابل تهميش اليمين الليبرالى والتقليدى، ظهر على الساحة يمين جديد، يتألف من الأحزاب المتشددة دينياً والأحزاب القومية المتدينة، وكذلك كتلة المستوطنين بجماعاتهم ومنظماتهم المختلفة بالإضافة إلى أعضاء كنيست متطرفين من حزب "الليكود" والجماعات القومية المتطرفة المنضوية فى حزب "إسرائيل بيتنا" وحركات عنصرية متعددة تحض على طرد العرب وتمارس التحريض ضدهم من خلال جماعات مختلفة على وسائل ووسائط التواصل الاجتماعى.
يجمع بين أطراف هذا اليمين الجديد قواسم مشتركة أيديولوجية؛ مثل العداء المطلق للشعب الفلسطينى خاصة والمسلمين عامة، وتركز دعواته السياسية والأيديولوجية على الهوية اليهودية القومية للدولة، وهذه الجماعات هى التى وقفت وراء إصدار قانون القومية، وقد حظى هذا اليمين بدعم اليمين الأمريكى والشعبوى والأوروبى الذى يؤيد العنصرية والعداء للمسلمين والغرباء.
وقد استفادت إسرائيل من هذا التلاقى بين اليمين الجديد الإسرائيلى واليمين المتطرف الأمريكى والأوروبى، فى تبنى سياسات متطرفة تجاه الفلسطينيين واستمرار الاحتلال والاستيطان والتوجه نحو فك الارتباط بين الاستقرار والسلام وبين قيام الدولة الفلسطينية وتسوية الصراع على قاعدة الأرض مقابل السلام.
من ناحية أخرى، فإن اليمين الجديد يناصب الإعلام والنخبة العلمانية الإشكنازية العداء، ويدعو إلى تقليص نفوذ المحكمة العليا الإسرائيلية وصلاحياتها، ومحاولات منعها من الرقابة على القرارات التى يصدرها الكنيست بذريعة أن أعضاءها غير منتخبين.
أما فيما يتعلق بالتسوية مع الشعب الفلسطينى، فإن أطروحات هذا اليمين تتمثل فى استكمال ضم المستوطنات ووادى الأردن، وتصفية قضية اللاجئين ومنظمة الأونروا، واعتبار القدس عاصمة موحدة للدولة الإسرائيلية، وتثبيت الوضع القائم والإبقاء على السلطة الفلسطينية فى وضعها الراهن وإعلان نهاية حل الدولتين، والتحلل من جميع القرارات الدولية المتعلقة بهذا الحل.
الاندماج بين النموذج العلمانى والدينى الأسطورى
كانت الأسطورة الدينية قائمة فى الفكر الصهيونى منذ البداية مع سيطرة النخبة العمالية اليسارية، ولكنها لم تكن فى الحقيقة سوى وسيلة وليست غاية فى حد ذاتها، أى لاستقطاب التعاطف إن من قبل اليهود المتدينين أو اليهود عامة أو من قبل الدوائر الدولية المختلفة، ولكن هذه الأسطورة تحولت إلى غاية فى حد ذاتها، أى إقامة مجتمع يهودى متدين ومتشدد بعد الاندماج بين التيار الدينى المتشدد والتيار اليمينى المتشدد؛ حيث أصبح الأول صهيونياً والثانى دينياً، وتبنيا خطاباً واحداً متجانس المفردات حول الأرض والشعب الفلسطينى والتوراة وأرض الميعاد والعداء للمحيط العربى.
هذا الصعود للأسطورة الدينية والتشارك فى تداولها، جاء ترتيباً على الانتقال من حكم الجماعة الواحدة المهيمنة ألا وهى النخبة الإشكنازية العمالية، إلى هيمنة جماعات متعددة من اليهود الأرثوذوكس وجماعات المستوطنين والتيارات العنصرية المتدينة، من شتى الاتجاهات، والذين التفوا حول نتنياهو، وهى الجماعات التى تسعى إلى السيطرة على الإعلام والثقافة ومؤسسات الدولة العميقة.
وقد أفضت هذه السيطرة اليمينية إلى خلق تناقض واضح بين مظهر إسرائيل كقوة إقليمية تضرب ذات اليمين وذات اليسار فى سوريا وإيران ولبنان وغزة، إلى دولة مأزومة داخلياً وغير مستقرة وتواجه للمرة الأولى تحديات داخلية تهدد مناعتها الجماعية والثقة فى مؤسسات الدولة، بل يذهب بعض الكتاب إلى تحول إسرائيل على غرار جمهورية "ڤايمار" فى ألمانيا، ووقوعها فى قبضة العنصريين والفاشيين كما وقعت ألمانيا فى قبضة النازية.
هذه الأزمة الراهنة فى إسرائيل ليست مجرد صراعات حزبية أو شخصية وإن كانت لا تخلو من ذلك بشكل جزئى، ولكنها أزمة بنيوية عميقة تنتج تحولات كبيرة فى المجتمع، لم تجد حتى الآن من يستطيع أن يتعامل معها بذكاء، أو حصافة، وتتوفر له القدرة على احتواء مضاعفاتها، خاصة مع اختفاء جيل المؤسسين وظهور أجيال من الساسة أقل تفهماً لهذه التحولات وطبيعة علاجها بعيداً عن الأيديولوجيا والرؤى المسيانية.
فى خضم هذه الأزمة وتجلياتها، صارع نتنياهو حتى النهاية ليمسك بخيوط اللعبة؛ استناداً على ما اعتبره منجزات حققها حكمه، ولكنه كما اصطدم هو بعجز مؤيديه عن سن قانون يمنحه الحصانة ضد الاتهامات الموجهة له، كذلك فشل مناهضوه فى سن قانون يحظر تكليف عضو كنيست موجهاً له اتهامات رسمية بتشكيل حكومة، إلى أن كلف رئيس الدولة يائير لابيد بتشكيل هذه الحكومة ونجح فى تشكيلها ربما إلى حين.
مقاربات ما بعد نتنياهو
تواجه الحكومة الإسرائيلية التى تشكلت فى يونيو الماضى، وحصلت على ثقة الكنيست، والمعروفة إعلامياً بحكومة "التغيير"، والتى أنهت عهد نتنياهو ووضعت هذا الأخير فى موقع زعيم العارضة الإسرائيلية، صعوبات شتى. وقد استندت هذه الحكومة بادئ ذى بدء على مناهضى حكم نتنياهو وإصرارهم على إزاحته، ويكاد تكون هذه النقطة بمثابة القاسم المشترك الأعظم بين مختلف مكوناتها من اليمين الدينى والقومى والوسط واليسار؛ وضمت هذه الحكومة حزب "يوجد مستقبل" بقيادة يائير لابيد "الوسط"، و"أبيض أزرق" بزعامة بينى جانتس، و"العمل" و"ميرتس" و"يمينا" بزعامة نفتالى بينيت، و"القائمة العربية الموحدة" برئاسة منصور عباس، و"أمل جديد" بزعامة جدعون ساغر المنشق عن تكتل "الليكود". وكما هو واضح، فإن هذه المكونات ما يفرق بينها أكثر مما يوحدها سياسياً وأيديولوجياً واجتماعياً، فثمة رؤى ومواقف مختلفة ومتباينة إلى حد التناقص إن على الصعيد الاجتماعى الداخلى أو على الصعيد الإقليمى وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية.
والاتفاق المعقود بين هذه القوائم الانتخابية عكس تركيبة الحكومة وطبيعتها، حيث تجنب هذا الاتفاق القضايا الخلافية، وبالذات القضية الفلسطينية وحل الدولتين وكذلك الاستيطان والمستوطنات، وأشار فى خطوط عريضة إلى المواقف الاجتماعية والاقتصادية.
يتأرجح مستقبل حكومة نفتالى بينيت الحالية بين مجموعتين من العوامل. تتعلق الأولى بهشاشتها سياسياً وأيديولوجياً واجتماعياً، وتباين مواقفها إزاء الاقتصاد والسياسة الاجتماعية، فضلا ًعن اختلافها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. أما الثانية فترتبط بالتطورات الإقليمية والعناصر التى تدعم صمود وتماسك هذه الحكومة.
ويمكن القول إن مستقبل حكومة بينيت يتوقف على نتاج التفاعل بين هذه العوامل ومحصلتها وانعكاس ذلك على بقائها أو احتمال انهيارها. فعلى الصعيد الاقتصادى والاجتماعى، تتفاوت الرؤى والمواقف بين مكونات هذه الحكومة، ففى حين أن "ميرتس" و"العمل" مع تبنى سياسات رفاهية ومناصرة للضعفاء وتقليص السياسات النيوليبرالية، فإن "أمل جديد" و"إسرائيل بيتنا" على سبيل المثال مع تقليص سطوة الدولة على الاقتصاد وإفساح المجال للقطاع الخاص والمبادرة الفردية. أما على الصعيد الفلسطينى، فحدث ولا حرج، حيث أن أغلب هذه القوائم والمكونات تتجاهل حل الدولتين، وتنكر حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى ومع تعزيز الاستيطان والمستوطنات والضم.
وعلى الصعيد الإقليمى، يبرز بصفة خاصة الملف النووى الإيرانى، وموقف إسرائيل من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها وبين إيران. وترى المكونات الرئيسية فى الائتلاف الحكومى ضرورة وقف برنامج إيران للحصول على السلاح النووى، وأن أى اتفاق بين واشنطن والحلفاء لابد وأن يضمن ذلك، وإلا فإن إسرائيل تدعم الخيارات العملية والتجهيزات الضرورية للقيام بهذه المهمة.
من ناحية أخرى، فإن المفاوضات المقطوعة مع ممثلى الشعب الفلسطينى منذ عام 2014، يبدو أنها لن تستأنف فى الوقت الحالى رغم تغير الإدارة الأمريكية وصعود الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطى.
وحتى هذه اللحظة، فإنه يبدو أن هاتين المجموعتين من العوامل والتحديات التى تواجه الحكومة الإسرائيلية، متعادلتان من ناحية التأثير على بقاء هذا الائتلاف؛ أى عدم التمكن من الإطاحة به، وقدرة هذه الحكومة بتركيبتها السياسية والأيديولوجية على احتواء هذه التأثيرات والتعامل معها بحيث تحتفظ بتماسكها وبقاءها.
والأساس الذى يرتكز عليه هذا التعادل يتمثل فى أن العوامل التى تؤثر فى إسقاط هذه الحكومة "الهشاشة والاختلاف السياسى"، يقابله من ناحية أخرى حرص مكونات هذه الحكومة على البقاء فى الصدارة، وتجنب جولة انتخابية إضافية، قد تفقد فيها نفوذها ومقاعدها فى الكنيست، وقد تمهد لنتنياهو العودة مجدداً إلى المشهد وهو ما لا يريده الجميع.
فى مواجهة هذه العوامل، سواء تلك التى تدفع فى اتجاه تفكيك هذا الائتلاف الحكومى، أو تلك التى تحفز بقاءه وصموده، تتبنى حكومة نفتالى بينيت مقاربات تختلف مع مقاربة نتنياهو والحكومة السابقة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- الموقف من الولايات المتحدة الأمريكية: فى لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس الأمريكي جو بايدن، في 27 أغسطس الفائت، حرص الأول على تأكيد مواقفه المبدئية أو التى يعتبر أنها كذلك، حيث تجاهل الحديث عن القضية الفلسطينية، رغم حديث بايدن عنها، وإن لم يذكر أمام ضيفه الإسرائيلى حل الدولتين. واستطاع بينيت أن ينتزع من الرئيس الأمريكى جملة مفادها أن المفاوضات مع الجانب الإيرانى ما لم تضمن عدم حصول إيران على السلاح النووى فإن "ثمة خيارات أخرى بديلة".
استفادت إسرائيل من إتمام زنارة بينيت للولايات المتحدة الأمريكية عقب انفجار مطار كابول، من زاويتين. فقد أثبت هذا التفجير مصداقية التحذير الإسرائيلى من "الإرهاب الإسلامى" والذى أكدته مراراً وتكراراً. كما أن نية الولايات المتحدة الأمريكية وعزمها على الانسحاب من الشرق الأوسط عزز من مصداقية إسرائيل باعتبارها أفضل من يمثل ويحمى مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، سواء بقيت فى المنطقة أو انسحبت، خاصة أنها تمثل مخزوناً أمنياً ومعلوماتياً للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها وتقدم خدمات قيمة فى هذا المجال.
من الواضح أن ما يجمع بينيت وبايدن يفوق كثيراً ما يفرقهما؛ فالرئيسان لا يخفيان ارتياحهما من إزاحة نتنياهو والذى دأب إبان وجوده فى الحكم على انتقاد الولايات المتحدة الأمريكية خلال ولاياته المتعاقبة، وبصفة خاصة فيما يتعلق بسياستها الإقليمية فى الشرق الأوسط.
فى مواجهة حديث بايدن عن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإبداء عزم الولايات المتحدة الأمريكية على فتح قنصليتها فى القدس، تجاهل بينيت المفاوضات، ولكنه حرص على ألا يفوته تأكيد رفض الحكومة الإسرائيلية لفتح القنصلية فى القدس؛ نظراً لخطورة هذه الخطوة على الائتلاف الحكومى الذى يترأسه لمدة عامين.
من ناحية أخرى، فإن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان والأحداث المتلاحقة فيها تعزز من الآراء والتحليلات التى تزخر بها مراكز البحوث الإسرائيلية والإعلام للعديد من الكتاب، الذين يذهبون إلى أن هذا الانسحاب يعزز من ضرورة اعتماد إسرائيل فيما يتعلق بأمنها على قواها الذاتية وأذرعها الأمنية والاستخباراتية، وإذا كان هذا الأمر يمثل توجهاً قديماً منذ نشأة إسرائيل، فإنه الآن يبدو ضرورياً أكثر من أى وقت مضى، ذلك رغم تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية ضمان أمن إسرائيل، والاختلاف البين بين أفغانستان وإسرائيل من زاوية المكانة التى تشغلها كل منهما فى الاستراتيجية الأمريكية ودوائر صنع القرار الاستراتيجى الأمريكي.
2- الموقف من السلطة الفلسطينية: فى يوليو 2021، تم رفض زيارة غانتس للرئيس الفلسطينى محمود عباس، فى حين أن هذه الزيارة تمت بعد لقاء بينيت مع بايدن، حيث تلقى غانتس ضوءاً أخضر لإتمام هذه الزيارة، التي جاءت فى أعقاب الزيارات التى قام بها للسلطة الفلسطينية وليم بيرنز رئيس الاستخبارات الأمريكية وريتشارد مور رئيس جهاز المخابرات البريطانية، فى محاولة لتعزيز مواقف وتواجد السلطة الفلسطينية بعد التطورات التى شهدتها الأراضى المحتلة، فيما يتعلق بإلغاء الانتخابات وتأجيلها، والعدوان الإسرائيلى على غزة فى مايو 2021، وواقعة مقتل نزار بنات فى الضفة الغربية.
يعتبر الكثير من المحللين أن زيارة غانتس ذات طابع أمنى بامتياز، لأنها ضمت إلى جانبه المنسق الإسرائيلي فى الأراضي المحتلة غسان عليان ورئيس الاستخبارات الفلسطينية ماجد فرج، ومع ذلك فإن للزيارة جوانب أخرى أبرزها الجانب المالى والاقتصادى، حيث وافقت إسرائيل على منح السلطة الفلسطينية قرضاً قيمته 500 مليون شيكل، أى ما يعادل 150 مليون دولار، على أن يتم دفعه اعتباراً من منتصف العام القادم من أموال الضرائب الفلسطينية.كما تضمنت حل مشكلات الفلسطينيين العالقين الذين لا يمتلكون التصاريح اللازمة للعودة من الخارج والسماح بزيادة عدد العمال الذين يدخلون إسرائيل للعمل وبناء وحدات سكنية للفلسطينيين فى المنطقة (ج).
وتدخل هذه الزيارة فى إطار المقاربة التى تحاول الحكومة الإسرائيلية تبنيها إزاء القضية الفلسطينية، والتى تتلخص فى محاولة "تقليص الصراع" مع الفلسطينيين إلى الحدود الدنيا وتجنب الاحتكاك بهم أو استفزازهم، ويقترن ذلك بعدم تقديم التنازلات المطلوبة فلسطينياً أو دولياً، وهى المقاربة التى تزعم الحكومة الإسرائيلية أنها مختلفة عن مقاربة نتنياهو، بالإضافة إلى ذلك يصف الكثيرون هذه المحاولة والزيارة ونتائجها بأنها جزء من "السلام الاقتصادى" وتحسين شروط الحياة لدى الفلسطينيين مع تغييب الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطينى فى الدولة والتحرر من الاحتلال.
ويحاول بينيت تطبيق مقاربته إزاء الضفة الغربية مع غزة وحركة حماس، حيث وافق على دخول المنحة القطرية وسمح بزيادة عدد المواد المسموح بإدخالها إلى غزة إلى ألف مادة. وفى الوقت نفسه الرد على إطلاق أى صاروخ من غزة بطريقة محدودة ومحددة دون تصعيد شامل. ويرى بينيت قبل صعوده إلى رأس الحكومة أنه "يمكن إعادة أعمار غزة وهو منطق الفطرة السليمة، وعندما تحين اللحظة المناسبة للإطاحة بحماس يمكننا القيام بذلك. وحتى هذه اللحظة علينا أن نبادر بإعمار غزة".
يحاول بينيت تثبيت الاختلاف بينه وبين نتنياهو الذى تبنى إزاء غزة استراتيجية "الهدوء مقابل الهدوء"، وصياغة استراتيجية تتراوح بين الإطاحة بحركة حماس، وبين إعادة إعمار غزة، وهما خياران لم تجربهما إسرائيل طيلة حكم نتنياهو، وإذا كان الخيار الأول يتوقف على المستويات الأمنية والعسكرية والمضاعفات على صورة إسرائيل الدولية، فإن الخيار الثانى متباطئ، ويرتبط تسريعه بالعديد من الملفات مع حماس، على غرار تبادل الأسرى والتصعيد على الحدود ومطالب الشعب الفلسطينى فى القطاع حول إنهاء الحصار والطاقة وإقامة الميناء، وتأهيل البنى التحتية، وجميع هذه المطالب تستوجب ما هو أكثر من الهدوء مقابل الهدوء والدخول فى مفاوضات جادة فلسطينية- فلسطينية، وإسرائيلية- فلسطينية، الأولى بهدف تصفية الانقسام والثانية بهدف فتح الطريق أمام حل الدولتين، كما أن هذه المطالب المشروعة لا يمكنها الانتظار لتجريب المقاربات والاستراتيجيات ذلك أنها عاجلة وتتعلق بحياة شعب تحت وطأة الاحتلال والحصار.
دروس مهمة
كشفت المواجهات الأخيرة بين الشعب الفلسطينى والمقاومة بامتداد الوجود الفلسطينى، خلال شهرى أبريل ومايو 2021، والتى أثمرت الجهود المصرية عن قبول وقف إطلاق النار المتبادل والمتزامن والمرتبط وفق الرؤية المصرية بإعادة الإعمار واستئناف العمل لإيجاد أفق سياسى للحل يقوم على مبدأ حل الدولتين، كشفت عن عدد من الدروس المهمة التى ينبغى وضعها فى الاعتبار.
فى مقدمة هذه الدروس أن القوة الإسرائيلية مهما بلغت ليست قادرة على فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطينى، أى حمله على قبول الوضع الراهن، وأن هذه القوة كما فشلت فى ذلك هذه المرة، فهى قد فشلت فى إنجاز هذه المهمة طوال المرات التى حاولت فيها إسرائيل استثمار القوة، لتحقيق أهداف سياسية، ألا وهى تصفية المقاومة والقضية الفلسطينية.
أما الدرس الثانى فيتمثل فى أن المواجهة كشفت عن وحدة الشعب الفلسطينى فى الأراضى المحتلة وما وراء الخط الأخضر أى فى المدن المختلطة، وفى الشتات المجاور العربى والقريب وكذلك أينما وجد الفلسطينيون فى العالم بأسره، كما أن المواجهة كشفت عن قدرة الشعب الفلسطينى على المبادأة والسبق والابتكار، فى مواجهة سلطات الاحتلال، بل وحمله على التراجع، وهو يسبق قياداته فى الذهاب إلى الميدان والمواقع والمرابطة حيث ينبغى، وحيث المواجهة مع الاحتلال. يعرف الشعب الفلسطينى جيداً ماذا يريد وكيف السبيل إلى ما يريد؛ ألا وهو التحرر من الاحتلال والحرية، فى حين أن الإسرائيليين فى مأزق فلا هم قادرون على محو تطلعات الشعب الفلسطينى إلى الحرية والتحرر ولا هم قادرون على الاستجابة لها بحكم التركيبة الأيديولوجية والدينية للفاعلين الإسرائيليين، وعجزهم عن رؤية الواقع وفهم دينامياته، بل وقصورهم عن فهم طبيعة الشعب الفلسطينى وسبر أغواره والعبث بذاكرته.
من ناحية أخرى، فإنه فى اللحظة الراهنة لا يبدو أن إسرائيل سوف تقدم للشعب الفلسطينى سوى استمرار الوضع الراهن، واستكمال نظام الفصل العنصرى، والتمييز ومصادرة الأراضى والاستيطان، فى حين أن كافة المؤشرات والوقائع والحقائق البادية لكل ذى عينين من الإسرائيليين أو من يؤيدهم، تقول أن الشعب الفلسطينى لن يقبل بنظام الفصل العنصرى فى أرضه، ولن يقبل بأقل من التحرر من الاحتلال وإقامة دولته على حدود 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، وأنه إذا كان الإسرائيليون يملكون القوة فإن الشعب الفلسطينى يمتلك المقاومة بكافة صورها وقادر دائماً على دفع ثمن الحرية، وأن اليهود إذا كانوا يحيون فى ذاكرة المحرقة والهولوكوست، فإن الشعب الفلسطينى يحيى فى ذكرى النكبة والطرد واللجوء ولا يزال يحتفظ من غادر فلسطين كرهاً، بمفاتيح وصور وعقود ووثائق، تثبت ملكيته للأرض والعقارات ويسلمها الجيل السابق للأجيال اللاحقة.
أما الدرس الآخر وليس الأخير، فينصرف إلى أن الصراع بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل لن يحسم بالقوة العسكرية، فكما أن إسرائيل ليست قادرة على تصفية الشعب الفلسطينى بقوتها وهيمنتها، فإن الشعب الفلسطينى لن يستطيع بمفرده الحصول على حقوقه المشروعة فى الدولة والقدس، بل هو فى حاجة إلى الدعم الإقليمى والعربى والإسلامى والدولى، ومصر تقود هذه الجهود فى الإعمار والتهدئة وأفق الحل السياسى، وما دون ذلك فإن الانفجار قادم وقادر على التجدد والانتشار فى الصراع العربى- الإسرائيلى.
خلاصة المواجهات والحرب لا يضعها بالضرورة أطراف هذه المواجهة، بل يتوقف الأمر على طبيعة المعادلة الدولية التى بمقدورها أن تتشكل من خلال هذه المواجهات؛ معادلة تتشكل من الفاعلين الدوليين المؤثرين الذين لهم مصالح جيوسياسية فى الاستقرار والحل، وإخماد النار، وفى معظم حلقات هذا الصراع تم استحضار هذه المعادلة منذ قرار التقسيم فى عام 1947 ثم مسار أوسلو وقبلها حرب 1973.
الحالة الإسرائيلية فى هذه اللحظة غير ملائمة لقبول التعاطى مع حل الدولتين، رغم إزاحة نتنياهو -ربما مؤقتاً- وتشكيل حكومة "تغيير" حظت بثقة الكنيست، ذلك أن الائتلاف هش وغير متجانس، وتحيط به العقبات من كل جانب وتناوئه المعارضة اليمينية بقوة. فتجاذبات المتعصبين والمتطرفين والمتشددين دينياً والمستوطنين تسيطر على عقول صانعى السياسات، بقدر ما يسيطر صانعوا هذه السياسات على عقول هذه الفئات، وذلك يجعل من التعاطى مع الحل نوعاً من الخيانة والخروج عن الملة، ولا يعتقد أن أياً من السياسيين الذين يتصدرون المشهد الراهن قادر على مواجهة هؤلاء.
غير أن ذلك- أى هذه الحالة الإسرائيلية- ليست فى نهاية التحليل معطى ثابتاً أو أبدياً أو غير قابل للتغير، بل على العكس يمكن تغييره، بتضافر الضغوط العربية والإسلامية والدولية خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين واقتناع هؤلاء الفاعلين بضرورة وضع نهاية لهذا الصراع، وأن البديل لذلك هو استمرار المواجهات ونزيف الدماء ومزيد من عدم الاستقرار، والبقاء فى هذه الحلقة الجهنمية والشريرة وتهديد حياة المزيد من الأطفال والنساء والأبرياء.
أما بالنسبة للحالة الفلسطينية الناهضة، فإن استكمال النهوض والتحرر يتطلب من جميع النخب الفلسطينية، إن فى فتح أو فى السلطة الفلسطينية أو فى حماس والجهاد وغيرها من فصائل المقاومة، أن تفكر بعقلية "الأمة الفلسطينية" والشعب الفلسطينى وليس بعقلية "القبيلة" و"الغنيمة" من أجل أن يتوج النضال الفلسطينى بتحقيق أهدافه فى الدولة والقدس والأقصى، باختصار تحقيق الوحدة والتجانس والانخراط فى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها التنظيم الأم للنضال الفلسطينى والمعترف به عربياً وعالمياً، وليس ذلك هدفاً مثالياً بل فى متناول اليد إذا صدقت النوايا.