قمة بغداد.. محاولات العراق لاستعادة "التوازن" في سياسته الخارجية
2021-9-4

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، منذ تولى مهامه في مايو 2020، إتباع سياسات خارجية من شأنها إعادة العراق إلى نقطة "توازن" في إدارة علاقاته الخارجية؛ سواء مع عمقه الجيو-استراتيجي العربي من ناحية، أو مع جواره الإقليمي بما يشمل العلاقات مع إيران وتركيا من ناحية ثانية، أو في علاقاته بالقوى الدولية وتحديداً الولايات المتحدة من ناحية ثالثة، وذلك بالرغم من المحاذير التي تكتنف تحركات العراق السياسية فيما يتعلق بمعطيات العلاقة مع كل من إيران وتركيا بحكم تعارض مشروعيهما مع المصلحة العراقية؛ لاسيما فيما يتعلق باحترام سيادة العراق على أراضيه، ومع الولايات المتحدة بحكم خصوصية الوجود العسكري فيه والمتوقع انتهاؤه أواخر عام 2021 الجاري.   

في هذا السياق، عقدت الحكومة العراقية مؤتمراً إقليمياً دولياً في الثامن والعشرين من أغسطس الجاري (2021)، ضم عدة دول عربية وأجنبية؛ أبرزها مصر والأردن والسعودية والكويت والإمارات وقطر وإيران وتركيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى جانب ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتأتى هذه القمة ضمن مسار اعتمده الكاظمي يهدف إلى تعميق تواصل العراق مع القوى الخارجية في مجال الشراكة الاقتصادية، وإعادة الإعمار، ومكافحة الإرهاب، وتحقيق الاستقرار الأمني. وفى الوقت نفسه التوصل إلى قدر من التفاهم في القضايا ذات التماس مع عدد من الدول المشاركة؛ خاصة قضايا احترام السيادة والأمن، بما يُمَكن العراق من تأمين مصالحه الإقليمية وينأى به -قدر الإمكان- عن ساحة الصراع الدولي المحموم على أرضه.

أهداف ودلالات

تسعى الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي بعقدها قمة بغداد إلى التركيز على الأهداف التي تتعلق بالجوانب الاقتصادية؛ خاصة الاستثمارية والصناعية، مع التطرق بطبيعة الحال إلى القضايا المتعلقة بتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في ظل معطيات الداخل العراقي. وقد تجاوز جدول أعمال القمة مناقشة القضايا والأزمات الإقليمية وملفاتها الخلافية، خاصة أنها شهدت حضور ممثلين لدول تتعارض مصالحها مع بعضها البعض سواء داخل العراق، أو في ملفات إقليمية أخرى. كما أن البعض منها لا يرحب بحالة التقارب التي نجحت حكومة الكاظمي في تحقيقها مع كل من مصر والأردن بدفع مستوى التنسيق والتعاون الاقتصادي بين الدول الثلاثة من ناحية، ومع السعودية ودول الخليج من ناحية ثانية، وهى الدول التي تحاول إبقاء العراق معزولاً عن محيطه العربي لأن تقاربه يمثل بالضرورة خصماً من حالة الهيمنة التي تفرضها عليه منذ عقود.

وتنطلق رؤية الحكومة العراقية للهدف الرئيسي من القمة باعتبارها تعكس واقع محاولات العراق استعادة حالة "توازن الدولة" التي افتقدها منذ سنوات طويلة، والتي يتركز هدفها الرئيسي ليس في لعب أدوار إقليمية ملموسة، بقدر ما يتركز في أن تؤدى سياسات التوازن المتبعة في تفاعلاته الإقليمية والدولية، سياسياً، إلى خدمة الأهداف الرئيسية وهى تحقيق "الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي". إذ لاتزال الدولة في طريق البحث عن الاستقرار الأمني، وسبل فرض سيادتها في مواجهة التدخلات الخارجية في شئونها الداخلية من ناحية، ومواجهة حالة الاستقواء التي تبديها تجاهها الميليشيات المسلحة من ناحية ثانية، وكلها أمور تعيق أي دور إقليمي لها في ظل العديد من الأزمات التي تواجهها. في هذا الإطار، يحمل عقد العراق مثل هذا النمط من القمم في ضوء السياق الإقليمي والدولي الراهن دلالات عدة:

أولها، يتعلق بدلالة "التوقيت"؛ فإن القمة تستبق حدثين مهمين في المشهد السياسي العراقي. الأول، هو الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في أكتوبر 2021، والتي تسعى الحكومة العراقية الحالية إلى توفير البيئة الكفيلة بضمان إجراءها كخطوة أولى، وإنجاح كافة مراحلها كخطوة ثانية، الأمر الذي سيزيد من أسهم الكاظمي كرجل دولة، وسياسي مستقل، لا يعمل من منطلق حزبي، ولا تحت مظلة أيديولوجية، ولا مرجعية دينية، وبالتالي زيادة احتمالية أن يتم "التوافق" عليه مجدداً كرئيس للوزراء - بعد انتهاء الانتخابات التي أعلن عدم المشاركة فيها -وفقاً لقاعدة "التوافق" بين القوى السياسية داخلياً، والقوى الإقليمية والدولية خارجياً، كما تم بعد الحركة الاحتجاجية في أكتوبر 2019، والتي جاء الكاظمي كأحد نتائجها، بدلاً عن قاعدة "الكتلة البرلمانية الأكبر" التي يجب أن يتم اختيار رئيس الحكومة منها، أو أن يكون لها الحق الحصري في اختيار شاغل المنصب من خارجها.

أما الحدث الثاني، فيتعلق باقتراب موعد الانسحاب الأمريكي العسكري من العراق أواخر عام 2021 الجاري، وما سيحمله من واقع ونتائج على الداخل العراقي بأزماته الأمنية والسياسية والاقتصادية. ومن ثم، تأتى خطوة الكاظمي بالدعوة إلى مثل هذه القمة بأبعادها الإقليمية والدولية، كنوع من إشراك العراق لجواره وعمقه الجيو-استراتيجي العربي في مسئولية ضمان الأمن والاستقرار به في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي؛ بدفع القوى العربية المؤثرة لممارسة دور فعّال في الترتيبات الأمنية التي سيشهدها العراق أواخر العام الحالي، وهو ما يعنى أن الكاظمي يعمل على فتح المجال أمام عمقه الاستراتيجي العربي لممارسة دور أكثر حركية وتأثيراً بشأن ملء الفراغ الأمني – النسبي – الذي سيفرضه الانسحاب العسكري الأمريكي قريباً، بهدف "موازنة" الدور الإيراني المسيطر على المشهد السياسي فيه، ولو من باب توفير روافد للدعم العسكري والتدريبي والتسليحي والاقتصادي والاستثماري، بما يمكن الحكومة العراقية من فرض هيمنتها الأمنية على الوضع الذي تحاول إيران ترسيخه في الداخل العراقي من خلال الميليشيات العراقية المسلحة الولائية. هذه الرؤية ربما تولدت عقب عدة تعاطيات قامت بها حكومة الكاظمي لتوسيع نطاق التعاون مع دول عربية مؤثرة في مقدمتها مصر والأردن، حيث جمعتهما بالعراق ثلاثة قمم على مدى العامين الماضيين. هذا بخلاف التقارب مع السعودية كأحد نتائج زيارة الكاظمي للرياض في أواخر مارس 2021.

ثانيها، يتصل بدلالة نموذج "الدولة الساحة" و"الدولة الفاعل"؛ فالغياب العربي طوال عقدين من الزمن عن التأثيرات والتطورات السياسية والأمنية التي شهدها العراق وفر مساحة كافية أمام القوى الإقليمية غير العربية للعب أدوار مؤثرة سلباً على الأوضاع فيه؛ وتحديداً الدورين الإيراني والتركي. وكلا الدورين لهما مشاريعيهما في منطقة الشرق الأوسط عامة، وفى المشرق العربي على وجه الخصوص، وهى مشاريع تضاربت مع الولايات المتحدة وأهدافها في العراق، الأمر الذي حول الداخل العراقي إلى "ساحة" لتصفية حسابات التفاعلات الأمريكية- الإيرانية من ناحية، وتقاطعات وتعارضات المشروعين الإيراني والتركي من ناحية ثانية، بما وفر قناعة لدى حكومة الكاظمي بأهمية العمل على إبعاد العراق عن نموذج "الدولة الساحة" وتحويلها إلى نموذج "الدولة الفاعل"، من خلال عدة استراتيجيات من بينها تفعيل آلية "القمم والمؤتمرات" الدولية والإقليمية كإحدى الوسائل التي توفر للعراق هامشاً من الحركة بعيداً عن فلك الثلاثي: الولايات المتحدة وإيران وتركيا، لاسيما وأن آلية القمم والمؤتمرات، بالرغم من فشلها على مستوى جامعة الدول العربية في معالجة الكثير من قضايا المنطقة، إلا أن المتغيرات الخاصة بالحالة العراقية بإمكانها الاستفادة من تلك الآلية في خلق مساحة لـ"تفاهمات نوعية" بين الدول العربية المعنية بالعراق، من شأنها (أي التفاهمات) تدعيمه خلال مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي الكامل منه، بما يساند ويدعم مساعي حكومته الحالية في إحداث التوازن بين تأثير عمقه العربي من ناحية، وجواره غير العربي على مجريات المشهدين السياسي والأمني فيه من ناحية ثانية.       

ثالثها، يرتبط بدلالة "التوازي" في الجمع بين أدوات السياسة الداخلية والخارجية. إذ يعد الكاظمي أحد رؤساء الحكومات العراقيين الذين حاولوا بجرأة الجمع بين آليات إصلاح الوضع الداخلي، وبين "محاولات" تعديل السياسة الخارجية للعراق؛ وتفسير ذلك أن الكاظمي زامن في مقاربته الداخلية والخارجية بين أداتين على التوازي: الأولى، أداة الإصلاح الداخلي بإصدارة ما يسمى بـ "الورقة البيضاء" والمتعلقة بجملة من الإصلاحات الاقتصادية والأمنية التي تحارب الفساد وتواجه نفوذ الميليشيات المسلحة. والثانية، إعادة صياغة علاقة العراق كـ"دولة فاعل" بغيرها من الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي، وذلك في محاولة لإبعاد القرار السياسي العراقي الخارجي، ولو خطوات، عن حالة الارتهان الكامل لمتطلبات ومحاذير السياسة الخارجية لإيران.

رابعها، يتعلق بدلالة "القرار السيادى"؛ وتعنى إلى أي مدى يمتلك الكاظمي إرادة وقدرة حقيقية بإمكانها قيادة العراق بعيداً عن أجندات إيران الإقليمية، وعن سياسات ميليشياتها الولائية المسلحة في العراق، لاسيما وأن العديد من القرارات التي تم اتخاذها بشأن إصلاح المنظومة الأمنية، وجمع السلاح المنفلت من أيدي تلك الميليشيات، بل وسياسات محاربة الفساد التي طالت شخصيات بارزة فيها لم يكتب لها التنفيذ الفعلي على أرض الواقع، كما أن بعضها ظل حبراً على الورق دون تفعيل. من منطلق تلك المعطيات تصبح "استطاعة" الكاظمي تنفيذ ما سيتمخض عن القمة من نتائج بشأن العلاقة مع عمقه العربي على حساب ارتباطاته مع إيران على المحك. والأمر نفسه ينسحب على ارتباطات الميليشيات العراقية الولائية بإيران وتأثيرات ذلك الارتباط على قرارات الحكومة باعتبارها قرارات سيادية. 

تحديات محتملة

الأهداف والدلالات التي يعكسها عقد قمة بغداد تواجهها في ضوء المعطيات السابقة العديد من التحديات والتي من أبرزها:

1- اقتراب فترة رئاسة مصطفى الكاظمي للحكومة على الانتهاء، باعتبارها حكومة انتقالية؛ فلم يتبق سوى شهرين أمام الكاظمي لإجراء الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021، وهى فترة متخمة بضرورات تنفيذية أهمها هو النجاح في إجراء هذا الاستحقاق الانتخابي المذكور، ما يعنى عدم توافر وقت كافٍ أمام حكومة الكاظمي لتطبيق وتنفيذ ما يمكن التوصل إليه من "تفاهمات نوعية" محتمل انبثاقها عن قمة بغداد الدولية التي نحن بصددها، خاصة إذا تعلقت بالجانب الأمني والاقتصادي. وهذا يقودنا إلى تصورات تفترض احتمالية عدم التزام الحكومة المنتخبة الجديدة؛ خاصة إذا جاءت من القوى السياسية المحسوبة على إيران، بأي من مخرجات هذه القمة الدولية.

2- معضلات وتشابكات العلاقات العربية الإقليمية المتعددة، والتي لا يمكن حصرها في الملف العراقي فقط؛ فحجم ونطاق الإشكاليات بين المسار العربي وبين المشروعين الإيراني والتركي في المنطقة متعدد الحلقات، ويتجاوز الحلقة العراقية إلى غيرها من المسارات في سوريا ولبنان. هذا بخلاف قضايا التماس والتي منها، على سبيل المثال لا الحصر، ملف الصراع حول مياه الأنهار في منطقة المشرق العربي؛ لاسيما بين العراق وإيران من ناحية، وبين العراق وتركيا من ناحية ثانية، ما يؤدى إلى صعوبة فك التشابكات الإقليمية الناتجة عن تلك المعضلات في قمة واحدة تجمع الأضداد الإقليميين.

3- تحركات الميليشيات العراقية المسلحة على الأرض وتهديداتها الأمنية للمنطقة الخضراء ومؤسسات الدولة العراقية من ناحية، والمصالح الأمريكية العسكرية والدبلوماسية من ناحية ثانية، على نحو قد يؤدي إلى تفجير الأوضاع الأمنية عبر عمليات تستهدف إحراج المالكي أمام العديد من القوى الدولية والإقليمية المشاركة في القمة بما يوحى بعدم قدرة الحكومة على تفعيل استراتيجيات ضمان الاستقرار الأمني في أبسط صورها.

من هذه المنطلقات يمكن القول إن القمة بقدر ما تمثل من إيجابيات عاكسة لمجهود حكومة الكاظمي في إخراج العراق من حالة "ثبات الأزمة"، والقفز فوق ارتهانات بعض القوى السياسية المُشكِّلة للمشهد السياسي فيه للخارج الإقليمي، بقدر ما تمثل تحدياً حقيقياً لقدرة تلك الحكومة على انتهاج مسار "متوازن" في علاقاتها مع الخارج سواء كان العمق الاستراتيجي العربي، أو كان الجوار الإقليمي المتسلط على الداخل العراقي. وفى كلتا الحالتين، بات الأمر محكوماً بمدى زمني قصير من عمر تلك الحكومة الذي سينتهي بعد تشكيل حكومة جديدة في أعقاب انتخابات تشريعية من المفترض إجراؤها في أكتوبر المقبل، قد لا تلتزم بأي توصيات أو تفاهمات صادرة عن تلك القمة؛ خاصة إذا تشكلت تلك الحكومة من صقور التيارات الشيعية المتشددة، بما يفاقم من أزمة الداخل العراقي بأبعادها الأمنية والسياسية والاقتصادية المتعددة، وتجعله قابعاً ولفترة من الزمن ضمن مسارات النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة، ومرتهناً في الوقت نفسه لمتطلبات دورها في ملفات إقليمية عدة تتجاوز الملف العراقي إلى غيره من الملفات الإقليمية الأخرى.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 3 سبتمبر 2021.

رابط دائم: