تحولات متسارعة: العلاقات التركية الإفريقية من منظور القوى المتوسطة فى النظام الدولي
2021-8-29

بالنظر إلى التحولات فى الجغرافيا السياسية ووجهات الأعمال والاستثمار، أصبحت إفريقيا، التى تتميز بمواردها الطبيعية الوفيرة، والتزايد السريع فى عدد السكان، والأسواق المفتوحة، ساحة كبرى لتنافس العديد من البلدان التى تبحث عن الفرص والنفوذ. بيد أنه مقارنة بمراحل التدافع الدولى السابقة على إفريقيا، أدى ظهور قوى جديدة مثل الصين والهند والبرازيل وتركيا ودول الخليج إلى جعلها أكثر تنافسية. ونتيجة للاهتمام المتزايد بإفريقيا وتنوع الفاعلين الدوليين فى القارة، تكتسب القوى المتوسطة ذات الأجندات النشطة فى النظام الدولى مزيدا من النفوذ والتأثير.

وتسعى هذه الدراسة إلى فهم سياسات تركيا تجاه إفريقيا، من منظور القوى المتوسطة فى النظام الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ومن الواضح أن التحول التركى صوب إفريقيا يجسد كيف أنها أكثر اهتماما فى سياساتها الخارجية خارج إقليمها، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول الإفريقية. ومع ذلك، فإن المنهج الاستراتيجى التركى فى إفريقيا، وسياساته الخاصة ببناء التحالفات مع الشركاء الأفارقة، يعكس بوضوح المنطق نفسه الذى تحدده ديناميكيات الصراع فى الإقليم الشرق أوسطى. وعليه فإن هذه الدراسة تهدف كذلك من خلال أدوات المنهج الكيفى فى جمع المعلومات ومراجعة الأدبيات النظرية حول الموضوع ولاسيما ما يتعلق بمفهوم القوة المتوسطة إلى فهم وتحليل تغلغل تركيا -بحسبانها قوة متوسطة– فى إفريقيا.

ويستخدم عدد من الكتاب مفهوم القوى المتوسطة أو وضع القوى الصاعدة لوصف الدور الدولى المتزايد لتركيا ويحاولون شرح سلوك السياسة الخارجية للبلاد فى العقدين الماضيين. فى هذا السياق، يتم التركيز على سلوك البحث عن المكانة والقيام بدور فاعل فى النظام الدولى. بالنسبة لهؤلاء الكتاب، تحاول تركيا المشاركة فى برنامج المساعدة الإنمائية العالمية، والإسهام فى عمليات السلام فى مناطق مختلفة، وبذل الجهود الدبلوماسية الإنسانية والمشاركة الاقتصادية - وجميعها تندرج تحت خصائص القوى المتوسطة الصاعدة بطرق مختلفة. وعلى أى حال، فإن طموح تركيا فى أن يكون لها دور أكبر فى السياسة الدولية هو أحد الأسباب الرئيسية والمبادئ التوجيهية لسياستها تجاه إفريقيا ولاسيما فى ظل حكم حزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من أن استخدام مفهوم القوى المتوسطة هو أمر بعيد كل البعد عن الطريقة الوحيدة لتصور دور تركيا الدولى، فإنه يظل مع ذلك أحد المقتربات المستخدمة لشرح السياسات التركية الخارجية.

ويمكن تقسيم تطور علاقات تركيا مع إفريقيا إلى ثلاث مراحل متمايزة. تغطى المرحلة الأولى توسع الإمبراطورية العثمانية فى إفريقيا حتى قيام الجمهورية التركية الحديثة فى عام 1923، حيث كان للعثمانيين علاقات كبيرة بشكل مباشر أو غير مباشر مع إفريقيا خلال تلك المرحلة. وتغطى الفترة الثانية السنوات من 1923 إلى 1998، حيث كانت العلاقات بين تركيا وإفريقيا فى أدنى مستوى لها. أما المرحلة الثالثة فهى ترتبط بتحولات السياسة الخارجية التركية خلال عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى. ويمكن عدُّ هذه المراحل الثلاث بمنزلة مقدمات ضرورية لفهم مرحلة التغلغل التركى الحالية التى يمكن أن نطلق عليها مرحلة العثمانية الجديدة تحت زعامة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان.

وقد خلصت الدراسة إلى عدد من النتائج على النحو التالى:

- تمارس حكومة أردوغان نفوذها على إفريقيا بأسلوب متعدد الأوجه من خلال الانخراط فى التجارة والتعاون العسكرى والتعليم والدبلوماسية والبنية التحتية والمجتمع المدنى. وعلى سبيل المثال ارتفع عدد السفارات التركية فى الدول الإفريقية من 12 سفارة فقط فى عام 2003 إلى 43 سفارة فى عام 2021.

- إن النموذج الأردوغانى الذى ينطلق من طموحات وطنية قوية وأحلام إمبراطورية تاريخية، يستند فى مشروعه التوسعى على استخدام القوة العسكرية فى البر والبحر جنبًا إلى جنب مع الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية. وتمثل حالة الضعف والهشاشة التى تعانيها الدول الإفريقية مثل ليبيا والصومال وضعا مثاليا للاستغلال من قبل العديد من القوى المتوسطة الطموحة وعلى رأسها تركيا، وهو ما يكرر حالة التدافع الأولى على إفريقيا من قبل القوى الأوروبية خلال الفترة الإمبريالية.

- تعد حالة الصومال -معقل الوجود التركى فى إفريقيا- كاشفة لحقيقة ودوافع العثمانية الجديدة فى إفريقيا. إذ أن الدلائل تشير بقوة إلى إن أردوغان ووزراء حكومته المقربين اختاروا الصومال، على الرغم من المخاطر الكبيرة، بسبب العائد المحتمل من حيث الاعتراف بالمكانة الدولية، وزيادة الظهور الدبلوماسى، والأرباح المادية.

- لا ينبغى المبالغة فى تقدير وزن تركيا الحقيقى فى التوازن الإقليمى الحالى والمستقبلى. خلال العقد الماضى، اكتسبت تركيا مساحة نفوذ سياسية واقتصادية وثقافية جديدة فى العديد من البلدان الإفريقية، ومع ذلك يجب تقييم الجهود التركية فى ضوء حقيقة أن السياسة التركية تواجه قيودا عديدة مثل وضع الهشاشة الكامنة لنظامها الاقتصادى والمالى والسياسى والتحدى المستمد من الرواية التركية المفرطة فى المثالية، مما يولد تناقضًا جوهريًا مع الواقع الداخلى للبلاد.

- إن مستقبل العلاقات بين إفريقيا وتركيا سيعتمد حتما على التطورات المستقبلية داخل تركيا نفسها وتأثير ذلك على توجهات سياساتها الخارجية مثل الانتقال من سياسة "صفر مشكلات" إلى سياسة "صفر أصدقاء" فى مرحلة ما بعد عام 2011. ربما تركز تركيا على الأولويات الأكثر إلحاحًا، مثل تورطها فى الصراع السورى، والتحديات الإنسانية والأمنية المختلفة على طول حدودها السورية، والقضايا العالقة فى منطقة شرق المتوسط. وعليه لا يمكن تقدير علاقات تركيا المستقبلية مع إفريقيا بشكل كامل دون التحليل المناسب لتحديات السياسة الخارجية سالفة الذكر.


رابط دائم: