تشهد الساحة السياسية المغربية تنافساً محتدماً بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، قبل أسابيع من موعد الانتخابات التشريعية المزمع إجراءها في 8 سبتمبر المقبل (2021)، والتى ستحدد من سيقود الحكومة لمدة 5 سنوات مقبلة، فى ظل إشارات بتراجع شعبية حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومى، والطامح فى ولاية ثالثة، مقابل صعود حزب "التجمع الوطنى للأحرار"، خاصة بعد تحقيقه نتائج بارزة في الانتخابات المهنية، التى أجريت فى 6 أغسطس الحالى، بالتوازي مع تراجع دور نقابة "الاتحاد الوطنى للشغل"، الذراع النقابية لـ"حزب العدالة والتنمية".
أزمة داخلية
حصل حزب "العدالة والتنمية" عام 2011 على المرتبة الأولى فى الانتخابات التشريعية، وكانت هى المرة الأولى فى تاريخ المغرب، التى يترأس فيها إسلامى الحكومة وهو الأمين العام للحزب عبد الإله بن كيران. وقد حافظ الحزب على قيادته للحكومة بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في عام 2016. لكن ثمة مؤشرات في الوقت الحالي توحي بأن الانتخابات القادمة قد تشهد تغييرات في توازنات القوى السياسية، في غير صالح الحزب، وذلك في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في إقرار مجلس النواب مشروع القانون التنظيمى للمجلس، الذى ينص على تعديل طريقة حساب "القاسم الانتخابى"، والذى يتم على أساسه توزيع المقاعد البرلمانية، وفى المجالس البلدية، والذى سيكون له- وفقاً لاتجاهات عديدة- تأثير كبير على المقاعد التى سيفوز بها الحزب، خاصة فى المدن المزدحمة بالسكان، على غرار الدار البيضاء والرباط.
واللافت في هذا السياق، أن الحزب حاول عرقلة تفعيل هذه التغييرات التي دعمتها قوى أخرى مشاركة في الائتلاف الحكومي، حيث تقدم بطعن عليها إلى المحكمة الدستورية العليا، التي أعلنت، في 10 أبريل الماضي، دستورية احتساب القاسم الانتخابي على أساس المسجلين، بما يعني رفضها طعن الحزب، حيث أكدت أنه "لا يندرج ضمن صلاحياتها التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع، في شأن اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها، أو المفاضلة بين اختيارات تشريعية ممكنة، أو اقتراح بديل تشريعي من شأنه أن يحقق الغايات الدستورية نفسها، ما دام ذلك لا يمس بأحكام الدستور"، مضيفة أن "الفقرة الثانية من المادة 84 لا تخالف الدستور".
ويتوازى ذلك مع ما يشهده الحزب من أزمات داخلية ربما تؤثر على فرصه فى الانتخابات التشريعية المقبلة، حيث يواجه خلافات حادة بين قياداته لاسيما فيما يتصل بالعلاقة مع الأحزاب والقوى الأخرى، حتى إن الحوار الداخلى، الذى انطلق فى يونيو 2018، والذى تكون من 4 ندوات وطنية، علاوة على 16 ندوة جهوية، و57 ندوة إقليمية، لم ينجح فى تجاوز تلك الخلافات، لدرجة أن الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران غاب حينها عن قائمة المشاركين فى ذلك الحوار.
ومن أبرز الأزمات التى يواجهها الحزب فى الفترة الأخيرة موجة الانتقادات الداخلية، التى تصاعدت حدتها منذ توقيع الأمين العام للحزب رئيس الحكومة سعد الدين العثمانى على اتفاقية استئناف العلاقات مع إسرائيل، تلتها أيضاً انتقادات بسبب طرح مشروع تقنين "القنب الهندى" على طاولة المجلس الحكومى للمصادقة عليه.
وصول الأزمات داخل الحزب إلى مرحلة غير مسبوقة بدا جلياً في ظاهرة الاستقالات وتجميد العضوية التي بدأت تتزايد في تلك الفترة، حيث أعلنالأمين العام السابق عبد الإله بنكيران، في 11 مارس الماضي، تجميد عضويته ومقاطعة قياديين هم الأمين العام للحزب سعد الدين العثمانى، ووزير الطاقة عبد العزيز رباح، ووزير الشغل محمد أمكراز، والقيادى بالحزب لحسن الداودى. وسبق ذلك إعلان رئيس المجلس الوطنى عضو الأمانة العامة إدريس الأزمى استقالتهمن مهامه الحزبية. وفى الفترة ذاتها، أعلن مصطفى الرميد الوزير المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، استقالته احتجاجاً على سياسة الحزب، والحكومة، كما جمّد المفكر المقرى الإدريسى أبوزيد عضويته فى وقت سابق، فضلاً عن انسحابات أخرى قامت بها قيادات الصف الثانى والقواعد.
