اليوم التالى: النزاعات الأهلية وإعادة الإعمار فى سوريا وليبيا واليمن
2021-6-16

على مدى العقد الماضى، اندلعت احتجاجات سرعان ما تحولت إلى ثورات شعبية فى عدد كبير من البلدان العربية، تطورت فى بعض منها، فى سوريا وليبيا واليمن، إلى نزاعات أهلية مسلحة، لا تزال دائرة حتى منتصف عام 2021. وقد لعبت الأوضاع الاقتصادية المتردية فى البلدان الثلاثة دورًا فى قيام هذه الاحتجاجات وتطورها إلى نزاعات عنيفة، بسبب تفشى البطالة بها، خاصة بين الشباب، وكذلك الفقر، وعدم المساواة. وترجع هذه الأوضاع بدورها إلى الهيكل الريعى لاقتصادات البلدان الثلاثة، وكذلك لأغلب اقتصادات المنطقة، المعتمد على قطاع النفط، وبدرجة أقل تحويلات العاملين فى الخارج والسياحة، وهو الهيكل الذى أدى على مدى عقود من التراكمات، إلى ضعف شامل فى المؤسسات، نتج عنه سوء الإدارة الاقتصادية.

وقد تسببت هذه النزاعات المسلحة فى خسائر فادحة لاقتصادات البلدان الثلاثة. وتشير التقديرات إلى خسارة الاقتصاد السورى فى المجمل ما بين 300 و400 مليار دولار أمريكى بسبب الحرب الأهلية، وخسارة الاقتصاد اليمنى ما يقارب 86.6 مليار دولار، والاقتصاد الليبى 580 مليار دولار، وذلك بسبب الدمار المادى فى الأصول جراء المعارك، والخسائر البشرية بسبب الوفيات والإصابات، والنزوح واللجوء، وتدهور رأس المال البشرى بسبب عدم انتظام التعليم، وتدهور الرعاية الصحية، بالإضافة إلى الخسارة فى الناتج بسبب تعطل القطاعات المختلفة، وفى مقدمتها قطاع النفط الحيوي.

وتهدد هذه الخسائر الاقتصادية بدورها باستدامة النزاع جراء العلاقة بين الأوضاع الاقتصادية والاقتتال الأهلى، فيما يعرف بفخ النزاع، الذى وفقًا له تؤدى الأوضاع الاقتصادية المتردية إلى زيادة احتمالية نشوء صراعات أهلية، وبدورها تؤدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادى، فمزيد من الصراعات الأهلية. وتمثل بالتالى إعادة الإعمار، من خلال إيجاد الوظائف، وإدارة الموارد بكفاءة، وتعزيز المساواة، المخرج من فخ النزاعات الأهلية فى المنطقة، وتحقيق الاستقرار.

وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد السورى يحتاج إلى ما بين 250 مليارًا وتريليون دولار لتمويل عملية إعادة إعماره، التى قد تستغرق ما بين عقد إلى عقدين، كى يصل الناتج السورى إلى مستوى ما قبل الحرب. أما الاقتصاد اليمنى، فقد يحتاج إلى ما بين 20 إلى 40 مليار دولار لإعادة الإعمار، موزعة على فترة لا تقل عن 5 سنوات. وأخيرا، لا توجد تقديرات دقيقة للاحتياجات التمويلية للاقتصاد الليبى، لإطلاق إعادة الإعمار، وذلك فى الأغلب بسبب توافر الموارد النفطية المحلية، وعدم الحاجة إلى جهات مانحة خارجية.

ولكن كى تلعب عملية إعادة الإعمار دورها التنموى، وتخرج البلدان من فخ النزاع، فمن الضرورى أن تُدار فى بيئة مؤسسية رشيدة واحتوائية، تضمن تلبية احتياجات المواطنين، وعدم إهدار الموارد المكرسة للعملية، من خلال الفساد أو سوء الإدارة. وتكمن الأزمة فى سوريا وليبيا واليمن فى أن المؤسسات الضعيفة والمتردية، فى عقود ما قبل الحرب، قد رسختها سنوات الاقتتال المسلح، وهو ما يقلل من احتمالية إنشاء وتثبيت مؤسسات رشيدة بعد انتهاء الحرب، تدير من خلالها الدولة الجديدة عملية إعادة الإعمار، عوضًا عن أن تستخدم الموارد المتاحة فى ترسيخ سطوتها وحكمها، ومعاقبة المعارضين. وكذلك، فإن خيار إعادة الإعمار غير المركزية ضمن توازنات القوى الراهنة بين الفرقاء، قد ينتج عنها استغلالهم الموارد المتوافرة لديهم فى تمويل الاقتتال المسلح. وفى الحالتين، فإن إعادة الإعمار ستكون أداة لاستمرار النزاع، وليس الخروج منه.

كذلك، يمثل تمويل إعادة الإعمار إشكالية أخرى، خاصة فى سوريا واليمن، نظرًا لأن الفاعلين الخارجيين، إقليميا ودوليا، المنتظر منهم أن يمولوا إعادة الإعمار بعد الحرب، هم أطراف فى النزاع بشكل مباشر أو بالوكالة من خلال دعمهم فرقاء الداخل بصور مختلفة، وبالتالى فهم قد يستخدمون تمويلهم لإعادة الإعمار، كأداة لترجيح جميع حلفائهم الداخليين فى النزاع، بما يؤدى لتأجيجه عوضًا عن إنهائه.

وبالتالى، ومع تراجع حدة الاقتتال أخيرًا، فى سوريا وليبيا واليمن، فمن المرجح أن يتواصل النزاع الأهلى بها، بشكل آخر، وإن كان أقل عنفًا على الأقل فى المدى القريب، مدفوعًا بتحديات عملية إعادة الإعمار، المتعلقة بالمؤسسات الداخلية، والتمويل الخارجى. وفى حين تبدو بالتالى آفاق حل النزاعات الأهلية فى المنطقة غير مبشرة، فهى ستكون مرهونة فى الأغلب، بمدى توافق الفاعلين الخارجيين على حلها، وهو ما يطرح بالتالى تحديات إضافية، فى صورة الصراعات والتنافس الراسخ بين الفاعلين وبعضهم.


رابط دائم: