جمع النقيضين: واشنطن تواجه خصومها الدوليين وتهتم بقضايا الشرق الأوسط
2021-6-23

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

بدت إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن بعد خمسة شهور من الحكم أكثر نشاطاً واهتماما تجاه العديد من القضايا المهمة بعد مرحلة من الهدوء والصمت بدت وكأنها مرحلة ضرورية لاستيعاب متغيرات الخريطة السياسية فى دوائر إقليمية تزدحم بقضايا متعددة تدخل فى حيز اهتمامات وتفاعلات السياسة الخارجية الأمريكية. هذه التفاعلات يتعلق بعضها بالمصالح الأمنية والاستراتيجية فى مواجهة روسيا والصين، ويرتبط بعضها الآخر بقضايا منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة العودة مجددا إلى ساحة التفاعلات الإقليمية والدولية بها.

قواعد بديلة تُقلِق روسيا والصين

أطلقت إدارة بايدن عملية سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بدءاً من مايو الماضى، استكمالاً لاتفاق السلام الذى توصلت إليه إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان، فى فبراير 2020، عبر مسار تفاوضى فى العاصمة القطرية. الانسحاب الأمريكى فتح باب الاحتمالات بشأن استبدال الولايات المتحدة وجودها العسكرى فى أفغانستان بوجود مماثل فى منطقة آسيا الوسطى، التى تتميز بموقع استراتيجى مهم، وإمكانات نفطية ضخمة. وثمة تكهنات برغبة واشنطن فى إقامة قواعد عسكرية فى إحدى الجمهوريات الثلاثة أوزبكستان أو قيرغيزستان أو طاجيكستان، على اعتبار متاخمة تلك الدول لأفغانستان، والتى تتخوف واشنطن بالضرورة من انتشار العنف بها مجدداً بعد الانسحاب، بما قد يؤثر سلبياً على مستقبل أفغانستان. ومن ثم، تسوق الولايات المتحدة لفكرة استمرار وجودها العسكرى فى هذا المثلث بما يمكنها، عبر قواعدها المحتملة، من تقديم الدعم لتلك الدول من ناحية، وللحكومة الأفغانية فى مواجهة حركة طالبان من ناحية ثانية، وإبقاء طالبان وغيرها من الحركات المسلحة تحت المراقبة العسكرية الأمريكية، من ناحية ثالثة.

هذه الأهداف التى تروج لها الإدارة الأمريكية تخفى وراءها أهدافاً ضمنية أخرى تبدو أكثر أهمية لديها من مجرد الدفاع عن الاستقرار الأمنى والسياسى فى دول منطقة آسيا الوسطى، يأتى فى مقدمتها «العودة» إلى تطويق مصالح منافسيها الدوليين فى المنطقة نفسها، وهما روسيا والصين. وجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة كانت لديها قاعدتان عسكريتان فى أوزبكستان وقيرغيزستان خلال سنوات حربها الطويلة فى أفغانستان، وتحت وطأة ضغوط دولية مارستها روسيا والصين ضدها للخروج من آسيا الوسطى أغلقت واشنطن قاعدتها العسكرية فى أوزبكستان عام 2005، بينما أنهت العمل في قاعدتها فى قيرغيزستان فى عام 2015. ومن ثم، باتت الرغبة الأمريكية فى العودة إلى قواعد بديلة لأفغانستان فى هذه الدول أمراً يتعارض واقعياً وفعلياً مع مصالح كلتا الدولتين، بما قد يضع العديد من القيود على التطلعات العسكرية الأمريكية المحتملة فى دول آسيا الوسطى، التى يواجهها تحدى الانتشار الروسى العسكرى الكبير فى المنطقة نفسها من جانب، وتزايد الحضور الصينى بأبعاده الاقتصادية الضخمة من جانب آخر.

التطلعات الأمريكية للعودة عسكرياً إلى آسيا الوسطى تزيد من حدة الهواجس لدى روسيا من مسعى إدارة بايدن لتطويق واحتواء نفوذها فى دول كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتى السابق، وترتبط معها بمعاهدة للأمن الجماعى، وهو ما تراه روسيا استهدافاً أمريكياً جديداً ومباشراً لنفوذها العسكرى والأمنى فى المنطقة نفسها، بعد نجاحها لسنوات طويلة فى دفع دول المنطقة لتقليص التعاون العسكرى مع الولايات المتحدة، وهو ما أسهم فى شيوع حالة اطمئنان روسية على عمقها الجيواستراتيجى فى آسيا دفعتها للبحث عن مناطق نفوذ جديدة فى مناطق حيوية أخرى كان أبرزها التعاطى العسكرى الروسى فى شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم الانخراط العسكرى فى سوريا عام 2015. كما دفعتها إلى إعادة ترقية وجودها العسكرى فى دول المنطقة وتحديداً فى دولتين هما: طاجيكستان، حيث قاعدتها العسكرية القريبة من الحدود مع أفغانستان بتزويد القاعدة بمنظومة صواريخ «إس 300»، وكازاخستان، حيث نشرت المنظومة الصاروخية نفسها فى قاعدة عسكرية لها داخل الأراضى الكازاخستانية.

هذه التحركات الروسية جاءت رداً على سياسات واشنطن الخاصة بنشر منظومات صواريخ ورادارات تابعة لحلف الناتو بالقرب من الحدود الروسية، بما اعتبرته روسيا محاصرة أمريكية لأمنها القومى عبر منظومات وبرامج الصواريخ التقليدية والمتوسطة التابعة للناتو. ويرى العديد من المحللين أن محاولات واشنطن للعودة إلى دول آسيا الوسطى -عبر البحث عن قواعد جديدة فى ظل إدارة الرئيس الحالى جو بايدن- هدفها الرئيسى هو «كسر حزام الأمان» الذى أقامته روسيا خارج حدودها الإقليمية، وذلك عبر آلية التغلغل داخل النطاق الجيواستراتيجى لهذا الحزام فى آسيا الوسطى من خلال توظيف فعال للتعاون العسكرى والاقتصادى مع دولها، بينما ثمة رأى آخر يقول إن محاولات بايدن لمواجهة النفوذ الروسى هدفها الرئيسى هو «احتواء» روسيا عبر إعادة إحياء العلاقات الأمنية بين الطرفين، ومنها تمديد بايدن، فى فبراير 2021، العمل باتفاقيات خفض الأسلحة النووية بين الطرفين. لكن هذا الرأى تحديداً مردود عليه برؤية الفريق السياسى والأمنى للرئيس بايدن، والذى يرى أن ثمة ثلاثة مسارات أخرى إلى جانب صراع النفوذ فى آسيا الوسطى بإمكان واشنطن الضغط بها على الجانب الروسى:

المسار الأول، يتعلق بحقوق الإنسان واحترام المعارضة. والثانى، ينصرف إلى العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا. والثالث، يتصل بالضغط على المصالح الروسية فى أوكرانيا، بتزويد واشنطن للأخيرة بأسلحة نوعية لحماية أمنها ضد روسيا، وكذلك تأييد انضمام جورجيا لحلف الناتو فى خطوة استفزازية واضحة ضد روسيا. إلا أن هذه المسارات نفسها تضع العديد من القيود على سياسات الولايات المتحدة لاحتواء روسيا وتجعلهما مستمرتين فى لعب دوريهما كخصمين دوليين متنافسين.

أما بالنسبة للصين فتكمن هواجسها فى تقييد القواعد العسكرية الأمريكية المحتملة فى آسيا الوسطى من الشراكة الاقتصادية الشاملة، إلى جانب التنسيق بشأن القضايا الإقليمية والدولية التى أقامتها بكين مع دول المنطقة، وتحديداً «الشراكة الاستراتيجية» مع أوزبكستان، وطاجيكستان.

وبعيداً عن آسيا الوسطى، ثمة مجال جغرافي آخر تسعى الولايات المتحدة إلى إقامة قواعد لتخزين معدات قتالية وذخيرة به فى شمال استراليا القريبة من الصين، على نحو أثار حفيظة بكين لاسيما بعد تصريحات السفير الأمريكى لدى استراليا بشأن هذه الخطوة والتى وصفها بـ «الانتشار المتقدم» لمواجهة التحديات التى فرضتها حالة «السياق الجيواستراتيجى الجديد» فى منطقة المحيط الهادى. وتبدى الولايات المتحدة اهتماماً واضحاً بسياسات الصين وتعمل على تقويضها عبر العديد من الشراكات والتحالفات والتكتلات فى الفضاءات الجيواستراتيجية بين البلدين لإدراكها أن العملاق الصينى بمقوماته الاقتصادية والتجارية والسكانية قادر على تهديد المصالح الأمريكية بقوة مستقبلاً.

فى هذا الإطار، ترى الولايات المتحدة أن الشراكة الاستراتيجية «المستقرة» التى تربط روسيا بالصين تعد من أكبر مصادر التهديد لمصالحها، ليس فى منطقة آسيا والمحيط الهادي (الباسيفيك) فحسب، ولكن أيضاً على مستوى العالم، لكون هذه الشراكة تجمع بين القوة العسكرية الموازنة لقدرات واشنطن العسكرية ممثلة فى روسيا، والقوة الاقتصادية والتجارية والبشرية الهائلة التى تمتلكها الصين. وبالتالى ترى إدارة بايدن وجوب العمل على مسارين: أحدهما يسعى لمواجهة الشراكة بين الطرفين. والآخر يسعى إلى تفكيك هذه الشراكة.

ويلاحظ أن الشراكة بين روسيا والصين دفعت إليها أسباب عديدة أبرزها سياسات الولايات المتحدة ضدهما، باعتبار أن الدولتين تتعرضان لآلية العقوبات الاقتصادية الأمريكية نفسها. وتحاول إدارة بايدن العمل على تفكيك الشراكة المستقرة فى العلاقات بين روسيا والصين عبر جذب الأولى لمستوى محدود من التعاون فى القضايا الإقليمية والدولية ذات التداخلات بينهما، دون أن يعنى ذلك تحريكاً لوضع روسيا بالنسبة للاستراتيجية الأمنية الأمريكية من مرتبة «العداء»، خاصة بعد سلسلة من الأعمال العدائية، من وجهة النظر الأمريكية، تمثلت فى الهجوم الإلكترونى، والحشد العسكرى اللافت على حدود أوكرانيا، والتدخل فى الانتخابات الرئاسية. وربما جاءت القمة التى جمعت الرئيسين بايدن وبوتين فى جنيف في16 من يونيو الجارى فى هذا السياق، أى البحث عن «حد أدنى» من التفاهمات الدولية بين الدولتين يسهم فى تهدئة نبرة التصعيد بينهما، ويسهم كذلك فى معالجة عدد من بؤر الأزمات على مستوى العالم، لاسيما تلك التى تموج بها منطقة الشرق الأوسط.

عودة الاهتمام بقضايا الشرق الأوسط

على عكس المتوقع بشأن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط وقضاياها فى السياسة الخارجية الأمريكية لصالح الاهتمام بقضايا التنافس مع روسيا والصين، والتى فرضتها المعطيات الجيوسياسية فى منطقة آسيا– المحيط الهادى، جاءت تعاطيات إدارة الرئيس بايدن مع قضايا الشرق الأوسط، خاصة بؤر الصراع المحتدمة والممتدة بها، لتبرز اهتماماً نوعياً من قبل تلك الإدارة بكافة تفاعلات المشهد السياسى فى المنطقة.

إذ أعادت الإدارة، وبعد خمسة شهور من وصولها إلى السلطة، ترتيب أولويات سياستها فى المنطقة، والتى تقوم باختصار على توثيق العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين، وتأكيد الالتزام الأمريكى بمواجهة التحولات التى شهدتها الأزمات ذات الصراع العسكرى والسياسى الناتجة عن معادلات التفاعل الدولى والإقليمى فى المنطقة، واعتماد المسارات الدبلوماسية المتعددة كأدوات رئيسية للسياسة الأمريكية فى معالجتها لتطورات الأزمات الحادة التى تواجه دول المنطقة، بما يؤشر على تفاعل أمريكى متوقع مع تلك الأزمات يتخطى مرحلة الجمود السابقة، ويؤدى إلى بلورة معادلات دولية وإقليمية جديدة تأخذ فى الحسبان التطورات التى شهدتها المنطقة فى ظل تراجع الاهتمام الأمريكى بها خلال السنوات الماضية.

ومن أبرز هذه التطورات تنامى الوجود الروسى عسكرياً ودبلوماسياً فى المنطقة منذ دخول سوريا عام 2015، بصورة يمكن القول معها إن الوجود الروسى فى منطقة الشرق الأوسط أصبح «يُؤطِّر» تفاعلات المنطقة بمصالحه الإقليمية والدولية، ومن ثم أصبح من الضروري أن تأخذ العودة الأمريكية للاهتمام الجاد بالمنطقة- وفقاً لأهداف بايدن المتمثلة فى التأسيس لمرحلة جديدة تقوم على تحقيق الردع عبر الأداة الدبلوماسية متعددة الأبعاد- فى حسبانها المتغيرات التى فرضها الحضور الروسى اللافت فيها.

وتدلل الخطوات الدبلوماسية التى انتهجتها إدارة بايدن تجاه أزمات المنطقة خلال الشهور الماضية على ما سبق قوله كالتالى:

- الرغبة فى العودة للاتفاق النووى مع إيران عبر مسار دبلوماسى تفاوضى يتبنى سياسة «الضغط الهادئ» على العكس من سياسة «الضغوط القصوى» التى تبنتها إدارة ترامب السابقة فى الصراع مع إيران، وإن لم يسفر التفاوض عن نتائج ملموسة، حتى كتابة هذه السطور.

- الاهتمام بقضايا التعاون مع الحلفاء التقليديين فى الخليج، وفى الوقت نفسه إجراء مراجعة شاملة للدعم العسكرى لدوله على خلفية الأزمة اليمنية التى تلقى اهتماماً ملموساً من بايدن نفسه.

- العودة إلى تفاعلات الصراع العربى- الإسرائيلى فى حلقته الفلسطينية، وكان لافتاً الحضور الأمريكى الدبلوماسى خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة.

- الاهتمام بالملفين العراقى والسورى من خلال تحقيق الردع للقوى المناوئة لها فى البلدين، وفى الوقت نفسه إتاحة المجال لخطاب دبلوماسى هادئ مختلف عن تفاعلات الإدارة السابقة. ويلاحظ هنا أن لدى إدارة بايدن رغبة فى الربط بين بعض الأزمات الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط التى تشهد انخراطاً إيرانياً واضحاً، كملفى العراق وسوريا، وذلك فى سياق ممارسة المزيد من الضغوط على إيران لحثها على اتباع نهج أكثر مرونة خلال المسار التفاوضى الجارى معها بشأن الاتفاق النووى.

- الدخول الأمريكى الدبلوماسى كذلك على خط الأزمة بشأن سد النهضة ومحاولاتها تقريب الرؤى بين الدول الثلاث المعنية بالأزمة بشأن التوصل لاتفاق يرضى جميع الأطراف.

- اجتماع الرئيس بايدن مع الرئيس التركى أردوغان على هامش قمة حلف الناتو ببروكسل منتصف يونيو 2021 الجارى بالرغم من احتدام «نزاعات مباشرة» بين الرئيسين على خلفية الدور التركى ضد الأكراد السوريين فى شمال سوريا، والدعم الأمريكى لحزب الاتحاد الديمقراطى السورى الذى تصنفه تركيا إرهابياً، والعقوبات الأمريكية على أنقرة فى ديسمبر 2020 (الصناعات الدفاعية تحديداً) جراء امتلاكها منظومة صواريخ «إس 400» الروسية، وتصريحات بايدن المباشرة لنظيره التركى عبر مكالمة هاتفية فى إبريل 2021 مؤداها أنه سيعترف بالإبادة الجماعية التى مارستها تركيا ضد الأرمن عام 1915.

إن جميع التفاعلات الأمريكية السابق رصدها بشأن توجهات السياسة الخارجية فى ظل إدارة بايدن تجاه مناطق النفوذ فى مواجهة روسيا والصين من ناحية، وتجاه أزمات وقضايا الشرق الأوسط من ناحية ثانية، تؤشر إلى صياغة أمريكية جديدة لعلاقاتها فى مجالات اهتماماتها الجيوسياسية فى ضوء التغيرات المستمرة التى تشهدها المنطقتان، ولكن يبقى التساؤل قائماً بشأن مدى نجاعة تلك التوجهات الجديدة فى معالجة حقيقية للأزمات، لاسيما تلك التى تشهدها الشرق الأوسط، ومدى قدرة الإدارة الأمريكية الجديدة على استيعاب المتغيرات وابتداع الحلول، وهو أمر يبدو صعباً لأنه محكوم بمدى اعتراف تلك الإدارة بمصالح غيرها من القوى الدولية والإقليمية فى كلتا المنطقتين.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 22 يونيو2021.

رابط دائم: