ثمة شواهد عديدة توحي بأن إسرائيل كانت لديها الفرصة لمنع تصعيد الأحداث الدموية الحالية في القدس، والتي اتسعت لتشمل مواجهات مماثلة مع حركة حماس في قطاع غزة. ويمكن ترتيب هذه الشواهد على النحو التالي:
1- في 29 أبريل الفائت (2021)، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، تأجيل الانتخابات الفلسطينية التي كانت ستعقد أواخر شهر مايو الحالي بسبب رفض إسرائيل الرد على طلب السلطة الفلسطينية السماح لسكان القدس بالتصويت في الانتخابات.
2- كانت هناك توقعات بحدوث مواجهات تكررت كثيراً في السنوات الماضية خلال شهر رمضان من كل عام على خلفية القيود التي تفرضها إسرائيل على حرية الصلاة في المسجد الأقصى.
3- كان من المعروف أن هناك مناسبات تستخدمها أطراف عدة لتأجيج التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين في القدس. وفي هذا الإطار تحديداً، كانت الذكرى التي يحتفل بها المستوطنون والتي يسمونها (يوم توحيد القدس) والذي يشير إلى اليوم الذي سقطت فيه القدس الشرقية تحت الاحتلال الإسرائيلي في 9 يونيو 1967، ستحل هذا العام - وفقاً للتقويم العبري - في 10 مايو الجاري، وتكون هذه المناسبة فرصة لليمين المتطرف والمستوطنين لاستعراض قوتهم واستفزاز الفلسطينيين.
في المقابل، كانت إيران قد أطلقت عام 1979 ما يسمى بـ"يوم القدس" والذي حددت الاحتفال به في الجمعة الأخيرة من رمضان كل عام. وكان من المعروف مسبقاً أن هذا اليوم سيتوافق مع حلول 7 مايو الجاري، وكانت التقديرات تشير إلى أن إيران ستحاول استغلال هذا اليوم لحث الحركات الفلسطينية التي تدعمها، مثل حماس والجهاد، لجعل المناسبة فرصة للتصعيد والانتقام من إسرائيل التي تحاول عرقلة مفاوضات واشنطن - طهران الهادفة للعودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورفع العقوبات عن إيران، وربما أيضاً كنوع من الرد غير المباشر من جانب إيران على هجمات إسرائيل السيبرانية على المفاعلات النووية الإيرانية والتي تزايدت في السنوات الأخيرة.
وأخيراً، فإن 15 مايو الذي تحتفل فيه إسرائيل بذكرى تأسيسها هو بالنسبة للفلسطينيين يوم النكبة، وبالتالي يكون الاحتفال الإسرائيلي في هذا اليوم سبباً منطقياً لإمكانية وقوع صدامات بين من يحتفلون بذكرى يعتبرونها وطنية وبين من يمثل الاحتفال نفسه لهم ذكرى أليمة وعملاً مثيراً للاستفزاز.
4- كان تحديد موعد 10 مايو الجاري لنظر المحكمة العليا الإسرائيلية في التماس عدد من أصحاب المنازل الفلسطينيين في حى الشيخ جراح الواقع على أطراف القدس، عملاً استفزازياً كون أن السوابق كانت تشير إلى انتصار المحكمة العليا للمستوطنين الذين يزعمون امتلاكهم للأراضي المقام عليها منازل العرب، وبالتالي كانت القرارات المتوقعة من المحكمة أنها ستحكم بطرد العرب من منازلهم وتمكين المتطرفين اليهود منها، وهو ما كان سيعني إمكانية اندلاع المواجهات واتساعها لتشمل القدس كلها وربما تمتد لخارجها (كما حدث بالفعل).
لماذ اقرر ناتانياهو التصعيد؟
وفقاً للنقاط الأربع السابقة، كان بوسع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين ناتانياهو أن يتفادى تدهور الأوضاع في القدس لو أراد، فلماذا اختار ترك الأمور تصل إلى نقطة الانفجار؟.
من المرجح أن حسابات ناتانياهو قد انطلقت من اعتقاد بإمكانية أن يكون التصعيد محدوداً ويمكن احتواءه سريعاً، وخلال ذلك يمكنه الاستفادة على أكثر من صعيد في معركته الداخلية التي تتمحور حول محاولة إخراجه من الساحة السياسية على النحو التالي:
1- إن خصومه في جبهة ما يسمى "كتلة التغيير"- والذين يقودهم يائير لبيد زعيم حزب يش عتيد، وهو المكلف حالياً بمحاولة تشكيل ائتلاف حكومي من أحزاب الوسط واليسار وبعض أحزاب اليمين المعادية لناتانياهو بشكل شخصي- لن يتمكنوا من تشكيل الائتلاف إلا بدعم القائمة العربية الموحدة التي يتزعمها منصور عباس، والأخير بتوجهه الإسلامي كان قد أعلن رفضه الصريح للممارسات الإسرائيلية في القدس، مما يعني أن القمع الذي مارسته الشرطة الإسرائيلية والذي تؤيده كافة الأحزاب الصهيونية بما فيها "كتلة التغيير" المناوئة لناتانياهو سوف يتسبب حتماً في إجبار منصور عباس على الامتناع عن دعم الائتلاف الذي يسعى يائير لبيد لتشكيله مخافة أن يخسر (أى عباس) شعبيته في أوساط عرب إسرائيل. وإذا ما حدث ذلك فسيكون من المستحيل على لبيد أن ينجح في مسعاه.
2- يعتقد ناتانياهو أن تسخين الوضع مع الفلسطينيين سيمنح إسرائيل الفرصة لعرقلة محاولات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إطلاق عملية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين على أساس حل الدولتين الذي ترفضه معظم أحزاب اليمين الإسرائيلي.
3- بناءً على خبرات ناتانياهو السياسية، فإن إثارة مخاوف الشعب الإسرائيلي من تطلعات الفلسطينيين ومن الأوضاع الأمنية عامة، يمكن أن يسهم في دعم موقفه المهتز بسبب المحاكمة التي يتعرض لها حالياً على خلفية اتهامه في قضايا فساد وسوء استغلال للنفوذ، وبالتالي فإن مواجهة دموية محدودة مع الفلسطينيين ستزيد من شعبيته على المستوى العام وفي أوساط مصوتي اليمين على وجه الخصوص.
مكمن الخطأ في حسابات ناتانياهو
كان يمكن لحسابات ناتانياهو القائمة على التصعيد المحدود في القدس أن تنجح لولا سوء تقديره لموقف إيران وحركة حماس وكلاهما كان له مصلحة في إشعال الموقف والمزايدة على قوى إقليمية منافسة لا ترغب في التصعيد وتسعى لتوطيد معسكر الاعتدال. هكذا وجدت حركة حماس الفرصة في تصاعد الاحتجاجات في القدس لكى تبدأ في إطلاق الصواريخ من القطاع منذرة إسرائيل بأن هذه الهجمات ستتزايد ما لم تتراجع عن إجراءتها للتضييق على المقدسيين ومصادرة أراضيهم، ومما لا شك فيه أن قيام حماس والجهاد بإطلاق صواريخهم تجاه القدس لم يكن بعيداً عن التحريض الإيراني. ففي الشهر الماضي، انطلق صاروخ من قاعدة للحرس الثوري الإيراني من داخل سوريا ليسقط بالقرب من المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا. وحينما يتعرض أهم موقع سري في إسرائيل للهجوم - حتى ولو بصورة رمزية - وعندما تتعرض القدس التي تدعي إسرائيل أنها "مدينة موحدة" وأنها "عاصمتها الأبدية".. عندما يتعرض هذان الموقعان بكل ما يحملانه من دلالات رمزية بالنسبة للقوة العسكرية وللمشروعية الدينية والقومية اليهودية والإسرائيلية لهجمات، فإن السيطرة على التصعيد لن تكون متاحة للحكومة الإسرائيلية، بل ستكون مضطرة للمغامرة بتصعيد أشد وطأة. ولكن ليس على الجبهتين معاً: القدس وغزة.
إلى أين تتجه الأحداث مستقبلاً؟
من المرجح أن بنيامين ناتانياهو سيحاول إفساد مخططات حماس وإيران بالعمل على مسارين مختلفين: الأول، محاولة تهدئة عرب القدس. والثاني، توجيه ضربة تأديبية لحماس، أملاً في النهاية بأن يستعيد الهدوء في القدس وأن يجبر حماس تحت الضربات العنيفة على العودة لاتفاقات التهدئة دون أن تحصد أى مكاسب سياسية أو معنوية.
على جبهة القدس ولمحاولة استعادة الهدوء، عمدت السلطات الإسرائيلية إلى تأجيل جلسة المحكمة التي كانت تنظر قضية مصادرة منازل عربية في حى الشيخ جراح، كما حدّت من مسيرات المستوطنين في القدس، وطلبت من عضو الكنيست المتطرف ايتمار بن غشير أن يغادر حى الشيخ جراح، بالإضافة لرفعها عدد من نقاط التفتيش المنتشرة في القدس الشرقية لتسهيل مرور المصلين المسلمين السلميين للمسجد الأقصى، وثمة اعتقاد لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية بأن سكان القدس العرب لا يريدون صدامات واسعة مع الشرطة، لخوفهم من أن تتزايد إجراءات تقييد حركتهم في المدينة، وتشديد السياسات الهادفة لتهويد قطاعها الشرقي المحتل، وربما الخوف مما هو أسوأ وهو أن تستغل إسرائيل تعقد الأوضاع الأمنية للقيام بعمليات طرد جماعي للسكان العرب كما يحلم اليمينيون المتطرفون. ولكى تدلل إسرائيل على أن أطرافاً خارجية هى التي تسعى لتأجيج الأوضاع في القدس، ركزت التقارير الإعلامية الإسرائيلية على شهادات حية لمتظاهرين في القدس أتوا من مناطق عرب 48، وربما ينتمون للحركة الإسلامية وبالتحديد القطاع الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل والذي يسمى أحياناً بالقطاع الشمالي في الحركة الإسلامية. وتعتقد أجهزة الأمن الإسرائيلية أن هذا القطاع له ارتباطات بحماس والجهاد وبالطبع إيران.
على المسار الثاني والخاص بغزة، تتبع إسرائيل سياسة "القبضة الحديدية"، حيث ردت على الصواريخ التي أطلقت تجاه مدنها الجنوبية وقرب القدس بشن غارات عنيفة أسقطت أكثر من 20 ضحية، ولم تكتف بذلك، بل أعلن ناتانياهو بعد جلسة عاجلة مع المجلس الوزاري المصغر الذي يضم عدداً محدوداً من الوزراء والخبراء الأمنيين وقائد الجيش أن "المنظمات الإرهابية في غزة تجاوزت الخط الأحمر مساء يوم القدس وهاجمتنا بالصواريخ في ضواحي القدس.. إسرائيل سترد بقوة كبيرة.. لن نتسامح مع أى هجوم على أراضينا وعاصمتنا ومواطنينا وجنودنا ومن يهاجمنا سيدفع ثمناً باهظاً". كما حذر نتنياهو المواطنين الإسرائيليين وطالبهم بالاستعداد لاستمرار الصراع الحالي لفترة أطول.
وبعدها عاد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي لتأكيد ما قاله ناتانياهو كاشفاً عن بعض الردود التي تجهزها إسرائيل بقوله: "في الأيام القليلة المقبلة، ستشعر حماس بذراع الجيش الإسرائيلي الطويلة. لن يستغرق الأمر بضع دقائق، بل سيستغرق بضعة أيام". وقال أيضاً: "إن الجيش يستعد لمجموعة واسعة من الاحتمالات، بما في ذلك صراع أوسع مع عملية برية، وكذلك عودة عمليات الاغتيال لكبار قادة الفصائل الفلسطينية".
ورغم الجهود التي تبذلها إسرائيل لفصل مسار معالجة التصعيد في القدس عن مسار التعامل مع حماس في قطاع غزة، إلا أنه لا توجد ضمانات حقيقية لنجاح هذا المسعى، وسوف تتضح نتائج السياسة الإسرائيلية تلك في غضون الأسبوع القادم، فإما أن تتراجع حماس ولا ترد بقوة على الغارات الإسرائيلية ضد قواعدها، في الوقت الذي تهدأ الأوضاع تدريجياً في القدس خاصة بعد انتهاء موسم الأعياد الإسلامية، وإما أن تقرر حماس الرد بقوة على إسرائيل، وفي هذه الحالة قد لا تضمن الأولى وقوف عرب القدس معها وبالتالي سوف تكون معركتها مع إسرائيل بمفردها وستكون نتائجها هى نتائج المواجهات السابقة نفسها منذ عام 2009، أى تدخلات أمريكية وأوروبية وإقليمية لاستعادة التهدئة دون أن تحصل حماس على مكاسب حقيقية، أو دون أن تضمن استمرار هذه المكاسب لو حدث وحصلت عليها لفترة طويلة.