مع تزايد استخدام الدول والمنظمات الدولية للعقوبات، يبرز جدل دولي حول مدى فعالية العقوبات كأداة للسياسة الخارجية، خاصًة في ضوء بعض النماذج الدولية التي لا تشير إلى نجاحات ملحوظة للعقوبات توازي الاستخدام المكثف لها، وهو ما يطرح أهمية دراسة عوامل نجاح وفشل العقوبات لفهم الآليات التي تتبناها الدول لاحتواء تأثيراتها، والوقوقف على المحددات المؤثرة على فرص فعالية العقوبات المفروضة.
جدل العقوبات واتهامات الفشل
تواجه العقوبات الدولية اتهامات بالفشل والعجز عن تحقيق أهدافها رغم تزايد توظيفها في العلاقات الدولية. ولا يقتصر الأمر على انتقاد العقوبات الدولية الراهنة وعجزها عن تحقيق الإكراه وتغيير الوضع السياسي، إنما عمدت العديد من الدراسات إلى تحليل مئات العقوبات للوقوف على نسب ومقومات نجاح هذه الآلية. وخلُصت دراسة شاملة لـ170 من حالات العقوبات في القرن العشرين إلى نجاح ثلثها فقط في تحقيق الأهداف المرجوة منها. وتقدر دراسة أخرى أن معدل نجاح أنظمة العقوبات يقل عن 5٪.([1]) فيما حددت دراسة شملت 115 من حالات العقوبات الاقتصادية في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1990 نسبة النجاح بـ35%.([2]) ووفقًا لجاري هوفباور فإن تأثير جميع العقوبات الاقتصادية في العقود الخمسة الماضية على الناتج المحلي الإجمالي للبلد المستهدف كان أقل من 2٪.([3])
ورغم أنه يُمكن القول إن العقوبات المفروضة على إيران قد ساهمت - بدرجة ما - في الوصول إلى طاولة المفاوضات وإبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، فإنها لم تمنعها مجدداً من تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق، بداية من منتصف عام 2019 وحتى الآن، بل إنها لوحت برفع مستوى تخصيب اليورانيوم ليصل إلى 90% في 15 يوليو 2021. كما أنها تعمدت تصعيد شخصيات تتعرض لعقوبات أمريكية وأوروبية لتولي مناصب رئيسية في النظام، على غرار الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي الذي أدى اليمين الدستورية في 5 أغسطس 2021.
فضلاً عن أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في 9 أغسطس 2021، لم تنجح في تغيير موقف الأخير من نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت قبل عام وأثارت احتجاجات عارمة، حيث مازال مصراً على أن الانتخابات جرت بشكل شفاف ولم يحدث أن استخدمت السلطات القمع في مواجهة المحتجين.
إلى جانب ذلك، فإن العقوبات المكثفة على الهند وباكستان وكوريا الشمالية لم تمنعها من امتلاك القدرة النووية. ولم تنجح العقوبات المفروضة على روسيا في إجبارها على الانسحاب من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. ولم تُجبر العقوبات التي وقعتها واشنطن على تركيا عقب الغزو التركي لقبرص في السبعينيات، القوات التركية على الانسحاب. كما استمر الغزو السوفيتي لأفغانستان رغم فرض واشنطن للحظر على الحبوب المصدرة إلى الاتحاد السوفيتي، ومقاطعتها لدورة الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980. بالإضافة إلى العديد من الحالات التي يستند إليها منتقدوا العقوبات.([4])
وقد تنجح العقوبات في تحقيق تأثيرها الاقتصادي، دون أن تنجح في تغير السلوك المُستهدَف. فقد تسببت عقوبات الأمم المتحدة على أفغانستان عامي 2000 و2001 في خسائر فادحة، لكنها أخفقت في دفع نظام طالبان نحو تسليم أسامة بن لادن.([5])
كيف تنجو الدول من الهزيمة أمام العقوبات؟
تعمل الدول المستهدَفة على الإفلات من تأثيرات العقوبات عبر عدد من الآليات التي تحاول من خلالها الالتفاف عليها، وتحاول استغلال التحديات التي تعيقها، ومنها:
1- آليات الالتفاف: تعتمد الدول في مساعيها للالتفاف على العقوبات على شبكة من الشركات الوهمية والوسطاء في الخارج، والتنكر، واستخدام أسماء جهات أخرى، واستغلال الثغرات، وفتح حسابات مصرفية مجهولة أو مزيفة للوصول إلى الأسواق الدولية. فضلًا عن شراء وكلاء للبضائع المطلوبة، ثم نقلها للدولة دون علم المراقبين الدوليين.([6]) وتعمل الدول على إخفاء المعاملات غير المشروعة والتي تحظرها العقوبات داخل المعاملات المشروعة.([7]) كما تعتمد الكيانات المعاقَبة على تشكيل شبكات من الشركات الوهمية والشركاء والوسطاء والميسرين لإخفاء طبيعة نشاطهم وغسل أموالهم. وتستغرق هذه الممارسات وقتًا أطول للتحقيق فيها، وهو ما دعا إلى بروز "عقوبات الشبكة" في مواجهة "شبكات الالتفاف على العقوبات".([8]) فمن المهم التنسيق مع الشركاء الدوليين والبنوك والمؤسسات المالية الأخرى والقطاع الخاص في تنفيذ العقوبات، من خلال تزويدهم بالمعلومات الحيوية التي يحتاجونها لتتبع النشاط غير المشروع وتعطيله والإبلاغ عنه، وتنبيههم إلى الطرق توظف عبرها النظم المعاقَبة "الشركات الواجهة" والوثائق المزورة وغيرها من الممارسات الخادعة للالتفاف على العقوبات.([9])
وقد كشف تقرير لمركز الدراسات الدفاعية المتقدمة (C4ADS) عن تداول شركة (DHID) الصينية نيابة عن كوريا الشمالية عبر 43 كيانًا تجاريًا في 4 قارات، ووقّعت الحكومتان الأمريكية والصينية عقوبات على الشركة على خلفية مزاعم دعمها للبرنامج النووي الكوري الشمالي.([10]) كما اتهم مارشال بيلينجسلي، مساعد وزير الخزانة الأمريكية لشئون تمويل الإرهاب، بيونج يانج باستخدام بطاقات هوية ووثائق مزيفة للسفن، بالشكل الذي يعيق اكتشاف صلة السفينة بها. بالإضافة إلى إغلاق بعض السفن لأجهزة تحديد المواقع الخاصة بها أثناء قيامها بزيارات سرية إلى كوريا الشمالية.([11]) ويشير تقرير للأمم المتحدة عام 2017 إلى تزايد حجم ونطاق وتطور تقنيات المراوغة التي تتبعها كوريا الشمالية للالتفاف على الحظر المفروض على برنامجها الصاروخي.([12])
وتكونت خلال الحرب السورية شبكات غير قانونيّة لديها طرق ومسالِك تهريب خاصّة بها من أجل الالتفاف على العقوبات وتأمين السلع والخدمات من البلدان المجاورة - خصوصاً لبنان - أو من مناطق أخرى في الداخل السوري - مثل المنطقة الشمالية الشرقية - للحصول على النفط والقمح. إذ أنشأ بعضُ المنتفِعين "شركات ظل" وحسابات في دول مختلفة، من أجل تسهيل الأنشطة التجارية مع الحكومة السورية.([13]) فيما اعتمد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على العشائر السنية لتهريب النفط والسلع الأخرى إلى البلاد.([14])
2- البدائل التجارية وفُرص العولمة: رغم أن العقوبات الاقتصادية يُنظر إليها كإحدى الأدوات التي تُعزز العولمة والتعاون الدولي من استخدامها، فإن العولمة تطرح أيضًا فرصًا للدول لإفشال العقوبات. فعند إغلاق سوق ما عبر العقوبات تقوم الدول المستهدفة بتحويل تركيزها الاقتصادينحو أسواق أخرى، خاصة أن الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية غالبًا ما تتعامل مع العقوبات المفروضة من الفاعلين الكبار مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كفرصة اقتصادية واستراتيجية محتملة. وتلعب الاختلافات في السياسة الخارجية بين الدول دوراً أساسياً في بقاء الاقتصادات الخاضعة للعقوبات في ظل الاقتصاد المعولم الذي لا تُشكّل الدولة الفارضة للعقوة الفاعل الوحيد فيه.([15]) ففي الوقت الذي تبحث فيه الدولة الخاضعة للعقوبات عن شركاء تجاريين جدد ليحلوا محل أولئك الملتزمين بالعقوبات الاقتصادية، بالإضافة إلى استمالة الأنظمة المتعاطفة معها، فإن هناك أعداداً كبيرة من الشركات الساعية للربح في دول أخرى - لا تشارك في جهود فرض العقوبات - تكون على استعداد للقيام بأعمال تجارية مع الكيانات المستهدَفة، خاصة أنه كلما زادت شدة العقوبات المفروضة على بلد مستهدف، زادت العوائد المحتملة للتجارة معهم. وبالطبع فإن توافر البدائل التجارية وتلقي الدول الدعم من منتهكي العقوبات الأجنبية بشكل كبير احتمالية نجاح العقوبات.([16]) ولذلك تواجه العقوبات أحادية الجانب - حتى عندما يفرضها أكبر اقتصاد في العالم - تحديات أكثر صعوبة في ظل اقتصاد دولي يزداد تكاملاً.([17])
وفي هذا السياق، يمكن فهم صعود الصين كحليف اقتصادي لميانمار منذ فرض العقوبات على الأخيرة في ثمانينيات القرن الماضي.([18]) وحينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فرض حظر تجاري على إيران عام 1995، اعتمدت فرنسا وألمانيا واليابان بشكل كبير على النفط والتجارة الإيرانية، مما جعل العقوبات الأمريكية أقل ضررًا على الاقتصاد الإيراني.([19]) وتشير الحالة الكورية الشمالية إلى أن بيونج يانج عوضت العديد من الخسائر في التجارة مع الدول التي تحظر التبادل معها مثل اليابان وكوريا الجنوبية من خلال زيادة التجارة مع الصين، حيث لعبت بكين دورًا مهمًا في دعم الاقتصاد الكوري الشمالي وتقويض التأثير المحتمل للعقوبات الأمريكية ضد كوريا الشمالية.([20]) فعند قطع إمدادات بعض السلع، تحاول كوريا الشمالية الحصول عليها من بديل آخر. وقد وارتفعت التجارة بين روسيا وكوريا الشمالية مع شحنات تشمل سلعًا لا تستطيع كوريا الشمالية إنتاجها بنفسها.([21]) وأدت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة إلى تحويل صادرات كوريا الشمالية إلى الصين بدلاً من السوق العالمي، واستيراد سلع خاضعة للعقوبات من الصين. أي أن ما حدث يعتبر تغييًرا لمسار التجارة، وليس إضعافها.([22]) كما لعبت روسيا وإيران دورًا بارزًا في دعم النظامَ السوري وتزويده بالدعم العسكري والسلع والخدمات الأساسية، خاصة النفط.([23])
3- السلع ذات الاستخدام المزدوج: في حالات العنف والنزاعات المسلحة وانتهاكات حقوق الإنسان يتم فرض عقوبات بمنع تصدير بعض المواد والسلع التي غالبًا ما تُستخدم في أغراض عسكرية أو قمعية، والتي تدور في معظم الأحيان حول حظر التسلح. إلا أن المشكلة تكون في السلع ذات الاستخدام المزدوج، أي تلك التي يمكن استخدامها على الصعيدين العسكري والمدني، مثل صادرات النفط وغيرها من السلع التي تستفيد منها النظم في النزاعات المسلحة والانتهاكات الحقوقية، كما يستفيد منها المواطنون في الاستخدامات المدنية. ويكمُن التحدي في صعوبة تحديد نوايا الدول وطبيعة استخدامها للسلع ذات الاستخدام المزدوج ومراقبتها، وتحديد التأثيرات المدنية والإنسانية لحظرها.([24])
4- نزع المشروعية: تُعتبر المشروعية والعدالة والموضوعية من المبادئ المهم مراعاتها عند تصميم العقوبات، حيث تبرز أهمية الاستناد إلى أساس مبدئي وقانوني بأن تكون العقوبات رداً على انتهاكات القانون الدولي أو القواعد الأخلاقية الدولية. إلا أن بعض الدول تحاول نزع المشروعية عن العقوبات للحد من فعاليتها، سواء بالدفع بمخالفتها للقانون الدولي، أو بالدفع بكونها عقوبات منحازة وغير موضوعية. وإذا كان من اليسير نسبيًا إقرار عقوبات ردًا على عدوان أو إبادة جماعية، فإن هناك معايير أخلاقية مثل حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي قد لا يكون من السهل تحقيق توافق عليها أو على انتهاك السلوك السياسي للحكومة المستهدَفة فعلًا لها، خاصة في ظل وجود معايير مختلفة لدى بعض الدول عن المعايير الغربية المعروفة. وفي هذا الإطار تحاول الدول المعاقَبة وصف العقوبات بأنها تدخلات خارجية لفرض معايير مغايرة. وهناك أيضًا قاعدة "الاتساق" بمعنى أن يتم التعامل مع القضايا المماثلة على حد سواء وبعدالة.([25]) وتثور هنا أهمية اضطلاع المنظمات الدولية بفرض العقوبات لمنحها الشرعية الدولية وتعزيز موضوعيتها وعدالتها قدر الإمكان.
محددات نجاح العقوبات الدولية
بجانب معالجة التحديات والآليات سالفة الذكر التي تستخدمها الدول لإفشال العقوبات، فإن هناك عددًا من المحددات التي يجب مراعاتها عند فرض العقوبات من أجل تعظيم فعاليتها، ومنها:
1- تصميم الأهداف: من المهم مراعاة أن تكون أهداف العقوبات ضيقة ومحددة بوضوح، حيث تزداد فرص نجاح العقوبات عند ربطها بأهداف محددة وقابلة للتحقق، ليس منها تغيير النظام الذي يُعد هدفًا واسعًا للغاية يَصعُب بلورته وغير واقعي.([26]) فعادةً لا يُتوقع نجاح العقوبات التي تهدف إلى تغيير النظام، لأنها لا تترك حلولًا وسيطة للحكومات التي لن تقبل بطبيعة الحال بالانتحار السياسي وترك الحكم، كما هو الحال في العقوبات الأمريكية على نظام كاسترو.([27]) وتُعتبر العقوبات التي تهدف إلى تغيير حكومة بلد مُستهدَف أكثر صعوبة في التصميم، وتستلزم أن تُفرَض بطريقة شاملة وسريعة للغاية، دون منح القادة المستهدَفين وقتًا للتكيف مع العقوبات عبر إيجاد موردين أو أسواق بديلة، أو بناء تحالفات جديدة، أو تعبئة الرأي العام.([28])
كما يتعيَّن ربط العقوبات بأهداف تفصيلية يُمكن قياسها وتحقيقها.([29]) فضلًا عن مراعاة وضوح العقوبات عند تصميمها، فمن غير المعقول أن تنجح العقوبات إذا كان المستهدَف لا يفهم ما يجب عليه فعله لتحرير نفسه منها. ولعل مما يحد من وضوح العقوبات الأمريكية أن واشنطن تفرض عقوبات رداً على مجموعة متنوعة من الأفعال، مما يجعل من الصعب عملياً على المستهدَف فهم ما يجب القيام به للتحرر من العقوبات. إذ تخضع روسيا - على سبيل المثال - لعقوبات أمريكية تخص المسألة الأوكرانية واستخدام الأسلحة الكيماوية والتدخل في الانتخابات الأمريكية، كما تخضع كوريا الشمالية لعقوبات أمريكية بسبب الملف النووي وانتهاكات حقوق الإنسان والقيام بهجمات إلكترونية. ورغم محاولات واشنطن تجزئة العقوبات وربط كل عقوبة بسلطة قانونية وقضية محددة، إلا أن ذلك يفقد مفعوله مع نمو قائمة الأهداف الأمريكية، وتعدد الجهات الفارضة للعقوبات.([30]) وبشكل عام، من المرجح أن تنجح برامج العقوبات ذات الأهداف المحدودة والمتواضعة نسبيًا أكثر من البرامج ذات الطموحات السياسية الكبرى.([31])
2- استراتيجية شاملة: يتعلق هذا المحدد بشمولية الإجراءات العقابية من جهة، وبأن تكون تلك الإجراءات جزءًا من استراتيجية دبلوماسية وسياسية شاملة من جهة أخرى. فلكي تحقق العقوبات أهافها ينبغي مراعاة أن تكون عقوبات شاملة، وأن تراعي مبدأ "شمولية الضرر"، بحيث تُلحق ضررًا شديدًا لا يقتصر على قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد المستهدف، ناهيك عن استهداف المسئولين أو الوكالات الحكومية الفردية. فيجب على صانعي السياسات تجنب تصميم عقوبات ضيقة من أجل زيادة فرص فعاليتها.([32]) كما يجب على صانعي السياسات - من جهة أخرى - تجنب استراتيجيات السياسة الخارجية الضيقة التي تعتمد على العقوبات فقط دون التفكير في الخيارات والأدوات الأخرى، فمن الصعب أن تعمل العقوبات بمفردها. وتوضح خبرة حالات كوبا وميانمار وإيران أن الاستراتيجيات التي تعتمد على الطبيعة القسرية المحضة للعقوبات الاقتصادية نادرًا ما تنجح في تحقيق أهدافها. فبعد عدم تحقيق العقوبات لأهدافها في هذه الحالات لعقود، أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أهمية أن تكون العقوبات جزءًا من نشاط دبلوماسي واستراتيجية أوسع لتحقيق أهدافها. فقد جمعت إدارة أوباما في حالة ميانمار بين الدبلوماسية الجريئة والوعود بتخفيف العقوبات من أجل تحسين العلاقات الثنائية وتحقيق أهداف العقوبات، واستخدمت تخفيف العقوبات كأداة لدعم وتشجيع التحول الديمقراطي، وهو ما دفع ميانمار إلى إجراء إصلاحات سياسية بعد عقدين من الانتهاكات الحقوقية والقمع السياسي من النظام العسكري الحاكم رغم العقوبات المفروضة عليه. كما استخدمت إدارة أوباما العقوبات لجلب إيران إلى طاولة المفاوضات، والتفاوض معها من موقع القوة بدلاً من محاولة إجبارها على تقديم تنازلات أحادية الجانب تحت ضغط العقوبات.([33]) فمن المهم أن تربطالإستراتيجية الفعالة للسياسة الخارجية الإجراءات العقابية مثل العقوبات والتهديد بعمل عسكري([34])، بالإغراءات الإيجابية والمحفزات الداعمة مثل المساعدات المالية، والسماح للدولة بالاندماج في المجتمع الدولي والاقتصاد الدولي.([35])
وفي حالات النزاعات والصراعات المسلحة، من الصعب أن تعمل العقوبات بمفردها أيضًا. إذ تظهر فعالية العقوبات عندما تكون جزءًا من تدابير أشمل لحفظ أو صنع السلام والأمن الدوليين، حيث عملت الأمم المتحدة على دعم العقوبات والجزاءات كجزء من أنظمة أوسع لتحفيز الحكومات على الانتقال السلمي، وتحفيز أطراف الصراعات على التسوية السلمية. ومن ذلك أنظمة الجزاءات الأممية الخاصة بليبيا وغينيا بيساو.([36])
3- مرونة العقوبات: يجب أن يعتقد الهدف أن العقوبات ستزداد أو تُخفض بناءً على سلوكه.([37]) إذ يرتبط نجاح العقوبات بقدرة الطرف المعاقِب على إقناع الطرف المعاقَب بأنها عقوبات موضوعية ترتبط بإشكاليات محددة، وإتاحة فرص مفتوحة دائمًا لتخفيف العقوبات، وهو ما يتحقق بمرونة العقوبات. وتطرح حالة ميانمار نموذجًا للعقوبات المرنة، حيث استجابت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 للإصلاحات السياسية في ميانمار بتبيان إيجابيات تعديل السلوك بإزالتها للعديد من العقوبات وتخفيف بعض القيود المالية والاستثماريةمع خطوات الإصلاح والتحول الديمقراطيفي ميانمار، وصولًا إلى رفع العقوبات بشكل كامل عام 2016، بعد إجراء أول انتخابات تنافسية حرة - منذ ربع قرن - عام 2015، وانتصار الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية (المعارضة)، وهزيمة الحزب الحاكم.([38]) قبل أن تُعيد واشنطن فرض العقوبات عام 2019، بعدما صعَّد قادة ميانمار مرة أخرى من الانتهاكات ضد أقلية الروهينجا.([39]) كما أصدرتالولايات المتحدة الأمريكية في أكتوبر 2017 قانونًا لرفع العقوبات الاقتصادية عن السودان بسبب إحراز الخرطوم تقدمًا في مجالي حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب. وكل ذلك يشير إلى أهمية حدوث مراجعة دورية للعقوبات يتم على أساسها زيادة العقوبات أو خفضها وفقًا للتغير الحادث في سلوك الدولة.([40])
4- مقومات الدولة: تلعب مقومات وسمات الدول – طرفي العقوبات -دورًا مهمًا في نجاح أو فشل العقوبات. فعلى الجانب الأول تؤثر مقومات الدولة التي تفرض العقوبات على فرص نجاح العقوبات. حيث تعمل العقوبات الأمريكية على الضغط المباشر على الخصم من خلال منع وصوله إلى النظام المالي العالمي. وتلتزم معظم الدول ومؤسساتها المالية بالعقوبات المالية الأمريكية من أجل عدم استبعادها من النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن، وتجنب الإضرار بسمعتها نتيجة التجارة مع دولة خاضعة للعقوبات.([41]) وفيما يرى البعض أن دور الولايات المتحدة الأمريكية في النظام المالي العالمي، وأولوية الدولار في المعاملات المالية الدولية، وقوته كعملة احتياطية عالمية، يمنح واشنطن قوة غير متكافئة في العقوبات الاقتصادية([42])، إلا أن البعض الآخر يجادل بأن تراجع هيمنة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي يحد بشكل متزايد من فعالية عقوباتها.([43]) وبينما تحاول الصين تعزيز قدراتها التجارية والاقتصادية والعسكرية، إلا أن قدرتها على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام سلاح العقوبات ذاته لا تزال محدودة، حيث لا تمتلك المقومات المالية الأمريكية، بما فيها السيطرة على العملة الاحتياطية الدولية، رغم محاولاتها تعظيم معاملاتها المالية والتجارية مع دول العالم بعملات وطنية أخرى.([44])
وبالإضافة إلى العامل النسبي المتعلق بفارق الحجم والقوة الاقتصادية والاستقرار السياسي بين طرفي العقوبات.([45]) فإن هناك عوامل تتعلق بطبيعة النشاط الاقتصادي، فقد أثرت العقوبات سلبًا على الزراعة الكورية الشمالية بسبب اعتمادها الشديد على الواردات مثل الآلات الزراعية والأسمدة الكيماوية.([46])
5- العقوبات متعددة الأطراف وموقف الأطراف الأخرى: ترتبط فرص نجاح العقوبات المفروضة بعدد الدول التي تفرضها وتلتزم بتنفيذها.([47]) إذ تعتبر أكثر العقوبات فعالية هي تلك التي تفرضها دول متعددة. فقد أدت المقاطعة العالمية لجنوب إفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري في الثمانينيات إلى انتخابات أوصلت الأغلبية السوداء إلى السلطة. وضغطت الإجراءات العالمية ضد إيران على اقتصادها، ودفعت قادتها إلى العودة إلى المحادثات والوصول إلى الاتفاق النووي عام 2015.([48]) إلا أنه غالبًا ما يصعب الحصول على التعاون متعدد الأطراف في تصميم وتنفيذ العقوبات.([49]) وفي إحدى الحالات فإن الولايات المتحدة الأمريكية حاولت منع الهند من شراء النفط الإيراني، بيد أن وزيرة الخارجية الهندية، سوشما سواراج، صرَّحت في مايو 2018 بأن "الهند تلتزم فقط بالعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، وليس العقوبات أحادية الجانب مثل العقوبات الأمريكية"، وهو ما جعل هناك ثغرة في نظام العقوبات نظرًا لما تشكله الهند من سوق ضخمة للصادرات الإيرانية.([50]) كما أعلنت مسئولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي السابقة، فيديريكا موجيريني، في سبتمبر 2018، عن قناة(SPV) المالية بهدف إبقاء عمليات التجارة مع إيران بعيدة عن العقوبات الأمريكية، باستخدام عملات غير الدولار الأمريكي، أو إجراء التعاملات بعيدًا عن النِّظام المصرفي المعتاد القائم الذي تستطيع الولايات المتحدة من التأثير فيه.([51])
ورغم الافتراض القائل بأن التعاون متعدد الأطراف يزيد من فعالية العقوبات، إلا أنه يتضمن تحديات قد تحمل أيضًا عوامل إفشالها. إذ يُعزى فشل العقوبات الاقتصادية المتعددة الأطراف في مراحل التنفيذ والمساومة غالبًا إلى تراجع الدول المتعاونة عن وعود التعاون بسبب الضغوط السياسية المحلية، أو تغير الرؤى، أو عدم اليقين بشأن نوايا الدول الأخرى الشريكة في فرض العقوبات. وتؤدي هشاشة التعاون الدولي، وتراجع بعض الدول عن إنفاذ العقوبات إلى تقويض فرص نجاحها.([52]) بالإضافة إلى مشكلات التنسيق المشترك، فرغم وجود عقوبات متعددة الأطراف على سوريا، إلا إنها تفتقر إلى التنسيق، حيث يُصر الاتحاد الأوروبي على ضرورة الانتقال السياسي للسلطة في سوريا كشرط لرفع العقوبات وتقديم الدعم المالي لعملية إعادة الإعمار، في حين تستغل الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات لزيادة قدرتها على المساومة السياسية والحد من نفوذ إيران وروسيا في سوريا. ولذلك فإن التنسيق المشترك بين الدول التي تفرض العقوبات، والاتفاق على هدف رئيسي مشترك يسهم في تقليص قدرة الطرف المستهدَف على تطويق المخططات المختلفة للدول فارضة العقوبات، وفتح قنوات متعددة للتفاوض مع كلٍّ منها.([53])
وتُظهر الأزمة السورية أيضًا دور "الأطراف الثالثة" وأهمية وجود قناعة دولية بمطالب العقوبات. فقد عارضت دول مثل روسيا وإيران والصين إجراءَ تغيير سياسي في سوريا، ورفضت مطالب الإصلاح السياسي هناك، وتصدّت للعقوبات التي فرضتها الدول الغربية من خلال تقديم المزيد من الدعم والتبادل التجاري مع النظام السوري. مما فرض أهمية تحفيز داعمي الأطراف الداعمة للنظام السوري من أجل قبول الإصلاح السياسي في البلاد. وقد تتضمّن الحوافزُ السلبيّة فرضَ عقوبات مثل "قانون قيصر" الذي يزيد من تكاليف دعمهم للنظام، في حين قد تشمل الحوافز الإيجابيّة المشاورات وتقديم الضمانات التي تؤكد أن إرساء قواعد دولة ديمقراطية يساعد على حماية مصالحَهم الاقتصادية واستثماراتِهم في سوريا.([54])
كما يدخل في هذا الإطار أيضًا دور دول الجوار، فعندما لا يتم دعم العقوبات من الدول المجاورة للبلد الخاضع للعقوبات، فإنها تفقد تأثيرها.([55]) ورغم أن منع طرف ثالث من خرق العقوبات عبر إنشاء ائتلافات عقوبات متعددة الأطراف يُعد أمرًا صعبًا ومكلفًا، لكنه قد يكون مفيدًا في زيادة فعالية العقوبات.([56])
6- ديمقراطية النظام: تعمل العقوبات على إثارة السخط بين عامة الناس نتيجة تضررهم من العقوبات. وتفترض أنهم سيحشدون استيائهم ضد الحكومة التي بدورها ستستجيب أو ترحل عن الحكم.([57]) كما تستهدف العقوبات التجارية الإضرار بمصالح الشركات من أجل قيامها بالضغط على الحكومة لتعديل سياستها الخارجية.([58]) وفي حين تستهدف العقوبات الاقتصادية توليد ضغوط اقتصادية واجتماعية تُترجَم مباشرًة إلى ضغط سياسي، فإن الأشخاص الأكثر تضرراً من الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية لا يمتلكون في النظم الاستبدادية القدرة على التأثير على السياسات التي فُرضت العقوبات لتغييرها.([59])
وبينما تستغل قوى المعارضة في الدول الديمقراطية العقوبات للتنديد بسياسات الحكومة، فمن المرجح أن تستجيب الدول الديمقراطية أو شبه الديمقراطية التي تهتم بالرأي العام للغضب المحلي، في حين أن الأنظمة الاستبدادية المعزولة لا تفعل ذلك في كثير من الأحيان، وهو ما يمكن أن يُفسر فشل العقوبات المفروضة على روسيا منذ 2014.([60]) وقد تحدى النظام الكوري الشمالي الضغط والتأثيرات المجتمعية للعقوبات الدولية عبر استخدام القمع ضد أي معارضة محلية محتملة. فقد مكنته السيطرة الكاملة على جهاز الدولة القمعي والمراقبة الكاملة للمجتمع من القضاء على أي تحديات للوضع الراهن. ولذلك فحتى لو أدى الضغط الخارجي إلى خلق المزيد من المظالم والاستياء تجاه القيادة الحالية، فإن المواطنين الكوريين الشماليين يفتقرون إلى أي قنوات لتنظيم المعارضة. وستساعد انتهاكات حقوق الإنسان وآليات القمع والمراقبة على تثبيط الأنشطة المعارضة للنظام.([61]) كما أن التأثير الفعلي للإيرانيين على حكومتهم محدود أيضًا([62])، فضلًا عن ارتفاع التكلفة السياسية لمعارضة النظام، وهو ما ينطبق أيضًا على الحالة العراقية في عهد نظام الرئيس الأسبق صدام حسين.([63])
7- السمعة الدولية: تسعى العقوبات إلى دفع الدول نحو تغيير سلوكها من خلال تشويه سمعتها، ووصم الدولة بارتكاب انتهاكات تخالف القيم السياسية والحقوقية، واتهامها بانتهاك المعايير السلوكية المقبولة عالميًا. إلا أن ذلك يرتبط بمدى اهتمام الدولة بسمعتها الدولية والرأي العام العالمي، فمن غير المجدي معاقبة أنظمة منبوذة لا تتأثر بالرأي العام الدولي، مثل النظام الكوري الشمالي، والأنظمة الاستبدادية بشكل عام التي تلجأ من أجل مواجهة العقوبات إلى التحالف مع أنظمة مماثلة.([64])
8- توجهات وتضرر النخبة: غالبًا ما تفترض الدول التي تفرض العقوبات أن الضغط الاقتصادي سيُضعف اقتصاد الهدف وقدراته العسكرية، وبالتالي يُقوض قاعدة الدعم للقيادة السياسية، ويُجبرها على الاستسلام للضغط الأجنبي لتجنب تآكل سلطتها. إلا أن العقوبات ضد النظم الاستبدادية - خاصة التي لديها قاعدة دعم صغيرة نسبيًا - نادرًا ما تُشكل ضغطًا كافيًا للحث على التنازلات. وفي تلك الحالة، فإن فرص نجاح العقوبات في تحقيق أهدافها تزداد إذا ما كانت موجهة نحو النخب الحاكمة، وطُبقَت بشكل فعال. إذ تظهر أهمية تضرر النخبة في النظم الاستبدادية التي تتكون من تحالف صغير ومتماسك نسبيًا. ويخضع النظام فيها بشكل أساسي لسيطرة تحالف من كبار المسؤولين العسكريين وقادة الحزب الحاكم وكبار البيروقراطيين، مع وجود علاقات شخصية وروابط عصبية أو عائلية أو أيديولوجية، حيث يوفر النظام مجموعة واسعة من المكافآت الانتقائية والمزايا للنخب الحاكمة مقابل الولاء. فتنجو الأنظمة المستهدفة من الضغوط الخارجية عبر تحويل التكاليف الاقتصادية للعقوبات إلى المواطنين العاديين، واستخدام الموارد المتبقية لتقديم مكافآت انتقائية لأنصارها لعزلهم عن المصاعب الاقتصادية، والحيلولة دون حدوث انشقاقات في الدوائر الحاكمة، مثلما هو الحال مع كوريا الشمالية التي تمكنت من حماية نخبتها الحاكمة من التكاليف الاقتصادية للعقوبات رغم تضرر الاقتصاد الوطني. ولذلك تلجأ الدول إلى فرض عقوبات على "السلع الكمالية" للضغط على النخب الحاكمة، إلا أن الخلاف على تحديد السلع الكمالية، وتمكن الدول من الوصول إليها بطرق غير مشروعة، يحد من فعالية العقوبات.([65]) كما تلجأ الدول إلى تجميد أصول كبار المسئولين الحكوميين للضغط عليهم لتغيير السلوك المرفوض، وهو ما يتوقف نجاحه على حجم المبالغ المجمدة.([66])
ورغم أن العقوبات المفروضة على روسيا تستهدف النخبة الروسية انطلاقًا من أن فقدانهم قدرتهم على الوصول إلى الأموال والسفر إلى أوروبا وأمريكا الشمالية ستدفعهم نحو المطالبة باتخاذ خطوات مغايرة في السياسه الخارجية، إلا أن ذلك لا ينجح لثلاثة أسباب: الأول أن العقوبات تُغفل أن بوتين يمنح النخب حق الوصول إلى التمويل مقابل دعمهم له، والثاني أن تأثيرات العقوبات على النخب الروسية عليهم لا تزال غير قابلة للمقارنة برد الفعل السلبي الذي قد ينشأ عن معارضتهم لبوتين.([67]) أما السبب الثالث فيتعلق بدائرة النخبة المقصودة، وهو ما عبر عنه المعارض الروسي أليكسي نافالني للنواب الأوروبيين، في نوفمبر 2020، حينما قال: "على الاتحاد الأوربي أن يستهدف المال والنخبة القريبة من السلطة وليس النخبة السابقة بل الجدد، دائرة بوتين الضيقة". فيما قال وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن: "لا يمكن فرض عقوبات على النخب المقربة من السلطة. يمكننا التحرك ضد الموظفين الرسميين فقط إذا كانت لدينا أدلة".([68])
كما تلعب توجهات النخبة الحاكمة بذاتها – من دون تعرضها لضرر العقوبات – دورًا في المساعدة على تحقيق أهداف العقوبات، حيث ساعد انتخاب الرئيس الإيراني السابق - المعتدل نسبيًا - حسن روحاني عام 2013 على إضفاء طابع إلحاح جديد على المفاوضات النووية، بجانب تأثيرات العقوبات.([69])
9- الخبرة التاريخية: تعتبر الخبرة التاريخية الواسعة للنظام في التأقلم مع العقوبات والتغلُّب عليها إحدى عوامل فشل العقوبات. وتُمثل الحالة السورية نموذجًا لتوظيف الخبرة التاريخية، فقد فرضت الدول الغربيّة منذ عام 1979 حزم عقوبات مختلفة على النظام السوري ساهمت بدرجة كبيرة في تعزيز خبرته التراكمية في مواجهة العقوبات الاقتصادية الحالية، واستحداث آليات مختلفة للتعامل مع هذه العقوبات وتخفيف تأثيراتها.([70]) والحال ذاته ينطبق على حكومة كوريا الشمالية التي اكتسبت – نتيجة طول فترة خضوعها للعقوبات - خبرات تمكنها من التعامل بذكاء مع العقوبات للحصول على السلع التي تحتاجها، فضلًا عن اعتياد الكوريين الشماليين على العيش في ظروف اقتصادية قاسية.([71]) كما اكتسب الحرس الثوري الإيراني خبرة كبيرة في تهريب النفط عبر باكستان وأفغانستان والعراق، وبيعه فى السوق السوداء بأسعار أقل من الأسعار العالمية، وهي الاستراتيجية التي مكّنت طهران من الصمود في وجه العقوبات الأمريكية.([72])
وفي الحالة الكوبية، لعبت الخبرة التاريخية دورًا مختلفًا باستفادة النظام الحاكم من استياء العديد من الكوبيين تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وذكرياتهم السيئة عن العلاقات مع واشنطن والاحتلال الأمريكي لكوبا، في حثهم على المقاومة.([73])
10- التفكك السياسي: تعملالعقوبات الاقتصادية على التسبب في قدر من الضرر الاقتصادي الكافي لإحداث "التفكك السياسي'' في الدولة المستهدفة، مما يُجبرها على الامتثال للمطالب. إذ تراهن الدولة فارضة العقوبة على حدوث انقسام في قيادة الدولة الأخرى، أو انقسام بين القيادة والشعب حول ما يجب فعله حيال العقوبات والأزمة الناتجة عنها، أو إجبار احتجاجات شعبية - تحت ضغط العقوبات - للحكومة على تغيير سياستها. وكلما زادت حدة الضغط الاقتصادي، كان التفكك السياسي أسرع وأكبر، ومن ثم استجابت الدولة للمطالب. إلا أن ذلك كله قد يصطدم بتكامل سياسي قومي مضاد يحشد المواطنين والقيادة، وتعزيز الشعور الوطني ضد "ضغوط العدو".([74]) إذ لا تستسلم معظم الدول لمطالب العقوبات بسبب الكبرياء والكرامة الوطنية واعتبار الاستجابة للعقوبات تهديدًا للاستقلال الوطني.([75]) ولذلك فشرط نجاح العقوبات هناهو قدرتها على إلحاق ضرر اقتصادي شديد – بدرجات استثنائية أحيانًا – ينجح في تحقيق التفكك السياسي، في مواجهة محاولات استغلال العقوبات لتحقيق تكامل سياسي.
ويعتبر مدى استقرار النظام السياسي والدولة المستهدَفة بشكل عام من العوامل المؤثرة على نجاح العقوبات، حيث يكشف تحليل العقوبات الدولية بين عامي 1914 و1989 أن احتمالية نجاح العقوبات كانت 38٪ في حالات الاستقرار، مقابل 80٪ في حالات "الدول المنكوبة".([76]) وتزداد فرص نجاح العقوبات إذا كانت الدولة المستهدَفة صغيرة أو متوسطة الحجم، وتعاني من الصراع الداخلي أو الاضطراب السياسي، حيث يمكن أن تؤدي ضغوط العقوبات في هذه الحالة إلى تغيير النظام. أما إذا كانت الدولة المستهدَفة كبيرة الحجم، ولديها زعيم قوي جدًا دون معارضة قوية، ولا تعاني صراعًا سياسيًا داخليًا، فمن غير المرجح أن تؤدي العقوبات إلى تغيير النظام، كما هو الحال فيما يخص روسيا والصين.([77]) ويجادل البعض بتفوق فعالية عوامل أخرى على تأثيرات العقوبات بحد ذاتها في الحالة الجنوب أفريقية، مثل المعارضة السياسية القوية للأغلبية السوداء التي قادها نيلسون مانديلا، وعدم كفاءة نظام الفصل العنصري وتزايد تكاليفه.([78])
11- العلاقات المتبادلة: تزداد فرص نجاح العقوبات الاقتصادية حال فرضها بين دول صديقة، أما في حالات الخصومة فإن قادة البلد المستهدف يتوقعون بالفعل توتر العلاقات مع الدولة فارضة العقوبة، ويميلون إلى أن يكونوا أكثر مقاومة. لذلك تزداد فرص نجاح العقوبات المفروضة على الحلفاء أكثر من الخصوم.([79]) إذ تعتبر العقوبات فعّالة بشكل أساسي ضد الأنظمة التي تريد التجارة مع أنظمة العقوبات.([80]) ولكي تضر العقوبات الاقتصادية بأهدافها حقًا يجب أن يكون هناك نوعًا من الاعتماد الاقتصادي للدولة المستهدَفة على الدولة فارضة العقوبة، ومعدل تبادل تجاري مرتفع بينهما. كما أن استهداف أحد الأفراد بعقوبات مالية تهدف إلى تجميد حساباته المصرفية لن ينجح إلا إذا كانت أمواله مودعة بالفعل في البنوك الواقعة تحت سيادة الدولة فارضة العقوبة.([81])
ومع إلغاء الرئيس الأمريكي – السابق - دونالد ترامب في مايو 2020 الوضع الخاص لهونج كونج، صرحوزير مالية هونج كونج، بول تشان، أن تأثير القرار الأمريكي على التجارة سيكون محدودًا في نطاق اقتصاد المدينة، مشيرًا إلى أن المنتجات المحلية التي ستواجه تعريفات جمركية لا تمثل سوى أقل من 2% من قطاع الصناعات التحويلية في هونج كونج وأقل من 0.1% من إجمالي الصادرات.كما أن تجارة هونج كونج مع الولايات المتحدة الأمريكية شهدت بالفعل انخفاضًا في السنوات الأخيرة بسبب الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين، مما جعل قطاع التصدير في هونج كونج أكثر تنوعًا، وحدَّ من فعالية العقوبات الأخيرة.([82]) وفيمافرضت الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس 2020 عقوبات على كاري لام، الرئيس التنفيذي لهونج كونج. وردّت بكين بعقوبات ضد 11 أمريكيًا بينهم أعضاء جمهوريين بمجلس الشيوخ. إلا أن العقوبات في الحالتين كانت بلا تأثير، بالنظر إلى أن الأفراد الخاضعين للعقوبات لا يملكون أصولًا أو مصالح في الدولة الأخرى، مما جعل العقوبات رمزية دون تأثير اقتصادي.([83])
12- الاستخدام الذكي: يجادل البعض بأن المشكلة الأساسية التي تواجه العقوبات الدولية هي الإفراط في استخدام العقوبات وإساءة استخدامها([84]). وقد ربط وزير الخزانة الأمريكي السابق جاك لو بين الإفراط في استخدام العقوبات وخطر تقويض فعالية العقوبات نفسها.([85]) ويرتبط الاستخدام الذكي للعقوبات بمسألة "حساب التكاليف" أيضًا، فيجب أن تكون التكاليف التي يتحملها الهدف من العقوبات أكبر من التكاليف السياسية والأمنية للامتثال للمطالب.([86]) وعادةً ما تقوم الدول بتغيير سلوكها إذا كانت التكاليف السياسية لعدم الامتثال للعقوبات مرتفعة، في حين أنها قد تماطل أو ترفض الامتثال في حالة انخفاض التكلفة السياسية.([87])
كما ينبغي مراعاة "القيمة المضافة" عند تصميم واستخدام العقوبات، فينبغي أن تحمل العقوبة الجديدة المصممة لأجل تحقيق هدف جديد قيمة مضافة حتى تحقق الضغط المنتظر، وتزيد من احتمالية تحقيق هدفها. فعلى سبيل المثال، حظرت واشنطن في أغسطس 2018 توريد المنتجات ذات الاستخدام المزدوج إلى موسكو، بيد أن معظم هذه المنتجات قد تم حظر توريدها بالفعل في إطار العقوبات المفروضة عام 2014 على خلفية الأزمة الأوكرانية، وهو ما أفقد هذه الحزمة طابع التأثير والتكلفة السياسية على الدولة المستهدفة.([88])
13- تنفيذ العقوبات: إحدى الإشكاليات التي تعترض فعالية العقوبات هي عدم تنفيذها بشكل صحيح ودقيق، حيث يتطلب إنفاذ الحظر تخصيص موارد كبيرة، وإرادة سياسية قوية، ومواجهة مشاكل الاختراق والتهريب.([89]) ولم تحظ عقوبات الأمم المتحدة إلا بنجاح محدود لافتقادها إلى الآليات الرسمية والموارد الفنية والقدرة المالية لإدارة العقوبات ومراقبتها بشكل فعال. ولا تزال فعالية حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة محدودة في إنهاء الصراعات بسبب ضعف إنفاذ القانون وضعف المراقبة والظروف المزرية في البلدان المجاورة([90]). فضلًا عن أن قرارات الأمم المتحدة غالبًا ما تكون غامضة، مما يترك مجالًا واسعًا للتفسيرات المتباينة من قِبَل الدول الأعضاء.([91])
كما يحد تراجع الدولة غير المدروس عن العقوبات من فُرص الدولة للتأثير عبر تلك الأداة مستقبلًا. ففي أبريل 2018، فرضت إدارة دونالد ترامب عقوبات على شركة روسال للألومنيوم الروسية التي أنتجت 7٪ من الألومنيوم في العالم في ذلك الوقت. ثم قفزت أسعار الألومنيوم بنسبة 10٪ بعد فترة وجيزة من فرض العقوبات، مما دفع واشنطن إلى التراجع تحت ضغوط الشركات الأمريكية والمخاوف بشأن العواقب على الاقتصاد المحلي، فقد أصدرت سريعًا تراخيص ألغت تأثير الإجراءات، ثم سحبت العقوبات بالكامل، وهو ما أشار إلى أن سياسة العقوبات الأمريكية لم تكن مدروسة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تفتقر إلى الجرأة اللازمة لفرض عقوبات صارمة.([92])
ختامًا، تواجه العقوبات الدولية في الدوائر السياسية والأكاديمية اتهامات بالفشل، بالنظر إلى التقارير الإحصائية من جهة، وإلى الحالات البارزة من جهة أخرى. إلا هذا الحكم يبقى مقيدًا بضرورة الوقوف على الأهداف الحقيقية للعقوبات المفروضة. وبشكل عام، فإن هناك عدة وسائل تلجأ إليها الدول لإفشال العقوبات الدولية. فضلًا عن وجود محددات مهمة لنجاح وفعالية العقوبات الدولية ينبغي مراعاتها عند تصميم وفرض العقوبات.
([10]) Risky Business: A System-Level Analysis of the North Korean Proliferation Financing System, Center for Advanced Defense Studies, 2017.
([11]) Alexandra Ma, Op. cit.
([13]) زكي محشي، معاقبة النظام وحماية السوريين: معضلة العقوبات المفروضة على سوريا، مبادرة الإصلاح العربي، 17 سبتمبر 2020، ص 5.
([17]) Kimberly Ann Elliott,Op. cit.
([18]) SAARANSH MISHRA,Op. cit.
([21]) Alexandra Ma, Op. cit.
([23]) زكي محشي، مصدر سبق ذكره، ص 4.
([24]) Elizabeth Ellis, Op. cit.
([27]) Jonathan Masters,Op. cit.
([29]) زكي محشي، مصدر سبق ذكره، ص 6.
([31]) Jonathan Masters,Op. cit.
([32]) Edward Fishman, Op. cit.
([33]) Bryan Early, Op. cit.
([34]) Jonathan Masters,Op. cit.
([35]) صباح عبد الصبور، إيران نموذجاً: هل تضمن العقوبات الذكية تغيير سلوك الدول؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 31 أكتوبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://2u.pw/Pbqzp
([37]) Dr Christopher Sabatini, Op. cit.
([39]) Jonathan Masters,Op. cit.
([40]) صباح عبد الصبور، مصدر سبق ذكره.
([43]) Kimberly Ann Elliott, Op. cit.
([44]) طارق الشامي، هل تستطيع الصين الرد على العقوبات الأمريكية بمثلها؟، اندبندنت عربية، 10 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/YxexZ
([45]) Kimberly Ann Elliott and others, Op. cit.
([46]) Christine Ahn, and Haeyoung Kim,Op. cit.
([47]) Jonathan Masters,Op. cit.
([49]) Kimberly Ann Elliott,Op. cit.
([50]) صباح عبد الصبور، مصدر سبق ذكره.
([51]) أحمد شمس الدين ليلة، ردود فعل إيران تجاه العقوبات الأمريكية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 29 نوفمبر 2018، ص 19.
([52]) Daniel W. Drezner, Bargaining, Enforcement, and Multilateral Sanctions: When is Cooperation Counterproductive?, International Organization, Vol. 54, No. 1 (Winter, 2000), pp. 73-102.
([53]) زكي محشي، مصدر سبق ذكره، ص 7.
([55]) David Povey, Op. cit.
([56]) Bryan Early, Op. cit.
([57]) Hunter Cawood, Op. cit.
([59]) Bryan Early, Op. cit.
([60]) Saleha Mohsin, Op. cit.
([61]) Dursun Peksen, Op. cit.
([62]) MURAT SOFUOGLU, Op. cit.
([63]) صباح عبد الصبور، مصدر سبق ذكره.
([64]) SAARANSH MISHRA,Op. cit.
([65]) Dursun Peksen, Op. cit.
([66]) Elizabeth Ellis, Op. cit.
([68]) "إجراءات لا تستهدف النخبة القريبة من السلطة".. لماذا تفشل العقوبات الأوروبية؟، الحرة، 22 فبراير 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/afPnZ
([70]) زكي محشي، مصدر سبق ذكره، ص 4.
([71]) Alexandra Ma, Op. cit.
([73]) MURAT SOFUOGLU, Op. cit.
([74]) Elizabeth Ellis, Op. cit.
([76]) Maria Perrotta Berlin, Op. cit.
([77]) MURAT SOFUOGLU, Op. cit.
([78]) SAARANSH MISHRA,Op. cit.
([79]) MURAT SOFUOGLU, Op. cit.
([80]) SAARANSH MISHRA,Op. cit.
([81]) Bryan Early, Op. cit.
([84]) Edward Fishman, Op. cit.
([85]) David Francis, and Lara Jakes, Op. cit.
([86]) Elizabeth Ellis, Op. cit.
([87]) صباح عبد الصبور، مصدر سبق ذكره.
([90]) Kimberly Ann Elliott and others,Op. cit.
([92]) Edward Fishman, Op. cit.