تمثل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لدولة جيبوتي، في 27 مايو 2021، وهى الأولى من نوعها لرئيس مصري منذ عام 1977، جزءاً من شبكة علاقات وتحالفات إقليمية استطاعت مصر بناءها عبر السنوات السبع الماضية. تقع جيبوتي بالقرب من مضيق باب المندب، الذي يعد بوابة لقناة السويس، على طرق الشحن بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها ممراً بحرياً رئيسياً بالإضافة إلى كونها طريقاً تجارياً رئيسياً بين الشرق والغرب. لقد أعاد الرئيس السيسي بهذه الحركة الواعية في توجهات مصر الخارجية الروح للروابط الجيوسياسية التي تفرضها عوامل التاريخ والجغرافيا. ولعلنا نتذكر أنه تم استخدام هذا الممر البحري الهام، كنقطة التقاء استراتيجية بين أفريقيا وآسيا، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد من قبل المصريين القدماء.
ربما تعد جيبوتي بمعايير الجغرافيا والسياسة "دولة صغيرة" ضعيفة وغير فعّالة على صعيد النظامين الإقليمي والدولي. إنها أصغر دولة في القرن الأفريقي وهى تكاد تخلو من أى موارد طبيعية، فضلاً عن ذلك فهي محاصرة بجيران كبار وتقع بحكم الموقع الجغرافي الاستراتيجي على ممرات الشحن البحرية الرئيسية في العالم. بيد أن جيبوتي التي تناساها العرب منذ أن دخلت جامعتهم منتصف سبعينيات القرن الماضي وكأنها هوت في ذاكرتهم الجمعية بهدوء إلى أعماق المحيط، استطاعت أن تحول موقعها الفريد إلى مورد وعلامة تجارية مربحة. وقد يظن البعض أن أهمية التقارب المصري- الجيبوتي لا تتجاوز الجوانب الرمزية نظراً لعمق الروابط التجارية بينها وبين إثيوبيا. إذ تعد إثيوبيا، الدولة الحبيسة التي يبلغ عدد سكانها 110 مليون نسمة، المستخدم الرئيسي لميناء جيبوتي، حيث يمر من خلاله نحو 70٪ من تجارتها.
على أن التغيرات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي منذ قدوم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد باتت تشكل تحدياً لنموذج جيبوتي. في الواقع، يمكننا أن نرى تراجعاً في التأثير الإقليمي لجيبوتي منذ عودة الدفء للعلاقات بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018. كما أن تطوير العلاقات التعاونية بين أديس أبابا وأسمرة قد يؤدي إلى استكشاف بدائل أخرى لوصول إثيوبيا إلى البحر مثل موانئ بربرة وعصب. وقد اتضح ذلك بجلاء من الإعلان عن منظمة تعاون القرن الأفريقي في يناير 2020 بين كل من إثيوبيا وإريتريا والصومال. وعليه تعد العلاقة مع إثيوبيا كقوة إقليمية سلاحاً ذا حدين، فهى قد تكون مصدراً لدينامية جيبوتي وفاعليتها ولكنها في الوقت نفسه قد تكون عامل خطر في المستقبل. ولعل ذلك يدفع بجيبوتي في اتجاه تنويع شراكاتها الخارجية والبناء على الروابط التاريخية والحضارية التي تجمعها بمصر شمالاً.
إن جيبوتي كما ذكرنا محطة مهمة للسفن وقاعدة استراتيجية للجيوش الغربية والأجنبية، وهو ما يجعلها ركيزة لأمن القرن الأفريقي. ومن المؤكد أن الشراكة مع مصر سوف تؤثر على إثيوبيا وإريتريا والصومال واليمن بما يعني عودة توازن القوى الإقليمية لصالح مصر.
بناء تحالفات إقليمية جديدة
من الواضح تماماً أن حركة مصر الخارجية قد أعادت رسم حدود دورها الإقليمي لتصبح مرة أخرى قوة فاعلة ومؤثرة في النظام الدولي. ففي الوقت الذي تواترت فيه معلومات سودانية عن بدءإثيوبيا المرحلة الثانية من ملء سد النهضة من أجل فرض سياسة الأمر الواقع، تمسكت مصر بثوابت موقفها الذي يؤكد على ضرورة التوصل إلى اتفاق شامل وملزم يضمن حقوق دولتى المصب. ولا يخفى أن أحد أهم أهداف الحركة المصرية في إطارها الإقليمي يتمثل في التوكيد على محورية الدور المصري في إرساء دعائم الاستقرار والسلام في الإقليم. اتضح ذلك في نجاح الدبلوماسية المصرية في إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية مع عدد من دول حوض النيل (السودان وأوغندة وكينيا وبوروندي) بالإضافة إلى جيبوتي.
وبالتوازي ظهر الصعود المصري واضحاً في منطقة شرق المتوسط وفي ليبيا، حيث تمكنت من إقرار السلام. وفي نفس سياق بروز الدور الإقليمي لمصر، ساعدت القيادة المصرية بشكل أساسي في التوسط من أجل وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. نحن أمام إعادة رسم خريطة التفاعلات الاستراتيجية في المنطقة الأوسع التي تشمل حوض النيل وشرق المتوسط والشرق الأوسط. ففي الوقت الذي تشجع فيه القوى الإقليمية الأخرى، مثل إثيوبيا وتركيا وإيران، على نشر التطرف وعدم الاستقرار، كانت مصر الناهضة تقف عند حدود دورها التقليدي كعامل توازن واستقرار إقليمي. ولعل ذلك هو الذي أحدث تغيراً فارقاً في توجهات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه مصر باعتبارها شريكاً استراتيجياً موثوقاً به ويمكن الركون إليه.
التنسيق الأمني والعسكري مع السودان
ترى كل من مصر والسودان أن خطة إثيوبيا الخاصة بالملء الثاني لخزان سد النهضة عام 2021 تشكل تهديداً لأمنهما القومي. وقد أيدت مصر دعوة السودان لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي من أجل المساعدة في التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً. على أن إثيوبيا رفضت كالعادة هذا المطلب، وهو ما دعا الرئيس السيسي، في أكثر من مناسبة، إلى التحذير من أن حصة مصر من مياه النيل "لا يمكن المساس بها" وأنه سيكون هناك "عدم استقرار لا يمكن لأحد أن يتخيله" في المنطقة إذا ملأت إثيوبيا الخزان دون اتفاق دولي ملزم.
ازدادت وتيرة التنسيق الأمني بين كل من مصر والسودان، حيث تجري القوات السودانية والمصرية مناورات مشتركة يطلق عليها اسم "حماة النيل"، وذلك بهدف "تعزيز العلاقات الثنائية وتوحيد الأساليب في التعامل مع التهديدات التي من المتوقع أن يواجهها كلا البلدين". ولعل ذلك يحمل دلالات غير خافية فيما يتعلق بالأخطار المتعلقة بأزمات المياه والحدود في المنطقة.
ومن المعروف أنه في نوفمبر 2020، أجرت وحدات كوماندوز وقوات جوية مصرية وسودانية تدريبات أطلق عليها اسم "نسور النيل-1"، وهى أول مناورات عسكرية مشتركة منذ الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير في عام 2019. كل ذك يؤكد على عمق ومتانة مفهوم وحدة وادي النيل بين كل من مصر والسودان وهو ما يعيد الاعتبار مرة أخرى لتوازنات القوى الطبيعية في منطقة حوض النيل.
إثيوبيا "دولة عاصية" في النظام الدولي
ليس بخافٍ أن أحد دوافع التحرك المصري الفاعل في المنطقة هو عزل النهج التوسعي الذي يمارسه نظام آبي أحمد منذ عام 2018. لقد حاول من خلال تبني رؤية محملة بالأساطير الدينية ومفاهيم الاستثنائية الإثيوبية أن يعيد رسم خريطة القرن الأفريقي وفقاً لمفهوم السلام الإثيوبي (باكس إثيوبيانا). كان الهدف هو الوصول إلى البحر والتخلص من لعنة الدولة الحبيسة التي تطارد هضبة الحبشة، فعمل على تشكيل أسطول بحرى وتبني استراتيجية الموانئ، كما تبني سلفه ميليس زيناوي استراتيجية السدود. وفي يناير 2020، تم الإعلان عن ميثاق أسمرة لمنظمة تعاون القرن الأفريقي لتكون بديلاً عن الايجاد. على أن سياسة الهيمنة الإثيوبية باءت الفشل الشديد بفعل عدد من العوامل الرئيسية:
أولاً: أدت إعادة صياغة التحالفات السياسية في القرن الأفريقي وإعادة التخطيط للدور الإثيوبي في المنطقة الأوسع إلى تحدي منظمة الايجاد التي حققت نجاحات ملموسة في إدارة العديد من المشكلات الإقليمية. ومن جهة أخرى، لم تشعر بعض دور الجوار، مثل أوغندة وكينيا وجيبوتي، بالارتياح لظهور هذا التحالف الجديد تحت قيادة إثيوبية.
ثانياً: أضحت الحرب في التيغراي التي اندلعت في نوفمبر 2020 مثل كرة الثلج، وهو الأمر الذي دفع بالمبعوث الأمريكي لمنطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان إلى القول بأن الأزمة السورية سوف تصبح مسألة هينة مقارنة بالفوضى المتصورة في إثيوبيا. وعليه، فإن الحرب في التيغراي، وبؤرة التوتر الملتهبة على الحدود السودانية- الإثيوبية، وكذلك أزمة سد النهضة الإثيوبي، تمثل جميعها مقدمات لإمكانية اشتعال حرب إقليمية كبرى.
ثالثاً: قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية وأمنية على كل من إثيوبيا وإرتيريا بخصوص الانتهاكات التي حدثت في إقليم التيغراي. وطبقاً لمصادر أمريكية، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجري مراجعة لجرائم الحرب المحتملة المرتكبة في منطقة التيغراي الإثيوبية، وهو ما قد يهدد المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
وإذا تأملنا الحركة الواعية للدبلوماسية المصرية في محيطها الإقليمي باعتبارها عامل استقرار ووقوفها ضد قوى التطرف في المنطقة مقارنة بحركة إثيوبيا التي نشرت الحرب والدمار وتحالفت مع نظام أفورقي المعزول دولياً، لوجدنا حدوث تحولات فارقة في الموقف الدولي لصالح مصر، وهو ما يعزز موقفها التفاوضي في أزمة سد النهضة ويوضح كذلك زيف المغالطات الإثيوبية. ومن جهة أخرى يفتح الباب أمام مصر لانتهاج أى خيارات أخرى غير تفاوضية باعتبار أن إثيوبيا دولة عاصية في النظام الدولي.
احتواء نفوذ القوى الإقليمية
لا تقتصر تحالفات مصر الجديدة على مجرد مسألة سد النهضة وإنما هى أعمق وأبعد من ذلك، حيث تهدف إلى حماية مصالح الدولة المصرية وتوجهها جنوباً ولاسيما الدفاع عن أمنها المائي وحماية السودان ومصالحها الاقتصادية والثقافية الأخرى. وفي هذا السياق، تسعى الحركة المصرية إلى احتواء النفوذ السلبي لبعض القوى الإقليمية المنافسة مثل تركيا.لقد استطاعت السياسة الخارجية لتركيا اكتساب المزيد من النفوذ في القرن الأفريقي (خاصة في الصومال والسودان). ومن المعروف أن التطورات الاقتصادية والأمنية في القرن الأفريقي أدت إلى زيادة أهمية المنطقة كموقع جيوستراتيجي، مما أدى إلى انتشار القواعد العسكرية الأجنبية، المصحوبة في كثير من الأحيان بمقاربات القوة الناعمة مثل استثمارات الشركات الأجنبية. وقد نظرت مصر إلى الأدوار الجيوسياسية والأمنية التركية الأكثر طموحاً في المنطقة بحذر شديد، حيث أدت المنافسة بين تركيا وقطر من جهة وبعض الدول الأخرى من جهة أخرى إلى تصعيد الخلافات داخل القرن الأفريقي، وهو ما يمكن أن يسهم في زيادة عدم الاستقرار.
ختاماً، لعل المسكوت عنه في شبكة العلاقات والتحالفات المصرية في منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي يتمثل في أمور تتجاوز حدود أزمة سد النهضة لترسم معالم الدور والمكانة لمصر الصاعدة في نطاقها الإقليمي. لقد كانت القضايا الأفريقية في موقع القلب من التفكير الاستراتيجي المصري على مر العصور وإن لم تعبر عنه حركة السياسة الواقعية أحياناً لاعتبارات عديدة.مصر التي قادت ومدت يد العون لحركات التحرر في أفريقيا لم تتخلى عن أشقائها الأفارقة يوماً من الأيام. لقد قامت مصر بإعادة تجربة بناء السد العالي بأسوان من خلال بناء سد مماثل في تنزانيا على نهر روفيجي. وسوف يكون سد جوليوس نيريري ومحطة الطاقة الكهرومائية المرتبطة به أكبر سد في تنزانيا. وعليه إذا كانت حركة إثيوبيا مدفوعة بأساطير الهيمنة والسيطرة التي تعكس فكرة الدولة الإمبراطورية القائمة على التوسع، فإن مصر تستهدف في حركتها إعادة التوازن والاستقرار للإقليم من خلال تعزيز جهود التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني. وفي الوقت الذي أفضت فيه حركة إثيوبيا إلى مزيد من الحروب الأهلية والإقليمية، فإن حركة مصر الواعية تمد أيادي التعمير والبناء بما فيها إقامة السدود وتحقيق التنمية الأفريقية.