سيناريوهات محتملة
على ضوء تصاعد حدة التنافس بين القوى السياسية، فضلاً عن الخلافات المتصاعدة داخل العديد منها، يمكن طرح عدة سيناريوهات محتملة للمشهد السياسي المغربي خلال المرحلة القادمة، ويتمثل أبرزها في:
1- فوز حزب "التجمع الوطني للأحرار" بالانتخابات: تكشف مؤشرات عديدة عن أن هناك أحزاباً أخرى غير حزب "العدالة والتنمية" قد تشكل الحكومة المقبلة، حال فوز أحدها بالنسبة الأعلى، وفقاً لما ينص عليه الدستور، وذلك استناداً إلى تصدر حزب "التجمع الوطنى للأحرار" نتائج الانتخابات المهنية، بفوزه بأكثر من 600 مقعد، بينما حل حزب "العدالة والتنمية" فى المرتبة الثامنة، بعد جميع الأحزاب الكبيرة فى المغرب. وحتى لو لم تكن نتائج الانتخابات المهنية مؤشراً على نظيرتها النيابية، فإنها بمثابة قياس لاتجاهات الرأى العام والناخبين قبل شهر فقط منها.
كما أن هناك عدة مؤشرات أخرى تنذر بإمكان عودة حزب "العدالة والتنمية" إلى المعارضة، مثل تراجع شعبية الحزب، على ضوء الانتقادات العديدة التي توجه لأدائه وسياساته في التعامل مع بعض الملفات السياسية والاقتصادية والصحية، فضلاً عن الحملات التي شنت ضده بسبب محاولاته وضع عقبات أمام تفعيل قانون "القاسم الانتخابي"، وهى المحاولات التي كشفت عن عمق الخلافات التي نشبت بين القوى السياسية التي ساهمت في تكوين الائتلاف الحاكم.
2- احتفاظ حزب "العدالة والتنمية"بموقعه السياسي: وذلك استناداً إلى فوز الحزب بدورتين متتاليتين، الأمر الذى يدعم فوزه مرة ثالثة، كما أن هذا السيناريو يستند إلى عدم اعتماد نتائج الانتخابات المهنية، والتى حل فيها حزب "العدالة والتنمية" ثامناً، كدليل على تراجع نتائجه فى الانتخابات التشريعية المقبلة، لاسيما في ظل اختلاف الكتلة الناخبة على مستوى الاستحقاقين. إلى جانب ذلك، فإن ثمة اتجاهات عديدة تشير إلى أن اقتراب موعد الانتخابات سوف يساهم في تقليص حدة الخلافات ويدفع قيادات الحزب إلى احتواء تداعياتها لتعزيز فرصه في الفوز بالمركز الأول ومن ثم تشكيل الحكومة للمرة الثالثة.
3- تأجيل الانتخابات: تصاعد الجدل حول هذا الاحتمال بالفعل، بالرغم من قيام الحكومة بكل الاستعدادات لإجراء الانتخابات فى موعدها، من حيث إعداد القوانين الانتخابية، ولجان المراقبة، إلى جانب الحملات الانتخابية، التى انخرطت فيها الأحزاب. وقد ساهمت تصريحات رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، التي أدلى بها في 3 أغسطس الجاري، في توسيع نطاق هذا الجدل، حيث أشار إلى أن تأجيل الانتخابات ليس مستبعداً، على ضوء ارتفاع عدد الإصابات والوفيات الناجمة عن موجة جديدة من وباء كورونا في البلاد.
وقال العثماني في هذا السياق: "إن تأجيل الانتخابات بسبب تزايد عدد الإصابات المسجلة بفيروس كورونا المستجد لم يناقش داخل الحكومة، لكن من الناحية النظرية يظل كل شيء ممكناً". وهنا، فإن اتجاهات عديدة اعتبرت أن تأجيل الانتخابات لا ينفصل عن مخاوف تنتاب الحكومة من إمكانية تراجع نسبة المشاركة الشعبية فيها، على نحو قد يضفي أهمية على التكهنات التي تشير إلى اتساع الهوة بين الأحزاب والقوى السياسية من ناحية والشارع المغربي من ناحية أخرى.
ورغم أن وزير الداخلية المغربي عبدالوافي لفتيت سارع، في 7 أغسطس الجاري، إلى تأكيد أن الانتخابات ستكون بموعدها المحدد وفقاً للأجندة المعلنة سابقاً، إلا أن ذلك لم يقلص من حدة الجدل الذي أثارته تصريحات العثماني. إذ قال وزير الداخلية أنه "على الرغم من الظرفية الصعبة إلا أن المغرب نظمت الانتخابات المهنية في موعدها، وتعطي بذلك المملكة المثال الحي مرة أخرى على قدرتها على رفع التحديات".
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن المغرب تبدو مقبلة على مرحلة سياسية جديدة ربما تعاد فيها تشكيل خريطة القوى السياسية، لاسيما في ظل الخلافات العديدة التي واجهتها في الفترة الماضية، نتيجة التباين في التعامل مع العديد من الملفات الداخلية والخارجية الرئيسية.